معرفة

مات كما مات أبناء أبي الصمت — قصة قصيرة

هل كان مذهب «الصامتين» إصلاحًا روحيًا أم هندسة اجتماعية خطرة؟ وكيف تحول طقس شخصي إلى سياسة تهز بغداد ثم تنتهي بمذبحة بلا صوت؟

future لوحة القصة، مولدة بالذكاء الاصطناعي بواسطة الكاتب

بدأ كل شيء، كما يذكر ابن كثير، عندما كان الفقيه السيد محمد بن عبد الكريم الشريف، والذي ينتهي نسبه إلى أحد أئمة آل البيت من الفرع الكاظمي تقريبًا، يحضر حلقة علم عادية بأحد مساجد البصرة في زمن الخليفة الواثق بالله، وقد سمع الشيخ يردد بصورة طبيعية من سورة مريم:

«فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26)»

كما يذكر ابن كثير، أثرت الآية في السيد محمد بن عبد الكريم الشريف، وقرر حينها أن يبدأ دعوته الغريبة التي لم تستمر سوى خمسة أعوام.

بذرة الفكرة: وحي الصمت بعد سماع الآية

الإشارة إليه هنا كانت مقتضبة، فلم يشرح ابن كثير ما يكفي عنها كأنه كان ينأى بنفسه عن الخوض في حق رجلٍ من الأشراف وعالمٍ رباني معروفٍ في زمنه، ولكنها وردت بصورةٍ أكثر تفصيلاً مع بحث رائد تقدم به فرانسوا البيك، وهو أستاذ جامعي كندي من أصول شامية بعيدة، يدرس التاريخ الوسيط الإسلامي تحديدًا، وانشغل فترة بتجلٍّ من تجليات الحضارة والذي تجسد في الحركات الدينية التي كانت تنشأ في الزمن العباسي المديد، تنشأ صباحًا أحيانًا وتنتهي مساءً.

وكان ذلك وجهًا آخر لعملة النجاح الحضاري؛ فرغم تردي أوضاع الدولة العباسية في سبعين بالمائة من مجمل تاريخها تقريبًا، هناك رواجٌ في الحركات الدينية والحركة الأدبية بل والثورات المختلفة ـ ذكر أول ثورةٍ قوية قامت بها قوى العمل الأفريقية أو الزنج وقتها والتي تماست مع حركة القرامطة الخطيرة، والتي يلزم الحديث عنها وقتًا لأنها قرنت بموضوع سرقة الحجر الأسود والذي لم يكن فعلاً ينم عن الكفر كما قيل، بل مبادرة جريئة لانتزاع مجسم مادي كان يعبد من دون الله على حد قول فقهائها ـ وهو ما يشبه ما تمر به الحضارة الأوروبية الشائخة حاليًا، وحتى منذ بدايات عصر النهضة، حيث تعددت الحركات الدينية والإنسانية في العموم، بما يحدث أيضًا للحضارة الأمريكية، مع كل التجليات الحديثة مثل حركة الحفاظ على البيئة أو ضد البلاستيك أو النسوية والنباتية والمثلية إلخ إلخ، وكتب فرانسواز البيك:

«كل حضارةٍ يتسع صدرها لمذاهب مختلفة دينية وغيرها تضمن بقاءها، على عكس المعتقد بأن مناهضة كل الحركات المختلفة يحفظ الدين والحضارة والناس. في النهاية، استمر الإسلام بصيغته نفسها طوال قرون رغم آلاف الحركات».

المهم أن البحث الذي تقدم به فرانسوا البيك كان يخص الفقيه السيد محمد بن عبد الكريم الشريف ذلك، وكان يخص ما يمكن أن نسميه على أيامنا؛ تقليعة شديدة الغرابة، وهي كلمة تنقص من القدر الكبير للرجل، فالدعوة الغريبة التي قادها بصلابة وعزم، كانت تخص أول وآخر دعوة تاريخية تقريبًا يكون الصمت محورها. في كتاب نادر، وجده فرانسوا البيك ضمن شبكة معقدة بدأت ببيعه عن طريق بائع تحف تركي عتيق، ثم وصل لرجل متخصص في جمع النوادر، وهو: «الثبت في فضل الصمت»، وقد كتبه رجل اسمه عباس بن عبد الكريم الملقب بابن زلفى، يعتقد أن قرابة بالدم تجمعه بالفقيه السيد محمد بن عبد الكريم، بسبب تشابه الأسماء والمعلومات التي صاغها؛ في هذا الكتاب تحديدًا وردت تفاصيل شديدة الإثارة عن الدعوة.

