على مر القرون، عرفت الحضارة العربية الإسلامية ترابطًا قويًا بين الديني والسياسي، تسبب ذلك الترابط في تدخل المؤسسة السياسية الرسمية الخلافة/ السلطنة في المجال اللاهوتي العمومي في عديد من اللحظات الحرجة. في القرن الثالث الهجري، شهدت العاصمة العباسية بغداد وقائع واحدة من أهم تلك اللحظات على الإطلاق، وذلك عندما اندلع الخلاف بين المعتزلة وأهل الحديث حول المسألة الجدلية المعروفة باسم خلق القرآن.
بينما استفاضت المصادر والمراجع السنية في وصف ظروف المحنة التي لحقت بأهل الحديث بسبب رفضهم القول بخلق القرآن في عهود المأمون والمعتصم والواثق بالله. فإننا على الجانب الآخر، نلحظ غيابًا -شبه كامل- لأبعاد النكبة التي تعرض لها المعتزلة في عهد الخليفة المتوكل على الله. كيف بدأ الخلاف حول مسألة خلق القرآن، وكيف عانى المعتزلة الانتقام في عهد المتوكل، وما هي الأسباب التي تفسر إقدام مؤسسة الخلافة على تغيير اختياراتها العقائدية في تلك الفترة على وجه التحديد؟
في أواسط القرن الثاني الهجري، شهدت الأوساط الفكرية الإسلامية تشكل رأيين متضادين حول صفات الذات الإلهية. اعتمد المعتزلة العقل لفهم أوامر الشرع، ونزهوا الله عن كل شبه، ونفوا جميع الصفات التي وردت بشأنه في القرآن الكريم، فأولوها بعيدًا عن المعاني الحرفية. على الجانب الآخر، أخذ أهل الحديث بالمعاني الحرفية لتلك الأوصاف، ففهموها بشكل مباشر.
في هذا السياق، بدأ الخلاف حول قضية خلق القرآن بالانتشار بين المتكلمين والأصوليين. قال المعتزلة إن: القرآن مخلوق، ورفض أهل الحديث الإقرار بذلك. في سنة 218 هجرية، تعصب الخليفة العباسي المأمون للرأي المعتزلي، واضطهد من قال خلاف ذلك.
عقب وفاة المأمون سار المعتصم بالله والواثق بالله على المنهج ذاته، وعانى كثير من علماء أهل السنة الحبس والضرب والتنكيل والعزل من المناصب حتى مطلع ثلاثينيات القرن الثالث الهجري.
توفي هارون الواثق بالله في سنة 232 هجرية، فخلفه أخوه جعفر المتوكل على الله، وكان وقتها في الـ26 من عمره. بوصول المتوكل إلى الحكم انقلبت علاقة السلطة بكل من المعتزلة وأهل الحديث رأسًا على عقب. يصف اليعقوبي هذا التغيير في كتابه تاريخ اليعقوبي فيقول: «نهى المتوكل الناس عن الكلام في القرآن وأطلق من كان في السجون من أهل البلدان، ومن أخذ في خلافة الواثق، فخلاّهم جميعًا وكساهم، وكتب إلى الآفاق كتبًا ينهى عن المناظرة والجدل..».
بعد فترة قصيرة، اهتم المتوكل برد الاعتبار لعلماء أهل السنة والجماعة. فصالح الإمام أحمد بن حنبل. وأمر بإنزال جثمان أحمد بن نصر الخزاعي ودفنه، وكان -الخزاعي- قد قُتل على يد الواثق بالله لما رفض الإقرار بخلق القرآن. وفي السياق نفسه، أمر المتوكل علماء أهل الحديث بالجلوس في المساجد لتدريس الأحاديث النبوية، ولتعليم منهجهم ونشره بين العامة. كما عيّن الفقيه السني يحيى بن أكثم على رأس المؤسسة القضائية في الدولة.
فيما يخص المعتزلة، كان شوكتهم قد ضعفت إلى حد بعيد في تلك الفترة بسبب وفاة عدد من كبار علمائهم. على سبيل المثال، توفي بشر المريسي في سنة 218هـ، وتوفي ثمامة بن الأشرس في سنة 225هـ، وتوفي إبراهيم النظام في سنة 229هـ، أما أبو الهذيل العلاف فقد وافاه الأجل في سنة 235هـ. استغل المتوكل تلك الظروف لتوجيه ضربته ضد الفكر المعتزلي، فشن حملة اضطهاد عنيفة ضد من بقي من علمائهم الكبار الذين اضطلعوا بأدوار مؤثرة في محنة خلق القرآن.
