فن

ما الذي يخبرنا به «الغرف الحمراء» عن السفاحين ومهاويسهم؟

أحد أفلام الإثارة والتشويق القليلة التي تتناول جريمة لقاتل متسلسل، ولكن ليس من منظور القاتل أو المحقق، بل من منظور الجمهور المحب المتعاطف مع السفاح.

future ملصق فيلم «الغرف الحمراء»

واقع أصبحنا نعيشه

يمتلك فيلم «Red Rooms» للمخرج الكندي باسكال بلانت عدة مقومات تجعلنا نهتم به، على الرغم أنه مر تحت الرادار ولم يلفت انتباه كثيرين، فإنه يشتبك مع واقع بتنا نعرفه الآن، ولم يعد مجرد حكايات تأتينا من العالم الغربي، فالقصة المعروفة إعلامياً بـ«طفل شبرا الخيمة» وثيقة الصلة بالفيلم، الذي يحكي عن سفاح يدعى لودوفيك شوفالييه، يقتل الفتيات أمام الكاميرا، بغرض بيع الفيديوهات بأسعار طائلة على الإنترنت المظلم.

مفهوم «الغرف الحمراء» مرتبط ارتباطاً شرطياً بالإنترنت المظلم (Dark Web)، ويشير إلى مواقع إلكترونية توفر بثاً مباشراً لأحداث عنيفة أو إجرامية، مثل التعذيب أو القتل، ويمكن لجمهور تلك المواقع التفاعل والمشاركة في تحديد مصير الضحايا، وعلى الرغم من شهرة الغرف، لا يوجد دليل قاطع على وجودها بشكل فعلي، وذلك لأسباب تقنية في المقام الأول، فالولوج إلى الإنترنت المظلم يجعل من سرعة التصفح بطيئة للغاية، بما لا يسمح ببث مباشر، ولكن الفيلم يتخيل درامياً من خلال أحد المشاهد أن تلك العقبة أصبحت محلولة، وأن تلك المواقع موجودة بالفعل.

صورة توضح الفرق بين الإنترنت العادي والعميق والمظلم

وسواء كانت تبث على الهواء، أو تسجل للبيع في مزادات تستخدم عملة «بيتكوين»، فتلك تفصيلة هامشية، الأهم هنا هو أن عملية بيع تلك المقاطع الوحشية مقابل مبالغ طائلة هو أمر حقيقي، تماماً كما يستخدم الإنترنت المظلم في كل أنواع التجارة الممنوعة قانوناً مثل السلاح والمخدرات.

ما يميز الفيلم أنه أحد الأفلام القليلة التي تتناول جريمة لقاتل متسلسل، ولكن ليس من منظور القاتل أو المحقق، ولكن من منظور الجمهور المحب والمتعاطف مع السفاح، وفي نفس الوقت هو ليس عن قصة حب، بل فيلم إثارة وتشويق، وهو منظور طازج وغير مستهلك، وحمل في طياته مخاطرة خسارة اهتمام الجمهور.

ظاهرة عالمية

الظاهرة نفسها أيضاً ليست محصورة على العالم الغربي، مثل حملة التعاطف الواسعة الذي تلقاها كاميرون هيرين قبل ثلاث سنوات، حين دهس أم وابنتها بسيارته، وحكم عليه بالسجن 24 عاماً، فقد حظي قاتل نيرة أشرف بحملة مشابهة، والملاحظ كما في حالة كاميرون، أن معظم المتعاطفين من الفتيات والسيدات، فما الذي يدفع بعضهن ليس فقط للتعاطف مع قاتل، بل والوقوع في حبه!

من حملة التعاطف مع قاتل نيرة أشرف

يعرف الهيبريستوفيليا Hybristophilia أو الاضطراب الجنسي مع الجناة، أنه نوع من الانجذاب الجنسي الذي يشعر به بعض الأشخاص تجاه المجرمين العنيفين. يمكن أن يكون هذا الانجذاب نتيجة لرغبة في إصلاح الجاني أو الشعور بالقوة من خلال الارتباط بشخص قوي وخطير، أو الشعور بالفضول تجاهه، خصوصاً من اللواتي يشعرن بالملل أو العزلة، فيجدن في هذه الشخصيات المتطرفة نوعاً من الإثارة والابتعاد عن الروتين، إضافة إلى ظهور المجرمين الإعلامي يمنحهم أحياناً بريقاً أو يصورهم في حالة مثيرة للشفقة، ومن الملاحظ أن عدداً كبيراً من تلك المعجبات بحسب دراسة تناولت الظاهرة، أنهن نشأن في بيئة منزلية سامة أو لديهن تدني الثقة في النفس.

يلتقط الفيلم ذلك الخيط، ويجعل من شخصية المعجبة كليمنتين، لديها تدن في الثقة بالنفس، ففي أول مشهد يجمعها ببطلة الفيلم كيلي آن، تخبرها أنها اشترت قهوة سادة، ولكن البائع أضاف لها السكر، وهي مضطرة الآن لشربها ما لم تشربها كيلي، تخبرها الأخيرة أن تعود وتطلبها كما تريد، لكن كليمنتين تكتفي باحتسائها كما هي، وهو سلوك يدل على شعور دفين بالدونية، وأنها تشعر أنها لا تستحق أن تعامل كما تريد، وهي أيضاً حالتها المادية متواضعة، وأتت من مدينة صغيرة لتحضر محاكمة لودوفيك، ولذلك هي نموذج مثالي لفتاة يمكن أن تقع في غرام سفاح لأكثر من سبب.