في لحظة بعينها بعد الاستماع للآية، شعر الفقيه بن عبد الكريم بأنه لم يعد يسمع شيئًا، ذكر ذلك بالتفصيل لكاتب الكتاب بقوله: للوهلة الأولى تجسدت الخواطر كلها لتصير خاطرة كبيرة عن الصمت الذي يلف المقابر والذي يختلف عن صمت جمع يجلسون في مكان ما كأن على رؤوسهم الطير، فصمت المقابر جسيم، له مكانة خاصة ووزن، ولعل صمت مريم عليها السلام حولها إلى ما يشبه جسد ميت في حب الله. ثم صارت الخاطرة الصغيرة تلك بحرًا بعدها، فقد اكتشف أن الصمت يلف كل المخلوقات القديمة في العالم، ما عدا الحيوانات، فالأشجار صامتة، ما عدا هسيسها وقت الرياح، والنباتات بلا صوت، بل يُخلق لها الصوت خلقًا عندما يقطعها الإنسان كأنها صرخة انتفاض، كما أن الجبال العتيقة والبيوت وكل ما يصنعه الإنسان تقريبًا بلا صوت، وفي أوضاع كثيرة، تسكت حيوانات النهار في الليل لتترك فسحة لحيواناته، بينما تسكت حيوانات الليل نهارًا.

هكذا بدأ يتحدث عن الصمت وأطروحته حوله من منظور فلسفي يتماس مع الدين بشكل خفيف، مفسرًا بالأساس لصمت السيدة مريم العذراء باعتباره أبلغ رد على الجميع، وباعتبار أن الجميع هؤلاء من الإنس تحديدًا ـ اختص الإنسي بالصمت ـ وهي ملحوظة وصلت به إلى أن الإنسان نفسه والذي اشتق اسمه من الأنس تحديدًا كاجتماعي يبحث عن الآخرين ويحيا بهم، يظل إنسانًا أي في مرتبة أدنى من تحوله إلى إنسان علوي، أي يصمت ويسمع كلام الله في الكون وكلام الملائكة، بينما ينزل ما تحت الإنساني عندما يصرخ ويصيح ويصير مثل الحمار بأبغض الأصوات: كأنه حيوان سفلي يصرخ هنا وهناك، رغم أن الحيوانات نفسها محكومة بقانون الصمت.

مذهب الصامتين

كانت الأزمنة متاحة لتطوير الأطروحة، حتى قرر الشريف محمد عبد الكريم هذا أن يطبقها على نفسه فصمت في البداية ثلاثة أيام ثم صمت أسبوعًا ثم صارت شهرًا كاملاً، واكتفى بالاستماع لصوته الداخلي وإعلانه عن طريق الكتابة، وعندما خرج من صمته بعدما تفرق عنه أغلب تلامذته لأنهم كانوا يتجمعون حوله بالساعات فيرونه وهو يتأمل الفراغ بلا كلمة، تحط عليهم حالة من الحرج في البداية ثم تصير حالة لا مبالاة تنقلب لضحك وسخرية من الموقف الغريب، لم يكن قد تبقى له سوى عشرة، اعتبرهم رقمًا مناسبًا لعلم الحساب الذي جعل العشرة وحدة كل شيء، وأسر لهم بالحقيقة: لقد صمت لأنه اكتشف أن الله نفسه حدث الإنسان بالصمت، فصوته في الدنيا صوت ما حولنا بما فيها الوحي الذي لا يسمع إلا داخليًا.

هذه النقطة تحديدًا أخذت منحى خلاف فقهي عتيد، خاض فيه الكثير من العلماء وقتها، حيث ذكر الكثيرون أن صوت الله في الوحي؛ فاستمع لما يوحى، هو صوت مسموع بالضرورة وليس محسوسًا فقط، بينما ذكر قلة أن صوته محسوس فقط طبقًا لنظرية الشريف بن عبد الكريم، والتي تحولت لمذهب خاص حينها مع الزخم الشديد الذي أثارته وحماسة الناس وقتها في حضارة ممتدة لاكتشاف الجديد، حتى صاغ ما يسمى بمذهب الصامتين، والذي وضع له قواعد واضحة. لثام يغطي الوجه، صمت إلا من الكتابة، لا حديث مع أحد خارج الحلقة، وكانوا عشرة صاروا خمسين بعد الجدال الفقهي، ولم يمر شهران حتى صاروا خمسمائة فرد، سرى بينهم تيار الصمت، وبالتزامهم العنيد بذلك صاروا أكثر رقة، بملمح هادئ لا تخطئه عين ونظرات حالمة وطباع غير عنيفة، حتى إن مستوى الخلافات بينهم وبين أسرهم صار صفرًا تقريبًا.

