فلسطين

مترجم: تحرر فلسطين وفشل الثورات العربية

لا يمكن فصل القضية الفلسطينية عن الثورة العربية، كما أن استمرار الاستعمار في فلسطين هو أيضاً أحد نتائج عدم اكتمال الموجات الثورية في العالم العربي.

future صورة تعبيرية: (الربيع العربي والقضية الفلسطينية)

الكاتب: بيير ريب، ترجمة عمرو جمال، عن Revolution Permanente

إن العنف الشديد الذي يصاحب الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والدمار الذي أحدثه الغزو الإسرائيلي لقطاع غزة في أعقاب عملية السابع من أكتوبر، أمر مثير للقلق. في مواجهة ما يبدو وكأنه مأزق لا يمكن الخروج منه نتيجة لـ 75 عاماً من الحرب الخفية أحياناً، والمفتوحة أحياناً أخرى، والامتداد المستمر للنفوذ الاستعماري الإسرائيلي، فمن الضروري اتخاذ خطوة إلى الوراء للتحليل.

لا يمكن فهم الوضع الحالي في فلسطين بدون العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر 2023، لكن لا يمكن أيضاً فصل القضية الفلسطينية عن الثورة العربية، وهذا ما دافع عنه التروتسكيون الفلسطينيون دائماً. فإن استمرار الاستعمار في فلسطين هو أيضاً أحد نتائج عدم اكتمال الموجات الثورية في العالم العربي.

في مواجهة مناورات وإخفاقات القيادة التاريخية للحركة الفلسطينية، التوصل إلى نتيجة دائمة وكاملة لنضال التحرر الفلسطيني والعربي لن يكون ممكناً إلا إذا فرض بروليتاريا فلسطين والشرق الأوسط أساليب عملها وبرنامجها، بالتحالف مع القطاعات المناهضة للاستعمار حتى في إسرائيل وفي بقية العالم. من أجل التفكير في المستقبل، يجب إذن الابتعاد عن الحاضر قليلاً من خلال نظرة نقدية إلى الماضي.

دولة إسرائيل: شذوذ تاريخي

إن دولة إسرائيل كما هي اليوم - وليس فقط الحكومة الائتلافية اليمينية المتطرفة بقيادة بنيامين نتنياهو - تعتبر انحرافاً وشذوذاً تاريخياً، ونشأتها لا تعود إلى محرقة اليهود، على الرغم من أن هذه الإبادة الجماعية التي ارتكبتها الدول الأوروبية، واستمرار معاداة السامية في القارة العجوز بعد الحرب العالمية الثانية، دفعت العديد من الناجين اليهود إلى إنشاء دولة يهودية في فلسطين ومن ثَم الهجرة إلى إسرائيل، بحثاً عن خلاصهم. ومثل الولايات المتحدة أو جنوب أفريقيا، تعتبر دولة إسرائيل مشروعاً استعمارياً. لقد حدث في التاريخ، أن تجد مجموعات أو سكان مضطهدون ملجأً خارج البلد الذي ولِدوا فيه، ويستوطنوا ويدخلوا في صراع مع السكان الأصليين. هذا هو إلى حد ما، حال البيوريتانيين البريطانيين تجاه الساحل الشرقي لما يعرف اليوم بالولايات المتحدة، وهو حال البروتستانيين الفرنسيين الذين، بعد إلغاء مرسوم نانت، ساهموا في استعمار ما أصبح فيما بعد جنوب أفريقيا أو حتى اليهود الأوروبيين الذين استقروا في فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر.

إن المسألة الاستعمارية ما زالت بعيدة كل البعد عن الحل الكامل في الولايات المتحدة، تلك الدولة التي تشكلت على أساس تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، والتي قامت بإبادة جماعية طويلة ضد السكان الأصليين حتى يمتدد إقليماها. والمسألة لم تُحل أيضاً في جنوب أفريقيا، التي تأسست كدولة بعد سلسلة طويلة من الحروب والمذابح. وفي أعقاب حركة الحقوق المدنية والحركة المناهضة للفصل العنصري، أُلغي هذا الأخير في الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا (جنباً إلى جنب مع البانتوستان، في الحالة الأخيرة)، على التوالي خلال الستينيات وفي عام 1991. ومع ذلك، فهي مستمرة في دولة إسرائيل، التي عززت سياستها الاستعمارية وفصلها العنصري خلال العقود الثلاثة الماضية، مع توقيع اتفاقيات أوسلو بين حكومة العمل في ذلك الوقت وياسر عرفات.

