«الدبابة التي تخرج من رفح تعرف كيف تصل إلى نهر الليطاني».
تصريح قاله وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت خلال مؤتمر عقده في غلاف غزة؛ إذ يتردد اسم نهر الليطاني كثيراً في خطابات الساسة الإسرائيليين، في جُمل تتعدد صياغاتها، لكن فحواها واحد، إبعاد حزب الله اللبناني إلى ما وراء نهر الليطاني، وخلق منطقة ردع آمنة في المنطقة قبل النهر. فالهدف المعلن دائماً هو خلق منطقة عازلة بين حزب الله وإسرائيل، كي تحمي تلك المنطقة إسرائيل من صواريخ حزب الله.
لكن إذا استعرنا مقولة الرئيس الصيني شي جين بينج التي يقول فيها، إذا أردت أن تحكم بلداً، فتحكم في مياهه أولاً. يمكننا عبر هذه المقولة إدراك أن إسرائيل قد يكون لها أهداف من الحديث عن نهر الليطاني أكبر من مجرد خلق منطقة عازلة عسكرياً. خصوصاً أن الليطاني هو أكبر أنهار لبنان، وأطولها أيضاً بـ170 كيلومتراً. ويعد اللبنانيون ولجان الأمم المتحدة -كاللجنة التي شُكلت عام 1949- المفتاح لمستقبل لبنان. ويطمح الخبراء الاقتصاديون إلى أن تصل لبنان إلى مرحلة من التطور في مجالات مختلفة بفضل هذا النهر، حتى يُمكن أن يُقال إن لبنان هبة الليطاني، كما قيل إن مصر هبة النيل.
ينبع الليطاني من بعلبك غرباً في سهل البقاع، ويصب في البحر الأبيض المتوسط، في شمال مدينة صور. وقد شهد عدداً من عمليات التطوير للاستفادة منه في الزراعة، وفي عمليات توليد الكهرباء. لكن هذا التطوير تجمّد بسبب الحرب الأهلية في السبعينيات، ثم بسبب الاحتلال الإسرائيلي الذي امتد في الثمانينيات حتى التسعينيات.
لم يكن الاحتلال الإسرائيلي هادفاً إلى تخريب المياه اللبنانية، بل إلى سرقتها لصالحه؛ ففي كل عملية عسكرية تخوضها إسرائيل في لبنان، يبرز الحديث عن نهر الليطاني. حتى ظهر الأمر بوضوح في حرب عام 2006؛ حيث طلبت إسرائيل بشكل مباشر من سكان المناطق الجنوبية في لبنان مغادرة منازلهم إلى ما وراء سهل الليطاني، بحجة أن تلك المنطقة مخصصة للعمليات العسكرية.
كي نفهم الأهمية الاستراتيجية لنهر الليطاني ومياهه، يجب أن ندرك أن إسرائيل تعاني شحاً من مصادر المياه العذبة. فالمستوطنات الإسرائيلية في الشمال تعتمد في السنوات الأخيرة على بحيرة طبرية في سد غالبية احتياجاتها من المياه العذبة. لكنها خلال السنوات الأولى من الألفية الثانية كانت تحصل على احتياجاتها من مياه نهر الليطاني ومياه نهر الوزاني. لكن مع النمو الاقتصادي الإسرائيلي، والرغبة في توسيع رقعة الزراعة، وتأمين المخزون الكافي من المياه لسد فجوة المياه التي بلغت قرابة مليار متر مكعب في العقدين الماضيين، يظهر نهر الليطاني بوصفه حلاً سحرياً لهذه المعضلة.
بجانب المنطقة الآمنة التي سيوفرها لإسرائيل، سوف يوفر نهر الليطاني لإسرائيل أماناً مائياً ضخماً. وهذه الرغبة ليست جديدة على العقلية الإسرائيلية. بل يمكن القول بوضوح إنها أقدم من عمر نشأة إسرائيل فقد كانت رفيقة الفكرة الصهيونية منذ كانت طموحاً في عقل حاييم وايزمان، الذي كتب لرئيس الوزراء البريطاني ديفيد لويد، يحدثه عن فكرة الوطن القومي لليهود في فلسطين.
يقول وايزمان في خطابه أنه يرى أن من الضروري أن تشمل الحدود الشمالية لفلسطين/ إسرائيل سهل الليطاني لمسافة 25 ميلاً، مضافاً إليها المنحدرات الغربية والجنوبية لجبل الشيخ. وبرر وايزمان ذلك الطلب بحاجة المناطق الشمالية للمياه من أجل الزراعة والصناعة والطاقة.
لم يظل الأمر حبراً على ورق، بل امتد ليصبح فعلاً عسكرياً مباشراً؛ ففي القمة العربية التي عُقدت في القاهرة عام 1964، صدر قرار من القمة العربية يدفع بضرورة التصدي لإسرائيل في محاولاتها لسحب مياه نهر الأردن إلى صحراء النقب. الآلية التي وضعها القرار كانت أن تقوم الدول المنوطة بالأمر، سوريا ولبنان والأردن، بالسيطرة على روافد نهر الأردن، وتحويلها جميعاً. على أن تتم عملية التحويل تحت حماية عربية كاملة، تشارك فيها كافة الدول العربية.