وكانت الدعوة في البداية قد ركزت على الرجل وحده باعتباره صنعة الله الأولى بينما المرأة مخلوق منه، جاء للحديث بلا انقطاع مثل أغلب النساء، قبل أن تضم السيدات لاحقًا باعتبارهن حواضن لأبناء أصحاب المذهب، كما أن الصمت سيقلل من مآسي النميمة والشكوك التي توردهن النار في النهاية كما ذكر حديث أغلب نساء الدنيا في النار.

تعاملت السلطات مع ما يجري بمراقبة هادئة، حيث أثبتت المجموعة سلميتها، ثم انضم لها وزير شهير اسمه بن زيدان القرماني، وهو وزير تركي كبير، وبعدها انضم عدد من المسئولين الصغار، حتى ذكر الباحث أن نصف المحيطين بالواثق كانوا على مذهب الصمت، ولاحظ الخليفة بنفسه تغير ما يجري في حكومة الخلافة حيث صار القصر أكثر هدوءًا وقلت حدة الخلافات بين الجميع.

كان المذهب يقضي بالصمت طوال اليوم في البداية إلا من وقت استواء الشمس وحتى العصر وبعدها يدخل الواحد في صمت لا يقطع سوى في ساعة العشاء، وظل هذا النظام على وضعه، كما وجب حضور جلسات الصمت التي يديرها الشريف بن عبد الكريم، وتكتفي بكتابة الأذكار بدون نطقها أو نطقها المحسوس مع تحريك الأصابع، ارتداء الملابس البيضاء المختلطة بالسوداء، لأنهما اللونين الأكثر صمتًا بين كل الألوان، فالبياض التام جدير بنور الله والعلم والإشراق الروحاني وميلاد الإنسان بينما السواد التام جدير بالجزء الباطن من الخالق والمادة وغموض القدر وحساباته وموت الإنسان.

العبادة في الطبيعة

وقد أسس بعدها السيد بن عبد الكريم فكرة العبادة في الطبيعة أو الخلاء في العموم، بعيدًا عن المدنية، فبعدما كان مقرهم مساجد في بغداد نفسها، أو بيت السيد نفسه، والذي غلف بصمت لا يصدق، قيل فيه: وكأنه يبث الصمت فيما حوله، أو صامت مثل بيت بن عبد الكريم، وقد استقروا في الصحراء بالفعل، على تخوم بغداد، حيث مضارب بعض القبائل القديمة ذات الأصول البابلية الواضحة، مع بعض القبائل العربية التي لم تغادر البداوة أبدًا لحياة المدنية، ومنها قبيلة اشتهرت بعنف رجالها وجمال نسائها، اسمها قبيلة الأخنف الطائي، قيل إنها من فروع طيء القديمة ولكن نفاهم أبو جعفر المنصور عندما أفسدوا في المدينة الوليدة وتعاملوا في السوق بعنف واضح، وقد استقروا هناك كجماعة تتاجر في النوق ولبنها والأعشاب الطبية التي تنبت في الصحراء، وقد استقبلوا المجموعة بحذر، خاصة مع كراهيتهم لسلطة المدينة.

غير أن السيد بن عبد الكريم بهيبته الطبيعية وجمال حديثه وعيناه اللتان تجمعان ما بين اللين والحزم، كما وصف، تظللهما أهداب كثيفة، تخفي قسمًا منهما ليضفي ذلك عليه غموضًا مناسبًا لمقامه؛ استطاع أن يروضهم وصاروا يستقبلون جماعته كل شهر تقريبًا، حتى اكتشف السيد بن عبد الكريم أهمية الصحراء في بث الصمت والاتصال بالله وبدأ يبتعد مع أقرب تلامذته هناك قبل أن يكتسب مذهبهم أفراد قبيلة الأخنف الطائي تلك، حيث انضموا لهم بفضول في البداية، بعدما لاحظوا هدوءهم الغريب وجلوسهم صامتين بالساعات، ثم انتصر الصمت على الصخب المناسب للحياة وصارت البقعة كلها تشع بالهدوء، وهو ما وصفه شيخ القبيلة؛ شرحبيل الأخنف؛ بأنه ما هدأ عنف الرجال وأدر لبن الجمال ونقل النساء من حال إلى حال.

