في مدينة دبلن في إيرلندا ستجد عدة تماثيل لأشخاص يبدو عليهم الهزال والمرض. يحملون في أيديهم شيئاً ما، تبدو كأجولة موضوع فيها شيء. إذا سألت أحد مواطني إيرلندا عن مغزى تلك التماثيل، فسيخبرك بحزن أنها تخليد رمزي لمجاعة البطاطس الإيرلندية.
المجاعة التي عانت منها إيرلندا لسنوات امتدت من عام 1845 حتى عام 1852 وقتلت قرابة مليون إيرلندي، وتسببت في نزوح وهجرة أكثر من مليون ونصف المليون فرد. قد تبدو تلك الأرقام مهولة حالياً، لكنها ستصبح مرعبة إذا علمت أن إيرلندا بالكامل في تلك الحقبة كان عدد سكانها 8.5 مليون فرد فقط.
يزداد الوضع قتامة كلما دققت في تفاصيله. فالمليون ونصف المليون الذين نزحوا لم يكن نزوحهم سهلاً. كان نزوحاً جماعياً عبر سفن النقل إلى الدول المجاورة. لكن لأن بريطانيا تخلت عن إيرلندا، فقد كانت تلك الرحلات على نفقة السكان أنفسهم أو بعض الأثرياء الذين رأوا في الأمر فرصة للتخلص من هؤلاء الفقراء. فكانت السفن تكتظ بالناس لمدة خمسة إلى تسعة أسابيع لعبور المحيط الأطلسي.
وفي إحدى رحلات الهروب الجماعي كان مجموع الإيرلنديين على السفن مقارباً لـ100 ألف فرد. توفي منهم في تلك الرحلة وحدها قرابة 17 ألفاً، بسبب الجوع والأمراض الأخرى التي انتشرت بينهم.
تلك الخسارة البشرية المهولة كانت سبباً وراء حرص الحكومات المتعاقبة على تخليد ذكرى تلك المجاعة. لكن السبب الأهم من تلك النصب التذكارية هو تذكير الحكومات أن الأمر كان بالإمكان معالجته، وكان ممكناً منع حدوثها من الأساس أو في أسوأ السيناريوهات، على الأقل، التقليل من آثارها المدمرة.
البداية كانت بوصول سفن قادمة من أمريكا الجنوبية. كانت السفن تحوي في بعض مكوناتها أنواعاً من الفطريات. فانتقلت تلك الفطريات إلى دول الشمال الأوروبي. ومع غزارة الأمطار وسرعة الرياح باتت الظروف مهيأة لتنتشر أنواع مختلفة من تلك الفطريات. كان منها الفطر الزغبي المسبب للعفن. فسيطر ذلك النوع على بطاطس إيرلندا، فأفسد ما يقارب من 35% من محصول العام.
معضلة البطاطس في إيرلندا في تلك الحقبة أنها لم تكن طبقاً جانبياً، بل كانت الطعام الأساسي والوحيد على مائدة مئات الآلاف من الفقراء. كما كانت أيضاً العلف الأساسي للماشية خاصتهم، بالتالي كانت هي المصدر الأساسي لحصولهم على الألبان ومنتجاتها، وعلى اللحوم أيضاً.
فقد عانى الإيرلنديون من الإفقار المتعمد لمصلحة مجموعة من ملاك الأرض المستعمرين. كانوا لا يزورن أراضيهم إلا مرة أو مرتين طوال حياتهم، وبعضهم لا يزور إيرلندا إطلاقاً. وفي المقابل يقوم مجموعة من الوسطاء المحليين بجمع الإيجار وإيراد المحاصيل وتحويلهم للمالك خارج إيرلندا. مما كدّس الأموال خارج البلاد، وراكم الفقر داخلها. ونزع الملكية من يد الفلاحين الموجودين في الأرض طوال حياتهم، لمصلحة مجموعة من الغرباء.
أوكلت الحكومة البريطانية التي كانت تسيطر في تلك الفترة على إيرلندا، مهمة التحقيق إلى لجنة علمية. دور اللجنة كان الكشف عن سر فساد المحصول، وكيفية الاحتياط للعام القادم. لكن اللجنة اكتفت بالقول إن فساد المحصول سينتهي من تلقاء نفسه، ولا داعي للتدخل. ولم تقم اللجنة بتحديد الفطريات أو العفن بوصفه سبباً لفساد المحصول. تحديد السبب كان ممكناً أن يُنهي المجاعة في عامها الأول، ويوفر بذوراً جديدة للعام التالي.
لكن قام الإيرلنديون باستخدام البذور للعام التالي من محصول العام الفاسد. وما زاد الأمر سوءاً أن اللجنة العلمية عزت سبب فساد المحصول إلى أن رطوبة الصيف كانت السبب في التعفن. لهذا أوصت المزارعين بتهوية حبّات البطاطس جيداً، ثم غمرها في مياه المستنقعات قبل زراعتها. ففسد قرابة 90% من محصول العام التالي. ولم يكن أمامهم في العام الثالث سوى كمية قليلة من البطاطس كان من المفترض أن تكون بذوراً للعام الجديد. لكن تحت وطأة الجوع والفقر أكلوها، فلم يعد هناك ما يُزرع.