في العام التالي مباشرة 1965، قامت جولدا مائير بإصدار أوامرها بتدمير هذه المشروع، خاصة الآليات والمناطق التي تعمل على تحويل مجرى مياه نهر الوزاني ونهر الحاصباني. وقفت جولدا مائير لتحتفل بإنجازها قائلة إن المياه بالنسبة لإسرائيل بمثابة الدم في العروق لا مفاوضات في حال المساس بها.
ظلت تلك الكلمات بمثابة القاعدة في العقيدة العسكرية والسياسية الإسرائيلية. حتى عندما اجتاحت إسرائيل لبنان عام 1978، كان من أول التحركات العسكرية هو السيطرة على نهر الوزاني؛ فأقامت عليه مضخات ضخمة لنقل المياه إلى شمال إسرائيل. قامت دولة الاحتلال بتلك التحركات وعينها على نهر الليطاني، لكن ما منعها هو الصعوبات اللوجستية فحسب.
لأن مناطق النهر القريبة من الحدود الإسرائيلية، مثل المكان الذي يغير فيه النهر اتجاهه في منطقة النبطية، والذي يبعد 4 كيلومترات فقط عن الحدود الإسرائيلية، ويمكن نظرياً تحويلها لتصب في مناطق تختارها إسرائيل، هي مناطق ضحلة، فيها كمية مياه ضئيلة لن تفيد إسرائيل، ولا تستحق المجازفة أو الثمن السياسي والبشري الذي سيُدفع فيها. فالجانب الإسرائيلي ينظر إلى ما هو أبعد وأعلى، أعالي النهر تماماً؛ حيث بحيرة القرعون التي يوجد فيها سنوياً ما قرابته 700 مليون متر مكعب من المياه.
ظلت تلك النقطة تشغل العقل الإسرائيلي حتى حدث الاجتياح الجديد للبنان، اجتياح عام 1982. فقد توجهت فرقة إسرائيلية إلى بحيرة القرعون، وسيطرت على كافة الوثائق والمعلومات المتعلقة بها، وأرسلتها مباشرة إلى إسرائيل.
خرجت إسرائيل من لبنان، لكن لم تخرج فكرة المياه من رأسها. ففي عام 2002 نجد أرئيل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، يهدد بوضوح أنه سيقود حرباً على لبنان. السبب كان مشروع لبناني هدفه سحب مياه نهر الوزاني إلى بلدات مُحررة في جنوب لبنان. وكذلك صرّح شمعون بيريز، وزير الخارجية آنذاك، قائلاً، إن تحويل مسار المياه عمل استفزازي لا يمكن قبوله.
يبدو أن ملف الخلافات الحدودية بين إسرائيل ولبنان سيظل مفتوحاً، حتى تصل إسرائيل في مرحلة ما إلى فرض وجودها، أو ميليشيا تابعة لها، على حدود الليطاني. ففي عام 1978، بعد أن قامت إسرائيل باجتياحها المعروف باسم عملية الليطاني الذي احتلت فيه ما يزيد على 10% من مساحة لبنان ككل، ووصلت إلى جنوب نهر الليطاني، انسحبت بعدها، لكنها سلّمت حزاماً أمنياً قرابة 10 كيلومترات إلى ميليشيا سعد حداد، ذات الولاء الإسرائيلي.
كذلك انتهى اجتياح بيروت عام 1982، باحتفاظ إسرائيل بشريط حدودي مساحته 850 كيلومتراً، تحكمه ميليشيا جيش لبنان الجنوبي التابعة لها كذلك. ولم تترك إسرائيل تلك المساحات إلا في عام 2000، حين أتى الترسيم الحدودي، ووضع الخط الأزرق. ثم قامت حرب عام 2006، حينها تبنى مجلس الأمن الدولي قرارا بوقف الأعمال القتالية، وأن تكون المنطقة ما بين الخط الأزرق ونهر الليطاني خالية تماماً من أي قوات عسكرية باستثناء قوات الأمم المتحدة.
لكن لم تنجح أي من تلك القرارات أو القوات الدولية في منع الحرب التي نراها حالياً بين حزب الله وإسرائيل. حتى الجيش اللبناني لم يستطع، بطبيعة الحال، أن يُحكِم سيطرته على الجنوب اللبناني. ولم يعد ممكناً أن يقبل حزب الله بوجود أي قوات دولية في المنطقة التي يسيطر عليها، أو أن تتحكم قوى خارجية في قراره حول استخدام ترسانته من الأسلحة.
لهذا فالانسحاب إلى ما وراء الليطاني، وترك المنطقة مستباحة لإسرائيل، أو على الأقل تركها خاوية من الجميع، أمر مستبعد، لن يقبل به حزب الله بالطرق الدبلوماسية، ولا يبدو أن إسرائيل في وضع قتالي وسياسي، ولا تمتلك حالياً حصانتها الدولية المعتادة، التي تمكنها من إبعاد حزب الله عن حدودها عسكرياً.
لكن بمدّ خط التاريخ على استقامته، ووضع الأمن المائي الإسرائيلي في المعادلة، فإن المطمع في نهر الليطاني سيظل قائماً. وقد تنشب حوله معارك مستقبليه، تحاول فيها إسرائيل السيطرة الكاملة عليه، أو تحويل ما تستطيع من مجراه لتأمين احتياجاتها أو تقليل الفجوة التي تؤرقها من المياه العذبة.