الصمت الذي نجح السيد بن عبد الكريم في بثه، وضع له فوائد واضحة في كتاب مفقود أسماه «تحفة الصمت في بث الحياة في الموت»، وذكر فيما ذكر، أن الإنسان الصامت يترك فرصة لعقله للتفكير مع صوته الداخلي الذي هو صوت الروح التي زرعها الله في كل فرد، ليفكر بطريقة سليمة، كما يستطيع حينها تحديد الصوت اللاهث الخائف المبالغ فيه، المفعم بالغضب والشك والحيرة، لشيطان الإنسان، فيقاومه بالصمت لأن الفعل هو الشيء الوحيد الذي يورد بالإنسان المهالك، ولذلك يقل الخبيث ثم تأتي فرصة لفعل الجيد، ويكره الإنسان حينها المجادلات ـ استند إلى دعوة النبي الصريحة بترك الجدال في حديث «لِمَن ترك الجدال» ـ والمشاحنات والمشاكل وكل الحروب التي تقوم على كلمة، ولكنه بالطبع شجع على الحديث في أوقات بعينها لأن الحياة لا تستقيم سوى بذلك، خاصةً مع الحاجة الملحة للمرأة للحديث والشكوى.

وضح الكتاب أوقات الحديث فيما بين الظهيرة والعصر، ثم الصمت حتى النوم، ومن النوم بالطبع وحتى اليقظة، مع حديث خفيف جدًا في بكورة الصباح يعقبه كلمات تخص الأعمال فقط، ثم صمت حتى الظهيرة إلخ إلخ، وهو ما يقتل نصف مشاكل الإنسان التي لا تنشأ سوى عن رغبته الملحة في الحديث.

اصطفى خمسين من خلصائه، الذين خاضوا في بحار الصمت الصعبة، وصاروا أساتذة فيه، وبعدها بدأ نشر الدعوة على مستوى أعلى وإن كان لا يزال سريًا وخفيفًا، مع مباركة الوزير ابن زيدان القرماني بالطبع، والذي اشتهر عنه الصمت في البلاط، وصار الخليفة الواثق يستأمنه على الكثير من المهام، حتى ورد في بعض المراجع أنه صاحب فكرة الحملة التي سيرها الخليفة لما وراء النهرين، حتى سد يأجوج ومأجوج، لمعرفة ما إذا قد فتح من عدمه، وذلك في إثر حلم غريب رأى فيه أن قسمًا من السد قد فتح، وقد نجح الوزير الصامت كما يسمى في كل المهام تقريبًا، حتى سأله الواثق بالله عن سر هذا النجاح، وهو يفكر بأن ذلك يخص مذهب الصمت ذاك، فقال الوزير:

«صرت أفكر أكثر مما أتكلم، وأكتب أكثر مما أتناول الطعام».

وقد كان هذا وحده كفيلاً بأن يفكر الخليفة في مدى أهمية هذا المذهب بالفعل، ولعلنا لا نغالي لو طرحنا الفكرة في أن الواثق بالله، والذي حكم الدولة في فترة صعبة، لا هي بالأخيرة حيث الضياع السريع وانهيار كل شيء قبل دخول المغول، ولا هي بالأولى حيث خلفاء عظام وأسماء تنقش بصفحة التاريخ بالدم والنار، وإنما بين البينين، ولعله أدرك فداحة موضعه في التاريخ، وأنه خلف آخر خليفة عظيم، وهو المعتصم، وصار في بداية الخلفاء الوسيطين، وفكر كثيرًا في استعادة القصص الساحرة أيام أجداده، فجده هارون الرشيد مثلًا، كان يقيم الليلة ولا يقعدها في بحر مغامرة تكشف له شيئًا جديدًا، وورد هذا في ألف ليلة وليلة نفسها، بينما ابنه المأمون، الذي يكن له الواثق محبة ترقى للهوس، والذي هو عمه، تبنى فكرة خلق القرآن تلك والتي امتحن فيها الناس، وصارت معنونة باسمه في التاريخ، كخليفة فيلسوف يملك العقل الراجح الكافي لمصارعة ابن حنبل في زمنه، لعله أراد أن يبتكر مذهبًا جديدًا ينسب له، ووجد في مذهب الصامتين للسيد بن عبد الكريم بغيته، ففكر في رفعه على مستوى الدولة.

نقول إن تلك كانت فكرته، وهو افتراض يتجرأ على التاريخ الذي لم يثبت ذلك، فالحزين أن الواثق لم يتعد خمس سنوات في الحكم رغم كل هذا الطموح، بل وتكتب هكذا في التاريخ: خمس سنوات، بدون ذكر شيء مهم فيها، وبعض العلماء يصفونها بأنها فترة اضطهاد عظيمة للعلماء الذين وقفوا ضد خلق القرآن، ويمحى بعدها كل ما يخص الرجل أو ما فكر فيه. لا نعيد هنا الاعتبار للواثق، ولكننا نتوقف لنفكر في سخرية القدر في النهاية، فما خشي منه وقع فيه تمامًا بل وصار، للأسف، الخليفة الأول في سلسلة الخلفاء الوسيطين الذين مهدوا للخلفاء الأواخر الاسميين الذين أوقعوا بالدولة.