هذا الوضع نتيجة لمأزق ووهم حل الدولتين الذي تنتهجه منظمة التحرير الفلسطينية. لكنه في الحقيقة لم يكن حلاً أبداً، وأدى لاحقاً إلى عرقلة حق عودة الفلسطينيين، وغياب ضمان أي قابلية إقليمية لفلسطين للبقاء، ولم ينص على القدس الشرقية عاصمة لها. فعلى العكس من ذلك، عززت تلك الاتفاقية تجزئة فلسطين إلى عدة كيانات بين الضفة الغربية وغزة، نفس القطاع الذي يعتزم نتنياهو اليوم إعادة احتلاله عسكرياً. هذا الوضع هو أيضاً النتيجة لسبب هيكلي أهم، وهو عدم اكتمال العمليات الثورية العربية، التي بدأت في فترة ما بين الحربين العالميتين، واستمرت خلال فترة إنهاء الاستعمار وامتدت في الستينيات والسبعينيات وفي الآونة الأخيرة، خلال الحركة الثورية التي وُصفت بشكل غير صحيح باسم الربيع العربي، التي قُضِي عليها في مهدها بمشاركة نشطة من القوى الإمبريالية، وفي حالة سوريا واليمن، بمشاركة جهات إقليمية فاعلة أخرى تلعب دور رأس حربة الثورة المضادة المسلحة في الشرقين الأدنى والأوسط (تركيا وإيران والمملكة العربية السعودية).

إذا كانت دولة إسرائيل تشبه في بعض الجوانب الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا، فإنها تختلف اختلافاً عميقاً لأنها واجهت حركة مضادة للاستعمار تتجاوز حدود فلسطين، وهي حركة تحرير الشعوب العربية. إن الدول العربية الحالية هي في الواقع نتيجة لسياسة تقسيم الإمبراطورية العثمانية من قبل القوى الإمبريالية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، والتي تعتبر اتفاقيات سايكس بيكو بين فرنسا والمملكة المتحدة حجر أساس مهماً. وفي حالة فلسطين الانتدابية على وجه التحديد، كان المشروع الاستعماري الصهيوني مدعوماً من قبل الإمبريالية البريطانية، التي دعمت سابقاً رغبات العرب في الاستقلال ضد الإمبراطورية العثمانية. فمنذ البداية، سواء أثناء الثورة العربية الكبرى (1936-1939) في فلسطين الانتدابية ضد الاستعمار والهجرة الصهيونية، أو خلال خطة التقسيم التي أصدرتها الأمم المتحدة عام 1947، أو خلال جميع الصراعات الإسرائيلية الفلسطينية-العربية المتعاقبة (1948، 1967، 1973 على وجه الخصوص)، فإن القضية الفلسطينية تتخطى الحدود المحتملة لدولة فلسطين، وتتحول إلى راية للعالم العربي بأكمله، وخاصة بين الطبقات العاملة.

ولا يرجع ذلك إلى مسألة الوحدة الثقافية واللغوية فحسب، بل إلى حقيقة أن القضية الفلسطينية، حتى قبل مواجهتها للصهيونية، هي مثال نموذجي للنضال التحرري المناهض للاستعمار في منطقة تفتت من أجل المصالح الإمبريالية، وأيضاً من أجل مصالح شركات النفط الأنجلو-أمريكية الكبرى.

عدم اكتمال الثورات العربية

كما هو الحال في أفريقيا، تشكل الحدود الناجمة عن السيطرة الاستعمارية على الشرقين الأدنى والأوسط عائقاً أمام توحيد البروليتاريا والجماهير الشعبية في العالم العربي، حيث وجدت نفسها دائماً منقسمة داخل حدود وطنية لم تختَرها ولكنها باقية ومستمرة، وتعتبرها الدول العربية اليوم أوصياء عليها. وبمجرد مرور الاستقلال، حافظت الأنظمة الرجعية التي وضعتها القوى الاستعمارية السابقة (الملكيات الأردنية والعراقية والممالك والإمارات الخليجية) وأيضاً الأحزاب الوطنية البرجوازية الموجودة في السلطة أو التي ستصل لاحقاً إلى السلطة في الدول العربية على الحدود الوطنية التي تقسم البروليتاريا في البلدان العربية، على الرغم من آمال القومية العربية وتجارب التوحيد الفاشلة في عهد عبد الناصر بين عامي 1958 و1961.