أن تقع في غرام قاتل

وإن ظننت أن شخصية كليمنتين خيالية أكثر من اللازم، فلنا في كارول آن بون خير مثال، فقد كانت شخصية محورية في قصة تيد بندي، أحد أشهر القتلة المتسلسلين في التاريخ الأمريكي، وأصبحت علاقتها معه محط اهتمام واسع النطاق بسبب طبيعتها المعقدة وحقيقة أنها استمرت في دعمه حتى بعد أن تكشفت الجرائم المروعة التي ارتكبها.

كارول آن بون مع تيد بندي في سجن ستارك

كانت بون مقتنعة تماماً ببراءة تيد بندي، حتى بعد إدانته بارتكاب سلسلة من جرائم القتل الوحشية، وقفت إلى جانبه ودافعت عنه أمام المحكمة ووسائل الإعلام، معتبرة أنه كان ضحية لنظام قضائي غير عادل، وفي خطوة غير تقليدية، تزوج تيد بندي وكارول آن بون في المحكمة خلال محاكمته في ولاية فلوريدا عام 1980، استفاد بندي من ثغرة قانونية في قانون فلوريدا التي تسمح للزوجين بإعلان الزواج أمام قاض، مما أضفى بُعداً درامياً على القضية.

كل ما ذكر يضع المشاهد في لغز الفيلم الأكبر كيلي آن، التي هي على النقيض تماماً من كليمنتين، فهي صاحبة شخصية قوية، ثرية وتعيش في شقة أنيقة مع إطلالة رائعة، تعمل موديلاً لعدد من العلامات التجارية، وبطبيعة الحال رياضية وجميلة وجذابة، وفي نفس الوقت لا تتكلم إلا نادراً، انفعالاتها قليلة ومحدودة، تحمل وجه لاعب بوكر طوال الوقت، مما يجعل استنتاج مشاعرها أمراً في غاية الصعوبة، ويحتمل التأويل دائماً، لماذا تنجذب كيلي آن إلى لودوفيك شوفالييه، وتبيت في الشارع لتضمن وجودها في المحاكمة، ضمن عدد قليل من الجمهور العام!

كتابة تتحدى المتعارف عليه

في معظم الكتب الأمريكية لتعليم السيناريو الكلاسيكي منها والحديث، ستجد دائماً نصيحة حول جعل المتفرج يتعلق ببطل الفيلم، حتى يستطيع أن يستثمر عاطفياً فيه، وتتكون لديه رغبة في معرفة مصيره حتى النهاية، خصوصاً في الدقائق العشرة الأولى، إذ يجب أن يحل بالبطل موقف ما، أو يأتيه نداء لمغامرة، فيكون لديه هدف واضح يتحرك من أجله، حتى لو تغير ذلك الهدف في ما بعد. 

مشهد من فيلم «الغرف الحمراء»

باسكال بلانت يضرب بتلك النصائح عرض الحائط، ويقضي الفصل الأول من فيلمه- قرابة النصف ساعة- في مشهد محاكمة لودوفيك، مشهد طويل ومعقد وحابس للأنفاس، يستخدم تقنية اللقطة الطويلة لتعزيز ذلك الشعور، وهو ما يعطينا انطباعاً في البداية أننا أمام فيلم محاكمات من الدرجة الأولى، ولكن ما إن نستقر على ذلك الشعور، حتى تترك كاميرا باسكال كل شيء، وتركز فقط على كيلي آن دون إجابة واضحة عن ماهيتها، هل هي مجرد معجبة؟ ضحية قديمة؟ على معرفة شخصية به؟ لكن بلا إجابة.

ورغم أن التشويق يعتمد في أهم أدواته على أن يعرف الجمهور شيء لا يعرفه البطل، وهي أداة المفارقة الدرامية، فإن باسكال يقرر أن يراهن على فضول المتلقي وحده، وهو طموح سردي كبير في التخلي عن كل النصائح والحيل لتصنع عملاً فريداً من نوعه، على مستوى الجونرا والحبكة والتقنيات، ولكن هل نجح باسكال في مسعاه؟

ليس تماماً، فالفيلم مقسم إلى ثلاثة أقسام كبيرة، يبدو كل قسم فيها منفصل تماماً عن الآخر، القسم الأول هو دراما المحاكمات، والثاني يمكن اعتباره قصة صداقة كيلي آن وكليمنتين، المختلفتان في كل شيء، ومع ذلك نظل معها طول الفصل الثاني الذي يمتد نحو ساعة تقريباً، ونرى فيه كيف تتحول كليمنتين من مهووسة متعصبة بالسفاح وتدافع عنه بشراسة، إلى شخصية تعود لصوابها في النهاية وتقرر التوقف عن دعمه وحضور المحاكمة.

أما القسم الثالث فهو رحلة كيلي آن نحو هدفها الغامض، الذي لن ينكشف سوى في المشهد الختامي، وعلى الرغم من المتعة الدرامية والبصرية في متابعة كيلي آن وهي تقترب من الجنون وتلعب البوكر وتخترق الحواجز الأمنية وتفعل ما تفعله، فإن النهاية لم تكن مشبعة عاطفياً رغم كونها مفهومة ومنطقية، وذلك كان نتيجة طبيعية لتحييد مشاعر وانفعالات البطلة طوال الفيلم من ناحية، ومن ناحية ثانية لأن الاعتماد على الفضول وحده لن يعطي الفرصة لتكوين أي مشاعر لدى المتلقي.

# سينما # فن # السينما العالمية

بين الحزن والانتظار: فيروزية المشرق ومشرقية فيروز
فيلم «أبو زعبل 89»: عن مصر التي نعرفها
فيلم «The Apprentice»: الحقيقة وراء دونالد ترامب

فن