لو لم يحدث ما حدث، لكان مذهب الصامتين ذاك قد ارتقى ليصير مذهبًا رسميًا، ولعل التاريخ الإنساني كان ليتغير تمامًا بعدما يسود الصمت الدولة الأهم وقتها ثم ينتشر إلى أوروبا ويصبغ العالم بصبغته وتنبثق عنه فنون شتى ومعارف غريبة، الكلمات وقد صارت نديفًا خفيفًا فوق رؤوس الخلق، والصمت وقد صار سحابة بلا نهاية، يمكن أن تخلق جيلًا جديدًا لا يعرف أسلوب الحديث والكلام.

عقوبة الصامتين

لعل هنا وقعت لأن خطأً قاتلًا قد حدث، حيث إن واحدًا من الخمسين المصطفين عند السيد بن عبد الكريم، قد تحدث فجأة وقت صمت. حديثه هذا كان قد انتفض به بسبب شيء شديد التفاهة، حيث رأى ثعبانًا يتسلل من بين بعض الأشجار القريبة ويقترب منهم. سيظل اسمه مجهولًا رغم فعله المعروف الذي غير كل شيء، وفي هذا ما يتكرر بالتاريخ كله، فأغلب من بدؤوا شعلة أحداث تغير التاريخ تنسى أسماؤهم حتى ولو كتبت، وهذا لأن سلطان الأسماء لا يعترف في عرفه الدرامي سوى بالاسم الذي يكمل القصة ويصل بها إلى متن هام ولا سيما البطل والذي لا يكون المشعل بالضرورة، المشعل فتيل ليس إلا، والفتيل لا يعرف سوى بالشمعة ولكن الشمعة معروفة في نفسها.

انتفض صاحبنا وصرخ محذرًا من الثعبان، ولكن السيد بن عبد الكريم ـ والذي اخترق صياح الرجل قشرة واهية لبيضة أفكار لا تصدق، كاد يلمس فيها واحدًا من أسرار عالم المثال الذي يضرب به المثل في العموم وفيه المثل الأعلى الذي ينفرد به الله ـ نظر له بضيق واضح، فشعر الرجل بالقلق ليزداد صخبًا حتى يثبت لهم أنه فعل ذلك للحماية، ويثبت لنفسه أنه لم يخرق عهدًا أعطاه للسيد، هكذا انتقل من خطأ إلى خطأ، وعندما شعر بنظراتهم تحرقه قال بعصبية تخفي خوفه، لأنه شعر بلذة خفية للضياع حينها:

«ذُكر في القرآن: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ»، يعني وجب مع صمتنا أن يقف أحدنا للحماية.

كان هذا كافيًا لأن يعد مجترئًا على الإمام، وقد صدرت العقوبة حينها بدون تفكير، فقال السيد بن عبد الكريم بكل ضيق الدنيا: «ما الثعبان سوى مطية الشيطان المفضلة وقد فضلته علينا». اختفى الثعبان بالفعل، ولعله شعر بالخطر ففر، ولكن اختفاءه وقتها كان كافيًا لأن يظن السيد فيه عدم الحضور بالأساس لأنه شيطانًا تمثل بتلك الصورة ثم تلاشى، ولأن صاحبنا شعر بأنه وصل إلى قرار الهوة، قال فيما سجله الكتاب المذكور: «لا حق لك في معاداتي وقد حاولت الحماية».

نزل الحكم سريعًا، وقد بان الحزن عميقًا على وجه السيد بن عبد الكريم، وتصدى لها شرحبيل الأخنف، وعقد مجلس سريع وقطع لسان الرجل بعدما أمسكوا به، وكلل دمه الثوب الأبيض والعمامة السوداء، وقد ظل ينتفض مكانه، حتى أعادوه لبيته مكللًا بالعار، وقد ارتد لطائفة المجتهدين، اسم المرحلة الأولى، بعدما كان في طائفة المجاهدين، المرحلة الثانية، قبل الوصول للثالثة الصعبة وهي طائفة المتكلمين، وهم الذين يتكلمون وحدهم وقت الصمت مثل السيد بالضبط، والذي صار يطوع لسانه ولا يطوعه على عكس العادة، فاللسان، كما ذكر في كتاب المذهب، ملتوي مثل أفعى، رطب ومبلل ولهذا من الصعب التحكم فيه، وهو ما يحدد كل شيء لجسد الإنسان ويتحكم فيه تحكم الفرع في الشجرة وهو ما لا يجوز، ولهذا كان حصاده مورِدًا النار مثل ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