في حالة الفلسطينيين على وجه التحديد، كانت الدول العربية، سواء تلك التي تقودها أنظمة محافظة ورجعية أو تلك التي تقودها حكومات تعلن نفسها اشتراكية، تأخذ موقف التضامن الشكلي في أحسن الأحوال، أو تطبق سياسة إجرامية بشكل عام. والأمثلة عديدة، من تقسيم أراضي غزة والضفة الغربية بين الأردن ومصر، إلى السياسة العنصرية والتمييزية تجاه ملايين اللاجئين في الأعوام 1948 و1967 و1973 في الأردن وسوريا ولبنان، والتواطؤ مع القوى الإمبريالية لتضييق أو حتى كسر أي تعبير يساري للحركة الوطنية الفلسطينية، ومذبحة أيلول الأسود التي ارتكبها ملك الأردن عام 1970، ومجازر صبرا وشاتيلا عام 1982 على يد الكتائب اللبنانية المتحالفة مع الجيش الإسرائيلي وسياسة التقسيم والقمع التي تتعرض لها الحركة الفلسطينية من قبل سوريا الأسد.

لقد أكد تروتسكي بإصرار في أطروحته الثانية والثالثة حول الثورة الدائمة أنه: «في البلدان ذات التطور البرجوازي المتخلف، وخاصة البلدان المستعمَرة وشبه المستعمرة، تعني نظرية الثورة الدائمة أن الحل الحقيقي والكامل لمهامهم التحررية الديمقراطية والوطنية لا يمكن أن يكون إلا عن طريق دكتاتورية البروليتاريا، التي تقود الأمة المضطهدة، وقبل كل شيء جماهيرها الفلاحية. إن المسألة الزراعية بل أيضاً المسألة الوطنية، تعطي للفلاحين، الذين يشكلون الأغلبية الساحقة من سكان البلدان المتخلفة، دوراً أساسياً في الثورة الديمقراطية. وبدون تحالف بين البروليتاريا والفلاحين، لا يمكن حل مهام الثورة الديمقراطية، ولا يمكن حتى أن نطرحها بجدية. لكن التحالف بين هاتين الطبقتين لن يتحقق إلا من خلال صراع قوي وعنيف ضد نفوذ البرجوازية الليبرالية الوطنية».

إذا لم يعد لفلاحي اليوم في الدول العربية شديدة التحضر، نفس حجم البارحة، فلا تزال مسألة اتحاد البروليتاريا مع الطبقات الاجتماعية الأخرى التابعة لها، بدءاً بالفقراء والجماهير الفقيرة الضخمة الحضارية، موجودة. ولا تزال مسألة تحديد الحلف الضروري مع قوى البرجوازية الوطنية موجودة، رغم أنها أظهرت عجزها، على مدى القرن الماضي والعقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، عن الدفاع عن مشروع الوحدة ومناهضة الإمبريالية في العالم العربي. ويرجع ذلك جزئياً إلى أن حركات إنهاء الاستعمار في العالم العربي - التي كانت مع ذلك تتمتع بقاعدة شعبية حقيقية - اختُطفت من برجوازيات وطنية فاسدة جديدة، مصابة بهوس السرقة[1]، جعلت الدول العربية لا تزال في حالة من التبعية وتحت سيطرة أنظمة استبدادية، يلعب فيها الجيش وقوات الأمن دوراً مهماً للغاية، وفي كثير من الأحيان بدعم من القوى الاستعمارية السابقة، تحت غطاء التعاون العسكري الفرنسي في المغرب وتونس والجزائر، أو الأمريكي في مصر.

وعلى نطاق أوسع، تظل القضية الفلسطينية، التي تقع في قلب عملية تجزئة الفضاء العربي ما بعد الحكم العثماني إلى عدد كبير من الدول المستقلة العميلة/الخاضعة لخدمة المصالح الإمبريالية بشكل أفضل، مرتبطة بشكل لا ينفصم بعدم اكتمال الثورات العربية. إن الشعب الفلسطيني هو نتاج الاستعمار، كما هو الحال مع الشعب الأردني والسوري والعراقي واللبناني[2]. ولكن إذا ظلوا معتمدين اقتصادياً إلى حد ما على شبه المستعمرات، فإن جميع الشعوب العربية باستثناء الفلسطينيين، قد عرفوا استقلالاً رسمياً. هذا حدث بين إنهاء الاستعمار مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تسمى أيضاً بالموجة الثورية الثانية بعد نهاية الثلاثينيات، وبين نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي بالنسبة لآخر الجيوب الاستعمارية البريطانية في شبه الجزيرة العربية.