بدأت حملة الاضطهاد بإتاحة جميع السُبل الممكنة للتشنيع بالمعتزلة والتحقير من شأنهم. يُفهم من كلام الخطيب البغدادي في كتابه «تاريخ بغداد» أن تكفير المعتزلة في عهد المتوكل كان أمرًا اعتياديًا في أوساط العامة. فعندما سُئل الإمام أحمد بن حنبل عمّن يقول إن القرآن مخلوق، أجاب بكل أريحية إنه كافر. الأمر الذي سلب المعتزلة الوجاهة العلمية التي منحتها لهم الدولة العباسية في العقود الثلاثة الأولى من القرن الثالث الهجري.
من جهة أخرى، تفنن المتوكل في الإطاحة بالرموز الباقية للفكر الاعتزالي. وتفنن في تعذيبهم وإهانتهم بشتى الطرق المتاحة. بدأ المتوكل بمحمد بن عبد الملك بن الزيات، وكان وزيرًا سابقًا في البلاط العباسي. يحكي ابن الأثير في كتابه «الكامل في التاريخ» أن المتوكل أمر بسجن ابن الزيات، ثم وضعه في سجن خشبي ضيق لا يكاد يتسع لإنسان، «كان -أي ابن الزيات- يُنخس بمسلة لئلا ينام، ثم تُرك فنام يومًا وليلة، ثم جُعل في تنور... فكان من خشب فيه مسامير من حديد أطرافها إلى داخل التنور، وتمنع من يكون فيه من الحركة، وكان ضيقًا بحيث إن الإنسان كان يمد يديه إلى فوق رأسه ليقدر على دخوله لضيقه، ولا يقدر من يكون فيه يجلس، فبقي أياماً إلى أن مات..». على النهج ذاته، قام المتوكل باضطهاد الفيلسوف الشهير أبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي، الذي اشتهر بموافقته المعتزلة في قولهم بخلق القرآن. وذلك عندما أمر الخليفة بضربه وإهانته ومصادرة كتبه والتشهير به بين العامة.
تسببت تلك الحوادث في إشاعة الخوف والذعر في الأوساط المعتزلية، فهرب على إثرها عدد من علماء المعتزلة. وآثروا أن يتركوا بغداد خوفًا من أن تطولهم يد المتوكل الباطشة. يظهر ذلك في ما نُسب إلى العالم المعتزلي الشهير أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ. الذي لما سمع بما جرى لابن الزيات هرب، ورد على من سأله عن سبب الهروب، «خِفت أن أكون ثاني اثنين إذ هما في التنور»، مشيرًا إلى المصير الدامي لابن الزيات، وذلك بحسب ما يذكر ابن نباتة في كتابه «سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون».
لم يكتف المتوكل بالإطاحة بالمعتزلة البغداديين فحسب، بل امتدت يده لتطال علماء المعتزلة المنتشرين في الأمصار الإسلامية كافة. على سبيل المثال، يحكي شمس الدين الذهبي في كتابه «تاريخ الإسلام» أن المتوكل أرسل إلى نائبه في مصر في سنة 237هـ يأمره بعزل القاضي المعتزلي محمد بن أبي الليث المعتزلي، الذي كان أحد العلماء المؤثرين في محنة خلق القرآن زمن المعتصم بالله. يذكر الذهبي أن المتوكل أمعن في إهانة ابن أبي الليث بشتى الوسائل الممكنة. إذ أمر نائبه بأن يحلق لحية قاضي القضاة.. وأن يضربه، ويطوف به على حمار، ثم زج به في السجن لفترة طويلة. وكان يجبره على الوقوف أمام العامة ويُضرب كل يوم عشرين سوطًا. ويعلق الذهبي -السني- على ذلك الخبر مظهرًا شماتته فيقول: «اللهم لا تؤجره في مصيبته، فإنه كان ظالمًا من رؤوس الجهمية»!
في السنة نفسها، وجه المتوكل ضربته القاضية إلى رأس المعتزلة في زمنه وهو الوزير أحمد بن أبي دؤاد، الذي تزعم القائلين بخلق القرآن في عهد المأمون. كان ابن أبي دؤاد قد أدى دورًا مهمًا في وصول المتوكل إلى الحكم، بعدما أصر على تنصيب المتوكل خلفًا لأخيه الواثق بالله. ورفض أن يسمع لمشورة بعض القادة الذين أرادوا أن يطيحوا بالمتوكل من ولاية العهد، وأن يقدموا ابن الواثق للخلافة. أُصيب ابن أبي دؤاد بالشلل بعد فترة قصيرة من تلك الأحداث. وحفظ له المتوكل جميله، فنصّب محمد بن أحمد بن أبي دؤاد في منصب الوزارة محل أبيه. ولكن مع تعاظم الاضطهاد ضد أتباع المنهج الاعتزالي، عرف المتوكل أن الإطاحة بابن أبي دؤاد قد أضحت ضرورة لا سبيل للتغافل عنها. فقام في سنة 237هـ بمصادرة أموال الوزير المعتزلي المريض وأبنائه، وعزل ابنه محمد من الوزارة. كما أمر بحبس أبنائه وإخوته وذلك بحسب ما يذكر محمد بن جرير الطبري في كتابه "تاريخ الرسل والملوك".