واللسان هو آية الله في الإنسان، فالأحرف الأولى؛ الل، هي بداية الكلمة العظيمة؛ الله، جمعت مع الإنسان لتصير اللإنسان، أو اللسان، ولذلك فهذه الآية لو صارت تتحدث وفقًا لفطرة الله صارت لسان الوحي، وإذا تحدثت بما لا يوافق الفطرة صارت أفعى، وليس بينهما بين. لم يمر العقاب بهذه السهولة، فقد كتب الرجل عريضة طويلة للخليفة يشكو فيها مما حدث له، وقد انقلب خوفه لارتياح ما بعد كارثة، ولكن بعض المجتهدين تطوعوا وقتلوه بعد شك أحدهم فيما يجري، بمباركة من السيد الذي عده مفسدًا في الأرض.

هكذا اندثرت سيرته، ولكن السيد بن عبد الكريم أصيب بحزن دائمًا، وصار يبكي أحيانًا بسبب الدم الذي تمت إراقته، وكان هذا إيذانًا بمزاج عام مقلق، حيث صارت تلك العقوبة في تكرار، خلال نصف عام، ارتكب أربعون شخصًا خطيئة الحديث وقت الصمت، بعضهم بسبب الرغبة الملحّة والغريبة التي تطرق رؤوسهم وتدفعهم دفعًا للحديث، كأن هناك فتنة في اختراق الممنوع، مثلما يضحك الطفل عندما يلعب لعبة صمت، لأن الصمت كائن غريب في النهاية، القبول به يحتاج لهمّة خاصة، فكان بعضهم يردد ذكرًا ما أو يقول شيئًا بلا معنى أو حتى يردد كلمة فاحشة وهو من نفسه في ذهول لأنه لا يعرف لماذا فعلها، ولا يجد وقتًا ليصف كيف هزته رغبة في ذلك كأنه أراد اكتشاف ما على الجانب الآخر من الالتزام. وصل خبر مقطوعي الألسنة تلك للوزير ابن زيدان القرماني. فابتكر ما يمكن أن نسميه تضحية الصامتين.

فقد استشار السيد بن عبد الكريم في أن تقطع ألسنة كل المنتسبين للمجموعة قبل دخولها، كشرط للدخول؛ ولا يبقى سوى لسانه الحكيم، وقد وضع نفسه تحت الحكم مثل البقية إذا أراد السيد بن عبد الكريم، ولكن الرجل لم ير في ذلك حكمة بسبب قرب الوزير من الخليفة الذي يحتاج لمحدث يحدثه خاصة مع اهتمامه الجاد بما يجري، حيث كان قد بدأ يتبع المذهب بصورة غير رسمية، وسعى لضيافة السيد بن عبد الكريم بجلسة ساهرة يتناقشان فيها بذلك، وقال السيد:

«لسانك الآن ضمان ليسود مذهب حق يصلح فساد الناس والأمة الفسيحة التي صارت من أقصى الشرق لأقصى الغرب».

كان الوزير ذا حس رومانسي في العموم، فرغم الدموية التي جرت على يديه يذكر عنه تأليف ديوان جميل بالتركية اسمه بين يدي زهرة البيلسان، يصف فيه جمال الطبيعة، مع كتاب عن وصف الخيول بطريقة ترقى لأن تكون وصفًا شاعريًا يقارب العلم الحديث المختص بدراستها، فالأصح أنه كان وزيرًا بروح عالم، ولذلك فحوادث قطع اللسان هذه والتي أشرف عليها كانت تتم في قصر قديم، ويجلب معها فرقة من الزنوج ضاربي الدفوف والذين يغنون أغاني تنتمي لأعالي النيل عند المصب، حتى يغطي بها على ألم القطع والصراخ، وكانت الألسنة تكفن بكفن أخضر وتدفن بعد صلاة باكية سريعة يدعو فيها الجميع بأن يشهد اللسان له لا عليه، دعاء صامت بالطبع. مئات من مقطوعي الألسنة، صاروا كلهم يجلسون عند البيت الذي أقيم للسيد في موضع الصحراء بمضارب الأخنف الطائي، الذي قطع لسان شيخ قبيلتهم شرحبيل أيضًا عن رضا تام، وصارت للكلمة المكتوبة قيمة أكبر.