فسدت محاصيل السنوات اللاحقة، وأصبحت المجاعة واقعاً. لكن رغم ذلك ورغم أن حكومة جديدة قد وصلت للحكم في بريطانيا بقيادة الليبرالي جون راسل، فإن راسل قرر أن يكتفي بتقديم بعض الحساء للفقراء من فترة لأخرى لمنع موتهم من سوء التغذية. وبدلاً من سياسة الورش العامة التي كانت بريطانيا تقوم فيها بتشغيل المحتاجين في مقابل تقديم الدعم لهم، قام راسل بإيواء الفقراء في ملاجئ مكدسة.
من تلك الملاجئ الشهيرة ملجأ فيرموي، بمقاطعة كورك. صُمّم الملجأ لاستقبال 800 فقير فحسب، لكنه في مارس 1947 كان يحتوي على 1800 شخص. والأسوأ أنه كان يضم الأصحاء بجانب المرضى، فتوفي في شهر واحد قرابة 450 فرداً من ساكنيه. وأسهم الجوع الشديد ونقص المناعة في تفشي الأمراض الأخرى التي فتكت بالسكان. مثل الكوليرا، والتيفود، والسل، والحمى القرمزية.
الجانب الآخر من الصورة يكشف عن دور آخر لبريطانيا العظمى يتجاوز مجرد سوء التقدير وعدم تقديم العون. ففي سنوات المجاعة كانت إيرلندا، المحكومة من بريطانيا، مستمرة في تصدير خيراتها مثل الأغنام والأرانب، والزبدة والفاصوليا، والعسل والبازلاء. وغيرها من المنتجات الزراعية والغذائية. فقد آثرت الحكومة البريطانية التضحية بكل هؤلاء الإيرلنديين جوعاً، في مقابل استمرار تدفق الأموال من عمليات التصدير.
كشفت دراسة قامت بها كريستين كينيلي باحثة تاريخية في حقبة المجاعة الإيرلندية، ونشرتها عام 1997 أن قرابة أربعة آلاف سفينة غذاء محملة من إيرلندا وصلت موانئ بريطانية مثل بريستول وجلاسجو وليفربول ولندن خلال عام 1847.
ذلك الضلوع البريطاني في المجاعة سيظل ملاحقاً لها دائماً، حتى بعد تقديم الاعتذار الرسمي عام 1997، على لسان توني بليير رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، لأن الاعتذار كان عن سوء إدارة الأزمة. لكن يرى الإيرلنديون أن الأمر كان قتلاً عمداً، وتصميم مسبق من الحكومة البريطانية على إبادة فقراء إيرلندا.
وسط هذا التواطؤ البريطاني وجد الإيرلنديون يداً تمتد لهم بالمساعدة، كانت يد السلطان العثماني عبدالمجيد الأول إذ أرسلت الدولة العثمانية عديداً من السفن المُحمّلة بالمواد الغذائية. لكن بريطانيا رفضت أن ترسو تلك السفن في ميناء دبلن مباشرة. لذلك رست السفن في ميناء دروهيدا، وأفرغت حمولتها هناك.
تدور في الأوساط غير الرسمية بعض من التفاصيل عن مساعدة السلطان العثماني لإيرلندا، لكنها لم تؤكد. من تلك التفاصيل أن السلطان أراد التبرع بـ10 آلاف جنيه استرليني لصالح إيرلندا، لكن رفض البريطانيون لأن الملكة لم تتبرع سوى بـ2000 جنيه فحسب. فتبرع السلطان بـ1000 حفظاً لموقف الملكة، وأرسل بباقي الأموال مؤناً.
رغم أن تلك التفصيلة تحديداً يدور حولها نقاش أكاديمي وتاريخي كبير، فإن الثابت أن السلطان العثماني ساعد الإيرلنديين في مجاعتهم، ولهذا شكروه بصورة رسمية. فبعد انتهاء المجاعة أرسل نبلاء إيرلندا وعامة الشعب خطاب شكر لعبدالمجيد الأول.
ومما جاء في الخطاب أن الشعب الإيرلندي والنبلاء الموقعون على هذا الخطاب يتقدمون بجزيل الشكر والتقدير لجلالة السلطان عبدالمجيد على كرمه وإحسانه تجاه الشعب الإيرلندي الذي يعاني المجاعة، كما يتقدم بالشكر الجزيل لجلالته على تبرعه السخي بـ1000 جنيه إسترليني لتلبية احتياجات الشعب الإيرلندي والتخفيف من آلامه.
ولا يزال الأمر عالقاً في ذهن الإيرلنديين؛ ففي عام 2006، حيث كانت بلدية دروهيدا تحتفل بالذكرى رقم 800 لتأسيسها، قامت بوضع لافتة شكر ضخمة على المبنى الذي نزل فيه البحّارة العثمانيون الذين أتوا مرافقين للسفن. كما أن نادي كرة القدم الخاص بالبلدية، درويدا يونايتد، المُؤسَس عام 1919، وضع شعار الدولة العثمانية، الهلال والنجمة، في شعاره الرسمي، اعترافاً منه بالدور العثماني في تلك الأزمة.
ستظل تلك المجاعة محفورة في الوجدان الشعبي الإيرلندي. ليس بوصفه تاريخاً فحسب، لكنه بوصفه محركاً أساسياً للعلاقة المتوترة بين بريطانيا وإيرلندا، وبوصفه دافعاً للرغبة الإيرلندية الدائمة بالخروج من السيطرة البريطانية، حتى لو كان سيطرة اسمية، فالإيرلنديون يرون الحكومة البريطانية شريكاً أساسياً في قتل مئات الآلاف من ذويهم.