حوار مع المؤرخ الإسرائيلي عاموس جولدبرغ، أجراه معه الكاتب إلياس فيروز، لصالح مجلة جاكوبين الأمريكية، ترجمة: عمرو جمال.
نص الحوار:
قدرت مجلة «لانسيت» العلمية عدد سكان غزة الذين لقوا حتفهم، بشكل مباشر وغير مباشر، منذ العمليات العسكرية التي نفذتها إسرائيل ضد قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، بـ186 ألف شخص. رقم تؤيده منظمة أطباء العالم.
إن «الإبادة الجماعية» - أي «نية التدمير الكلي أو الجزئي لمجموعة قومية أو عرقية أو عنصرية أو دينية» - التي ينتهجها نتنياهو كان موضوع نقاش دولي حاد منذ اتهام جنوب أفريقيا في نهاية ديسمبر 2023 إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين. إن المؤرخ الإسرائيلي عاموس جولدبرج من أبرز منتقدي حرب إسرائيل في غزة، ويتهم إسرائيل بنفس الاتهام. في إحدى المقابلات، أخبر جاكوبين لماذا ينطبق هذا المصطلح -ولماذا يحتاج المجتمع الدولي إلى إدراك هذا الواقع؟
لقد مرت تسعة أشهر منذ أن قتلت حماس أكثر من 1000 إسرائيلي في هجمات السابع من أكتوبر، ولكن لا تزال نهاية الحرب في فلسطين غير واضحة. حولت تلك الحرب قطاع غزة إلى أنقاض وقتلت عشرات الآلاف، أغلبهم من المدنيين. وحتى لو انتهت الحرب غداً، فإن قطاع غزة سوف يظل غير صالح للسكن لسنوات.
لقد أثار هذا المستوى الجديد من التصعيد- ومدى الدمار في غزة- جدلاً حول تصرفات إسرائيل ووصفها بالإبادة الجماعية. ورفعت جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية قضية ضد إسرائيل تتهمها بذلك الاتهام. وانضم إليها في وقت لاحق إسبانيا وبلجيكا والمكسيك. ويظل السؤال مثيراً للجدال بين الخبراء، لكن عدداً متزايداً منهم يتفقون على أن مثل هذا التقييم يمكن تأكيده. ففي إسرائيل نفسها، يتحد أغلب السكان خلف جيشها لكن هناك بالتأكيد منتقدين للحرب.
عاموس جولدبرج أستاذ مشارك في قسم التاريخ اليهودي واليهودية المعاصرة في الجامعة العبرية في القدس. في شهر أبريل، نُشرت مقالة له في مجلة «Local Call» استنتج فيها أن أفعال إسرائيل في غزة إبادة جماعية. وفي المقابلة التالية، تحدث عن آرائه واستنتاجاته بشأن الحرب الجارية، والوضع في الضفة الغربية، ومستقبل إسرائيل وفلسطين.
عاموس جولدبرج: لقد كتبت مقالاً باللغة العبرية بعنوان «نعم، إنها إبادة جماعية» في مجلة تدعى «سيحا مكوميت»، التي تعني «Local Call» بالإنجليزية، وتُرجم إلى الإنجليزية وتم نشره على نطاق واسع. أعترف بأن هذا ادعاء خطر ولا أتعامل معه باستخفاف. كان من الصعب جداً بالنسبة لي كتابة هذا المقال، لأنه يتعلق أيضاً بشعبي ومجتمعي. وبصفتي جزءاً من هذا المجتمع، أتحمل أيضاً المسؤولية عما يحدث. لقد كان حجم الفظائع والدمار في إسرائيل في السابع من أكتوبر غير مسبوق. استغرق الأمر مني بعض الوقت حتى أتمكن من استيعاب ما كان يحدث والقدرة على التعبير عما أراه. ولكن بمجرد أن ترى ما يحدث لا يمكنك أن تصمت. حتى لو كان الأمر مؤلماً بالنسبة لي أو لقرائي أو للمجتمع الإسرائيلي، فيجب علينا أن نناقش ما يحدث.
هناك تعريفات مختلفة للإبادة الجماعية، لكن هناك تعريفاً واحداً فقط يعد مقبولاً عالمياً وهو اتفاقية وقاية ومنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها التي اعتمدتها الأمم المتحدة في ديسمبر 1948. إنه تعريف قانوني، لكنه لا يزال غامضاً ومفتوحاً للتفسير وفضفاضاً، لذلك لا يزال يُنقد. تصف الاتفاقية الإبادة الجماعية بأنها جريمة ارتكبت بقصد تدمير جماعة وطنية أو عرقية أو عنصرية أو دينية كلياً أو جزئياً. إن نية التدمير أمر بالغ الأهمية ولكن ليس بالضرورة أن يكون دماراً كاملاً، فيمكن أن يكون «كلياً أو جزئياً».
وقد تعرض التعريف لانتقادات شديدة بسبب إغفاله فئات أخرى، مثل الجماعات السياسية، بسبب اعتراض الاتحاد السوفيتي. وعلى نحو مماثل، لم تحدد الاتفاقية «الإبادة الجماعية الثقافية»، لأن الولايات المتحدة كانت تخشى اتهامها بارتكاب إبادة جماعية ضد سكانها الأصليين. يجب أن نذكر القارئ أن إدراج الجوانب الثقافية في اتفاقيات الإبادات الجماعية كان مهماً للغاية بالنسبة للمحامي البولندي اليهودي رافائيل ليمكين، الذي صاغ المصطلح وضغط من أجل الاعتراف به في الأمم المتحدة، لكنه اضطر إلى تقديم تنازلات من أجل الحصول على موافقة الاتفاقية.