المذبحة الصامتة: موت بلا صراخ

لم يمر الأمر هكذا مرور الكرام، فقد ساد بغداد الخوف بسبب إشاعة أن جماعة بن عبد الكريم تلك تضم لها أناسًا بالإجبار وتقطع ألسنتهم، ولذلك ساد الخوف المدينة وغلب الأمان وانتفض بعض العلماء الأجلاء في التحذير من فتنة الصامتين تلك، وذكروا أنها خارج الملة وتشبه كل الفرق الغريبة التي تنشأ لتسبب شرخًا في بيت الإسلام.

وكان قاضي القضاة ابن أبي داوود، المؤمن والمنظر الأكبر لمسألة خلق القرآن والتي صارت لها أدبيات خاصة وتراكمت معارفها، قد سمع بما يجري عن كثب، فناقش فيه الخليفة الواثق بصراحة، وذكر أن هذا المذهب العنيف والذي يقطع ألسنة الناس لا يبغي سوى فساد الدولة، لأن الكلمة توحي بما في صدر الإنسان وتجعلنا نفهمه، ولكن فريقًا من الصامتين هؤلاء سيؤدي إلى دولة ممن لا يحسنون التعبير، وقد ذكر مشاكل لم يجد معها الخليفة حلًا مثل من يتصدى للحكم بين الناس ومن يقرأ القرآن في الصلاة من الأئمة ونقل العلم والحديث ومدى تعقيد كتابة كل ذلك، وعندما اكتشف عن طريق أعينه أن السيد بن عبد الكريم الوحيد بلسانه، مع الوزير ابن زيدان القرماني، أعلنها واضحة: الوزير يستغل ذلك لينقلب على الخليفة بعدما يحول الدولة لجحيم من الصمت وتسقط بسهولة.

الواثق، والذي كان يشعر بالقلق بالأساس من خلق القرآن، بسبب وجود بعض النقاط الحرجة في المذهب، لم يكد يسمع ذلك حتى نفى علمه بما يحدث، وأصدر قرارًا متعجلًا في التعامل الحاسم مع الفئة الضالة تلك. هذا الارتباك كان مبعثه شعور تعاظم خلال فترة قصيرة بأن زمنه قصير وأن هناك شيئًا ملعونًا يطارده في طرقات القصر الخلفية وكل ما يجري في الخفاء، أمه التركية قراطيس التي اختارت له اسم هارون على اسم جده، أرادت بذلك أن يكون هارون الثاني، ولكن حلمًا رآه ضمن أحلامه التي لا تنتهي والتي اشتهر بها وبصدقها رغم كل شيء؛ رأى فيه جده هارون الرشيد الذي لم يلحق رؤيته أبدًا، ولكنه ميزه، وقد جلس حزينًا في مكان فسيح وخالٍ، ولما سأله عن حاله قال:

«لا زلت أحاسب على أول خمس من حكمي، رغم رحمة الله الواسعة، وهو عمرك».

انتهى الحلم عند هذا الحد، ولأنه لم يكن بالخامسة بالطبع، توقع بقلق مستحق أن الخمس هي سنوات حكمه. لهذا أصابه الكدر ورغبة في معاندة القدر، واتخذ قراره العنيف ذلك، مثلما سيتخذ بعده قرارًا بقتل عالم الحديث أحمد بن ناصر الخزاعي، والذي سيتوب بعد قتله ويبكي بقوة لليالي لا تنقطع بسبب إدراكه أن حياته ورقة سريعة ضمن حياة طويلة لدولة لا نهاية لها.

أسند القاضي ابن أبي داوود المهمة لقائد تركي قوي اسمه بغا الكبير، وهو الذي قاد حملة ناجحة ضد تمرد القبائل في نجد بالحجاز، وكان يتميز بشدة رجال وسط آسيا والأناضول، وقد جمع أفراد قبيلته وقبائل الأتراك الأخرى معه، وكون جيشًا أساسيًا في الدولة، عندما صارت بذرة العسكرية تركية وقت المعتصم الأب، وقد اعتبرها بغا الكبير مهمة سهلة، فرغم إيمانه الشديد الذي يصل لدرجة العماء والغباء؛ تميز بذكاء فطري حربي؛ وفكّر بأن الصمت نفسه هو سبب نهاية تلك الفئة.

قاده الجواسيس بسهولة على موعد الصمت الأكبر اليومي طوال الليل، والذي يجتمع فيه السيد مع المئات من المجتهدين ثم دائرة المجاهدين، وحسب حساب قوة قبيلة الأخنف الطائي، ثم كونوا دائرة كبيرة حول البقعة كلها. هكذا بدأت الجلسة الطويلة الهادئة، وفي لحظة بعينها أصدر القرار بلا تردد، فنزل الجنود من البقاع المحيطة سريعًا.