بالمعنى الدقيق للكلمة، لا يزال الوضع الاستعماري قائماً في فلسطين فقط. ولهذا يعتبر حالة شاذة، ويشرح إلى حد كبير الدعم المستمر الذي تستفيد منه إسرائيل من القوى الغربية، ولكن يشرح أيضاً استمرار الوضع شبه الاستعماري في بقية العالم العربي. هذا هو السبب وراء الاهتمام بالقضية الفلسطينية خلال جميع العمليات الثورية في النصف الثاني من القرن العشرين، ومؤخراً في عام 2011، ويتزامن هذا الاهتمام مع جميع محاولات النضال ضد الأنظمة الرجعية أو السلطوية العربية.

لو كانت الموجة الثورية في الفترة 2010-2011 قد نجحت، لكانت أعادت تشكيل الشرق الأوسط ووجدت حلاً للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. إن غياب التنظيم الثوري الجماهيري والتدخل الإمبريالي قد سهَّل إلى حد كبير انتصار الثورة المضادة التي اتخذت أشكالاً مختلفة، وفي ذلك عودة الحكم كما كان أو الحرب الأهلية في سوريا واليمن وليبيا.

فشل حل الدولتين وصعود الجماعات الإسلامية وهجوم 7 أكتوبر 

لا تشكل منطقة غزة والضفة الغربية دولة حقيقية، وهي منذ سنوات في وضع لا يطاق، سواء اجتماعياً أو اقتصادياً، وأبسط الحقوق الإنسانية لا تُحترم. فسكانها رهائن لنظام الفصل العنصري الإسرائيلي الاستعماري، الذي يحظى بدعم القوى الغربية أحياناً علناً وأحياناً سراً، على الرغم من القرارات التي لا نهاية لها وغير الفعالة التي يتخذها مجلس الأمن.

اكتسبت المنظمات الإسلامية مثل حماس والجهاد الإسلامي قاعدة شعبية حقيقية في غزة بعد استسلام منظمة التحرير الفلسطينية في اتفاقيات أوسلو عام 1993، وفشل حل الدولتين، وتفاقم الاستعمار الإسرائيلي الذي أدانته الأمم المتحدة وفي ذلك مجلس الأمن الدولي. يمكن تفسير نمو الحركات الإسلامية الفلسطينية منذ التسعينيات بسبب فشل القيادة الوطنية التاريخية للحركة الفلسطينية التي اقترحت قومية متعنتة، ولكن أيضاً وجزئياً بسبب أن الحركات الإسلامية تقترح مشروعاً سياسياً يتجاوز الإطار الوطني الصارم ليشمل العالم الإسلامي بأكمله، في حين تخلت القيادات السياسية القومية التاريخية عن القضية العربية الكبرى، إما لأنها اختفت، أو بسبب تحولها إلى كليبتوقراطية نيوليبرالية، أو بسبب خضوعها عموماً للقوى الإمبريالية. نرى إذن أن القيادات الإسلامية، في فلسطين كما في أماكن أخرى من العالم العربي الإسلامي، ملأت فراغاً سياسياً، وانضم إليها شرائح معينة من الطبقات الشعبية؛ لأنها اعتبرت الحركات الإسلامية استمراراً لطموحٍ جسدُه في السابق القوميون أو اليسار العربي.

تاريخياً، تأسست حماس في الثمانينيات تحت قيادة جماعة الإخوان المسلمين، وكان يُنظر إليها في البداية على أنها حركة سلمية تماماً، تدعو إلى إعادة أسلمة المجتمع الفلسطيني بشكل صارم - وعلى هذا النحو دعمتها ومولتها إسرائيل لسنوات عديدة - ولم تتأسس حماس وجناحها العسكري فعلياً إلا خلال الانتفاضة الأولى عام 1988، كغيرها من التنظيمات الفلسطينية.