بطبيعة الحال -وكما هو معتاد بخصوص أغلب الحوادث التاريخية المؤثرة- تتعدد الأطروحات المُفسرة لما قام به الخليفة المتوكل على الله من اضطهاد المعتزلة والتنكيل بهم. ويمكن أن نحصر تلك الأطروحات في ثلاث نظريات كبرى رئيسة.
تميل الأطروحة الأولى للتفسير الديني الثيولوجي للتاريخ. وترى أن المتوكل فعل ما فعله بسبب وازع ديني قوي، ونية صادقة في نصرة المُعتقد الحق. في هذا السياق، روجت بعض الروايات لغلبة العاطفة الدينية على المتوكل. ومن ذلك ما ذكره الخطيب البغدادي من أن المتوكل رأى النبي في المنام، وفُسر له هذا بما قام به من إحياء للسنة. المعنى نفسه تكرر في ما أورده أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي في كتابه «المنتظم في تاريخ الأمم والملوك» عندما ذكر أن رجلًا شاهد المتوكل في المنام بعد موته، وأنه -أي الرجل- سأل المتوكل: ما فعل الله بك؟ فرد الخليفة عندها بقوله: «غفر لي بقليل من السنّة أحييته».
اعتمادًا على تلك الأطروحة عُرف المتوكل بلقب ناصر السنة ومميت البدعة. واحتفى به العقل السني الجمعي باعتباره أحد الخلفاء المؤمنين الأتقياء الذين حفظوا بيضة الإسلام، وظهر ذلك في المقولة الشهيرة «الخُلفاء ثلاثة: أبو بكرٍ يوم الرِّدَّة، وعُمر بن عبد العَزيز في ردِّ المظالم من بني أمية، والمُتوكِّل في مَحْوِ البِدع، وإظهار السُّنَّة».
الأطروحة الثانية تميل لتفسير ما وقع باعتباره صراعًا دنيويًا على النفوذ. بحسب هذا الطرح فإن المتوكل ما أقدم على ما أقدم عليه من تنكيل بالمعتزلة إلا لفرض سطوته وسيطرته الكاملة على مفاصل الدولة. استنادًا لذلك الرأي فإن الخليفة الجديد خشي من استئثار الوزراء والقضاة بالحكم. وخاف أن يُحكم هؤلاء -الذين كان أغلبهم من المعتزلة- قبضتهم على السلطة. ولذلك بادر إلى مداهمتهم والقضاء عليهم بمجرد أن سنحت له الفرصة.
وفي محاولة منه للحصول على الشرعية الكاملة، ادعى المتوكل أن ما قام به كان تنفيذًا للشرع، وإعلاءً للدين، وإماتةً للبدعة، وتصويبًا للانحراف الذي وقع في عهود أسلافه الثلاثة. مما يقف في صف هذا الطرح أن المتوكل لم يكتف في حملته بالقضاء على المعتزلة وحدهم. بل بطش كذلك بعدد من مراكز القوى التي خشي خطرها على اختلاف مذاهبها ومعتقداتها. يستوي في ذلك المعتزلي، مع السني، والشيعي، وغير المسلم.
تفسر الأطروحة الثالثة موقف المتوكل استنادًا إلى طبيعة التطور الذي لحق بالبنية السيسيولوجية للمجتمع الإسلامي العباسي عشية العقد الثالث من القرن الثالث الهجري. كان المعتصم قد أكثر من تجنيد الأتراك في الجيش حتى إنه بنى لهم عاصمة جديدة في سامراء. بمرور السنوات تعاظم نفوذ القادة الترك وتدخلوا بشكل مباشر في قرارات الخلافة. في تلك الظروف الحرجة، بحث المتوكل على الله عن فصيل قوي يدعمه ويساعده في صراعه المنتظر ضد فيالق الترك المُدربة. كان العامة هم الفصيل المُختار. لا سيما وقد أثبتوا وجودهم من قبل خلال الحرب التي اندلعت في بدايات القرن الثالث الهجري بين محمد الأمين وعبد الله المأمون.
في هذا السياق، أراد المتوكل التودد إلى العامة. واختار أن يرفع من شأن شيوخ وعلماء أهل الحديث لأنهم الأكثر قدرة على الحشد والتأثير بين الجماهير. تطلب ذلك بالتبعية التضحية برموز المعتزلة الذين لطالما شكلوا طبقة أرستقراطية نخبوية بعيدة عن صفوف عامة الشعب. بحسب تلك الأطروحة فإن خطة المتوكل نجحت إلى حد بعيد. ولكن الأقدار لم تمهله فرصة جني ثمارها، بعدما قُتل بشكل مفاجئ على يد بعض القادة الأتراك في سنة 247ه.