تعد من أغرب المذابح في التاريخ، فقد تمت بصمت تام لا يصدق، وقيل فيها لاحقًا: «مات كما مات أبناء أبي الصمت: النعجة تصرخ حتى»، وقد تم ذلك بهدوء يسبب الجنون، حتى إن بعض الجنود قد ترددوا قليلًا في مهمتهم، فعندما كان يُقتل أحدهم جوار أحدٍ ما يحاول من رأى التحذير بلا جدوى، وهكذا سقطوا مثل جبال من الرمل أمام موجة عاتية.

الوحيد الذي ملك اللسان ليقول شيئًا كان السيد بن عبد الكريم نفسه، والذي فوجئ بالموجة الدموية التي تقترب منه، فبكى بهدوء، وقرّر أن يقول وهو ينظر إلى السماء:

«يا رب، إن هؤلاء قد نذروا لك ألسنتهم، فأدخلهم الجنة بلا حساب ولا كلمات، واجعلهم يلهجون بحمدك في أعلى عليين، واغفر لعبدك المسكين بن عبد الكريم الذي يجأر لك بدمائهم، يحملها فوق كتفيه، ويتمنى رحمتك وباب من أخطأ فله أجر».

وهو دعاء ينم عن اضطراب ثقة مستحق، وقد قتل باكيًا بعد تردد الجند بسبب مهابته الواضحة، وكان بكاؤه وهو ينظر إلى السماء قبل أن يذبح مثل البقية، وكان أغرب شيء أنه ظل يتحدث بدعاء غريب لم تحفظه المصادر حول جماليات الجنة والرحمة بعد ذبحه، فيما عد كرامة لم تحدث من قبل، للذي تحدث بعد موته.

ومع النهاية العنيفة تلك، ركز بحث فرانسوا البيك على أن التعامل الإنساني كان في أرقى مراحله بين الصامتين وبعضهم البعض، ولم تسجل حالة سرقة واحدة أو تعدٍّ، كما أنهم كانوا شديدي الهدوء، يعاملون كل شيء برحمة عالية، من الحجر وحتى البشر، واشتهروا بترك مساحات خاصة للقطط من أجل الحياة والتوالد والطعام، مع البكاء حول أي مشهد صعب، وقد سجن الوزير ابن زيدان القرماني بعدها بعفو من الواثق الذي حفظ له الكثير، والذي طلب بأن يقطع لسانه لانتفاء أهميته بعد وفاة الإمام، وظل صامتًا في محبسه حتى مات في عصر الخليفة المنتصر الذي أعقب المتوكل، ابن الواثق، وكان بداية عصر جنرالات الدولة العباسية والانقلابات التي لا تنتهي، وقد مات وقد تخطى المائة، ورغم أن الدولة كانت تموج بالضياع ويتنازعها القادة العسكريون الذين عينوا المنتصر بعد قتل المتوكل أثناء نومه، وقيل فيها: ولما قتل أبوه دخل إليه القاضي جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، فقالوا له: بايع. قال: وأين أمير المؤمنين ـ يعني: المتوكل ـ؟ قال: قتله الفتح بن خاقان. قال: وأين الفتح؟ قال: قتله بغا. قال: فأنت ولي الدم، وصاحب الثأر.

وهكذا بدأ ضياع الدولة، بينما مات قاضي القضاة ابن داود الذي قام بتصفية الصامتين بعد مصادرة أمواله وقت المتوكل ابن الواثق، ووفاة ابنه، فقيل إنه ذنب من لم يُؤجروا بالصراخ وقت الذبح، رغم كل ذلك، مات الوزير ابن زيدان القرماني مبتسمًا، وقد أشرق وجهه لكثرة الصمت، وقد بكاه الحرس في بادرة مفاجئة وقالوا إنهم كانوا يسمعون صوتًا يأمرهم بخدمته، رغم أنه لا يتحدث، وهي القصة التي يختم بها فرانسوا البيك بحثه، قبل أن يخوض في تفسير فلسفة الصمت وهو ما لا يتسع له الحديث هنا.

# أدب # قصة قصيرة # معرفة # تاريخ

نوبل في الفيزياء 2025: الحد الفاصل بين عالمنا والعالم الكمّي
من الحرب النفسية إلى الخداع الاستراتيجي: جمال حمدان عن أكتوبر 73
من «افتراق الطرق» إلى «سلام السلاح»!

معرفة