وبدأت حماس تستفيد من تراجعات منظمة التحرير الفلسطينية وفتح، وظهرت الحركة الخضراء كمدافعة عن خط سياسي راديكالي، حيث تكاثرت العمليات الانتحارية في النصف الثاني من التسعينيات، واعتمدت على الشعور بالفشل الناجم عن اتفاقيات أوسلو وإخضاع السلطة الفلسطينية، في آخر المطاف، للأجندة الصهيونية. لهذه الأسباب، عززت حماس نفسها وخاصة في معقلها في غزة، حتى فازت في الانتخابات المحلية في عام 2006. ومنذ ذلك الحين، وأحياناً بشكل متناقض، ضغطت حماس على داعميها الإقليميين (أولاً وقبل كل شيء إيران وقطر)، إما لرفع مستوى المواجهة مع إسرائيل، أو لتخفيف التوتر مع الكيان المحتل، بهدف الاعتراف بالحركة الخضراء كممثل سياسي للدولة الصغيرة في قطاع غزة، ولتحل محل حركة فتح داخل السلطة الفلسطينية. تعتبر حماس حكومة رأسمالية بالكامل في غزة، تشارك في إدارة المساعدات الدولية والأممية والعربية، وتنظم بقاء السكان، ولكنها أيضاً حركة مقاومة ترفض بشكل مطلق أي تنازلات في المسألة الوطنية، على عكس السطلة الفلسطينية وفتح التي لا تعرف إلا التنازلات والانتكاسات. لكن تواجه حماس وضعاً أكثر تعقيداً في السنوات الأخيرة، وفي ذلك ما يتعلق بشباب غزة والضفة الغربية، الذي أصبح من الصعب الإشراف عليهم بعد فشل مسيرات العودة في ربيع عام 2018.

وفي مواجهة تصلب النفوذ الاستعماري الإسرائيلي، قررت أجهزة حماس العسكرية شن هجوم غير مسبوق في 7 أكتوبر، حيث مزجت بين الأهداف العسكرية، من وجهة نظر ما يشكل مقاومة تاريخياً للمحتل، وبين أهداف ليست عسكرية على الإطلاق. ومهما قالت الدعاية الإسرائيلية التي ينقلها الغرب، وباريس في المقدمة، عن الأساليب والإجراءات التي استخدمت خلال هجوم 7 أكتوبر، فمقارنتها بهجمات 11 سبتمبر أو هجمات 15 نوفمبر 2015 في باريس محض هراء.

إن حماس وداعش والقاعدة منظمات مختلفة بشكل أساسي، على الرغم من أن الثلاثة إسلاميون. فليس لدى القاعدة وداعش قاعدة شعبية، على الرغم من أن غياب الانتخابات وأي إطار ديمقراطي بسبب السياق الاستعماري يمنعنا من قياس درجة الدعم الدقيق لحماس في غزة وأماكن أخرى في المناطق المحتلة. أيضاً، لا ترتكز داعش والقاعدة على أي حقائق وطنية محددة، رغم أن داعش أرادت أن تكون صوت العرب السنة في العراق وسوريا في إطار سياسة الحرب الأهلية الدينية والطائفية ضد أي منطق قومي لتوحيد الوطن والأمة المضطهدة ضد المحتل ومنافذه المحلية. على العكس من ذلك، المشروع السياسي لحماس هو جزء من حركة تحرر وطني في مواجهة الوضع الاستعماري المستمر. إذا فشلت منظمة التحرير الفلسطينية كقيادة تاريخية للحركة الوطنية الفلسطينية، فإن هجوم 7 أكتوبر وتداعياته يكشفان أيضاً عن الأهداف السياسية لحماس وتناقضاتها ومآزقها.

فالحركة الخضراء، أو على الأقل فرعها العسكري، الذي فاجأ من يعتقدون في عام 2017 في إمكانية قيام دولة فلسطينية داخل حدود عام 1967، صممت هذه العملية بهدف إظهار قدرتها الهجومية، بعد 50 عاماً من حرب عام 1973، وقدرتها على وضع مجمع صناعي عسكري طاغٍ في أزمة حقيقية، رغم أنه مدعوم من الولايات المتحدة بشكل صعب تخيله.

لقد فاجأت عملية 7 أكتوبر الدولة الإسرائيلية، وأحبطت أنظمتها الدفاعية المتطورة للغاية، وذكرت الإسرائيليين أن لا أمان لهم في سياق وضع استعماري. إلا أن تلك الضربة لم تغير أو تعدل بأي حال من الأحوال الوضع الاستراتيجي لحركة التحرر الوطني الفلسطيني، وبالتالي فهي إلى حد ما، اعتراف بالعجز. وعلى الرغم من الاستعدادات العسكرية الطويلة، فإن حماس لا تملك خطة سياسية حقيقية للهروب من الوضع الراهن ومن الحلقة المفرغة التي وقعت فيها منذ عام 2008 على الأقل. ففي السنوات الأخيرة، ومع تعميق الاستعمار الإسرائيلي واستمرار نظام الفصل العنصري بقمعه وإهاناته، كانت ترد حماس بشكل دوري بإطلاق الصواريخ، وكان يرد عليها الجيش الإسرائيلي بقصف مكثف على غزة. إن حماس اليوم عالقة في دوامة تحاول الهروب منها عبر طريق مختصر حربي وجهادي بحت، وهو في حد ذاته نتيجة إخفاقاتها على المستوى الدبلوماسي والسياسي. إذا كان السابع من أكتوبر عملية أكثر تعقيداً بكثير من هجوم انتحاري، فإنه ظل مع ذلك مغامرة عسكرية، وفشلاً على المستوى العسكري[3] والسياسي، يكشف ضمناً عن وضع سيئ للغاية وحزب بلا حل.

إن الأعمال المسلحة التي تقوم بها حماس، بمعزل عن أي حركة ثورية للجماهير في غزة والضفة الغربية المحتلة ودولة إسرائيل والعالم العربي والشتات، لها فرصة ضئيلة لتحقيق تقدم نوعي في القضية الفلسطينية. وبسبب أن حماس لا تعتمد على البروليتاريا العربية في إسرائيل والمنطقة، ولأنها تستبعد قطاعات دولة إسرائيل التي يمكن أن تعارض الاستعمار، ولأنها لا تحمل برنامجاً اجتماعياً وديمقراطياً حقيقياً، ولأنها فقط تعتمد على الكفاح المسلح والخطاب الجهادي والبحث عن الدعم من دول أخرى في الشرق الأوسط معادية للثورة بشدة مثل تركيا أو إيران، ولأنها حركة وطنية إسلامية راديكالية برجوازية صغيرة، فإنها غير قادرة على حل، بل تأخر إيجاد حل لمهام التحرر الاجتماعي والديمقراطي والوطني التي تواجه الفلسطينيين. إن وجود قيادة سياسية أخرى، بديلة عن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية المستغِلة والكلبتوقراطية، وعن قيادة حماس، وقادرة على الاعتماد على الجماهير البروليتارية العربية والإقليمية وعلى استخدام أساليب الحركة العمالية، هو أمر ضروري أكثر من أي وقت مضى[4].

الحشد الجماهيري والأفق الثوري

إذا كانت القضية الفلسطينية اليوم في طريق مسدود، فإن استئناف العمليات الثورية العربية المتوقفة يمكن أن يغير الوضع، على عكس تدخل الدول المجاورة المعادية للثورة بشكل علني، والتي لا تريد أن تنخرط فيما تعتبره المستنقع الإسرائيلي الفلسطيني، وتخاف أكثر من أي شيء آخر الاضطرار إلى مواجهة الولايات المتحدة التي نشرت سفناً حربية قبالة سواحل إسرائيل لتكون مستعدة لمساعدة أهم حليف لها في المنطقة.

إن القصف الإسرائيلي لقطاع غزة، والتهجير القسري للسكان، والعملية البرية الجارية، وما يسميه المسئول الكبير في الأمم المتحدة كريج مخيبر والعديد من الخبراء بالإبادة الجماعية، أثار احتجاجات حاشدة في مختلف أنحاء العالم، والتي تعتبر أملاً حقيقياً للفلسطينيين. تلك المظاهرات التضامنية مع القضية الفلسطينية أضخم من تلك التي شهدناها في السنوات الأخيرة. نحن نشهد بلا شك أهم حركة مناهضة للحرب منذ غزو العراق عام 2003. نقلت مثلاً وسائل إعلام عديدة الاثنين مليون متظاهر في جاكرتا، وتذكر قناة I24 News الإسرائيلية عن مليون مشارك في احتجاجات 28 أكتوبر في إسطنبول. وتحدثت الصحافة أيضاً عن المظاهرات الضخمة جداً في المغرب وما بين 300 ألف و800 ألف متظاهر في 11 نوفمبر في لندن. وفي عمان، كانت المظاهرات ضخمة ومتكررة أيضاً. وحتى في مصر، حيث يُحظر التظاهر، جرت تجمعات احتجاجية.

لا يزال هذا الحشد الجماهيري بعيداً جداً عن أي منظور ثوري بالمعنى الدقيق للكلمة، ومن المؤكد أن فشل موجة 2011 أثار شكوكاً كبيرة حول قدرة الثورات على حل قضايا التحرر الديمقراطي والاجتماعي والوطني. ومن الصعب أيضاً معرفة الحالة الذهنية لسكان الشرق الأوسط اليوم، لأنه في العديد من بلدان هذه المنطقة، لا توجد أبحاث كثيرة، لأسباب أمنية أو غيرها. ومع ذلك، فمن المؤكد أن هناك سخطاً منتشراً على نطاق واسع في البلدان العربية، بسبب التضخم والأنظمة الاستبدادية وبسبب وجود الدول الإمبريالية في المنطقة. وحتى لو بدت الثورة العمالية بعيدة أو حتى غير واردة بسبب انتصار الثورة المضادة العسكرية-الأمنية في المنطقة، فإنها تظل في نهاية المطاف السبيل الوحيد لشعوب العالم العربي والشرق الأوسط بشكل عام للخروج من الدورة الجهنمية التي يظلون محاصرين فيها منذ سنوات عديدة، وتظل أيضاً الأفق لأي مشروع تحرري. لذلك، يجب ألا نفكر في الحشد الجماهيري ضد الحرب، ونضال التحرير الوطني الفلسطيني، والثورة البروليتارية كأشياء منفصلة. بل على العكس من ذلك، يمكن، بل يجب، أن تلك القضايا يدعم بعضها البعض.

إن البروليتاريا في العالم العربي وفي الشتات، بالتحالف مع جميع القطاعات المستعدة لدعمها على المستوى الدولي، يمكنها أن تتوصل إلى حل، وعليها أن تقود القضية العربية برمتها. إن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو نتيجة لعدم اكتمال الثورات العربية وغياب القيادة الثورية العالمية للحركة العمالية. تحتاج جماهير العالم العربي، أكثر من أي وقت مضى، إلى منظمات سياسية عمالية قادرة على الدفاع عن برنامج اجتماعي وديمقراطي ثوري، من أجل جميع الشعوب العربية التي قسمتها الحدود الاستعمارية، وكذلك من أجل الشعب الفلسطيني المحاصر الذي يتطلع إلى الخروج من الجحيم الذي يعيش فيه. هناك حل للصراع الحالي، وهو إقامة دولة علمانية في فلسطين حيث يستطيع اليهود والعرب أن يعيشوا في سلام أياً كانت عقيدتهم، في إطار اتحاد اشتراكي في الشرق الأوسط.

# فلسطين # إسرائيل # حرب غزة # طوفان الأقصى # الربيع العربي

[1] Kleptocraty، أو كما يقول الكاتب جمال صدقي: حكم اللصوص من أجل اللصوص (المترجم).
[2] لا يتفق المترجم مع هذا الطرح.
[3] لا يتفق المترجم مع هذا الطرح. لا يمكن اعتبار هجوم 7 أكتوبر فشلاً عسكرياً، لأن الهجوم في ذاته والصمود أمام العدو الصهيوني، في عصر التكنولوجيا، وخصوصاً في ظروف حصار صعبة، يعتبر درساً تاريخياً لأي مجموعة سياسية تفكر في المقاومة المسلحة.
[4] بعض الحركات اليسارية تستخدم فقط كلمات فارغة مثل البروليتاريا، الثورة، بدون فهمها. فهي أصبحت مفاهيم فلسفية بعيدة عن الواقع. وهذا لا يعني عدم وجود البروليتاريا أو أن الثورة العمالية الاشتراكية ليست ذات أهمية حقيقية لحل مشاكل المجتمع. ومع ذلك، لا يشرح المؤلف سبب عدم تطور حركة شيوعية عمالية حقيقية (غير قومية) بقوة في فلسطين، ولا يشرح كيفية إنشاء المنظمات الشيوعية الفلسطينية في القرن الحادي والعشرين. فلا يكفي إضافة كلمات فارغة، بل يجب تطبيق علم الاجتماع، وهو ما لم يفعله المؤلف في هذا المقال.
«معركة خلدة»: عن الهزائم التي تلد انتصارات
تل أبيب: قصة الحي الشعبي الذي أصبح قلب إسرائيل
الشابات: كيف نفهم حياة الحريديم في الأراضي المحتلة؟

فلسطين