في نهاية المطاف، التعريف الذي طرحته الاتفاقية نتيجة لحظة سياسية وتاريخية معينة في الأمم المتحدة، عندما كان الجنوب العالمي لديه مندوبون قليلون، وفي لحظة هيمنة للولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. ومع ذلك، يشير معظم العلماء إلى هذا التعريف عندما يتحدثون عن الإبادة الجماعية اليوم. وقد صاغ عديد منهم مصطلحات إضافية مثل «إبادة الشعب» (Democide)، والإبادة العرقية، والإبادة السياسية، وما إلى ذلك (والتي ليست قانونية على أي حال). وبعضهم ابتعد عن التعريفات تماماً أصلاً. لكن التعريف الأساسي المقبول على نطاق واسع هو التعريف القانوني من الاتفاقية.
بصفتي مؤرخاً، إذا نظرت إلى الصورة الإجمالية، فستجد كل عناصر الإبادة الجماعية. هناك نية واضحة: فقد عبر الرئيس ورئيس الوزراء ووزير الدفاع وعدد من كبار الضباط العسكريين عن ذلك بكل صراحة. لقد شهدنا تحريضات لا حصر لها لتحويل غزة إلى أنقاض، وادعاءات بعدم وجود أبرياء هناك، إلخ. هناك أيضاً دعوات شعبية لتدمير غزة من جميع أطياف المجتمع والقيادة السياسية.
ويسود في المجتمع الصهيوني جو متطرف يجرد الفلسطينيين من إنسانيتهم إلى حد لا أستطيع أن أتذكره في السنوات الـ58 التي عشتها هنا. وكانت النتيجة مقتل أو إصابة عشرات الآلاف من الأطفال والنساء والرجال الأبرياء، والتدمير الشبه الكامل للبنية التحتية، والتجويع المتعمد ومنع المساعدات الإنسانية، والمقابر الجماعية التي لا نعرف مداها الكامل حتى الآن، والنزوح الجماعي، وما إلى ذلك. وهناك أيضاً شهادات موثوقة عن عمليات إعدام خارج القانون، ناهيك عن عمليات القصف العديدة للمدنيين في ما يسمى «المناطق الآمنة». إن غزة كما عرفناها لم تعد موجودة. وبالتالي فإن النتيجة تتوافق تماماً مع النوايا. ولفهم المدى الكامل لهذا الدمار والقسوة، أنصح بقراءة تقرير الدكتور لي مردخاي وهو التقرير الأكثر شمولاً وحداثة لما حدث في غزة منذ السابع من أكتوبر.
لا يجب على عمليات القتل الجماعي أن تكون عملية تدمير كامل حتى تعد إبادة جماعية. وكما ذكرنا بالفعل فإن التعريف ينص صراحة على أن تدمير مجموعة ما كلياً أو جزئياً يمكن اعتباره إبادة جماعية. وهذا ما حدث في سربرينيتشا كما ذكرت، أو في حالة الروهينجا في ميانمار. أعترف بأنني كنت في البداية متردداً في تسمية ما يحدث بالإبادة الجماعية، وسعيت إلى أي مؤشر لإقناع نفسي بأنها ليست كذلك. لا أحد يريد أن يرى نفسه جزءاً من مجتمع إبادي. لكن هناك نية صريحة ونمطاً منهجياً، لذا استنتجت أن ما يحدث هو بالضبط ما تبدو عليه الإبادة الجماعية. وبمجرد التوصل إلى هذا الاستنتاج، لا يمكنك أن تظل صامتاً.
كما ذكرت من قبل، كتبت مقالي باللغة العبرية. ولم أكتبه باللغة الإنجليزية لأنني أردت في المقام الأول أن يواجه الإسرائيليون هذا الأمر وأن أساعد مجتمعي في التغلب على إنكار ما يحدث في غزة. أود أن أقول أيضاً إن الإنكار يشكل جزءاً من جميع عمليات الإبادة الجماعية وأعمال العنف الجماعي.
لقد غضب بعض الطلاب مني بشدة بسبب مقالي، لكن آخرين شكروني. وجادلني بعض الزملاء، بل وكتب أحدهم على «فيسبوك» أنه يأمل أن يتوقف الطلاب عن حضور دروسي. واتفق معي آخرون، بينما أخبرني البعض أنني أعطيتهم مادة للتفكير. وهناك أيضاً أشخاص يختلفون معي، لكنني على الأقل تمكنت من إقناعهم بأن ادعاء الإبادة الجماعية ليس ادعاء سخيفاً بدافع معاداة السامية.
إن الجامعات تشكل معقلاً للمعارضة لحكومة نتنياهو، هذا حقيقي. وقد بدأ هذا مع الإصلاح القضائي قبل الحرب. هناك أصوات عديدة داخل الجامعات تعارض الحرب، رغم أن كثيرين يؤيدونها بنشاط، بل ويشجعون الحكومة على زيادة الضغوط غير الإنسانية أصلاً على غزة.
إن عدداً من المعارضين للحرب يفعلون ذلك في المقام الأول من أجل الرهائن. هذا شيء نبيل وقضية جديرة بالاهتمام، لكن أقلية فقط في إسرائيل تعترف بالطبيعة اللاإنسانية والإجرامية للحرب في حد ذاتها. ولا بد أن أؤكد أيضاً على المظاهر العديدة للتضامن بين اليهود والفلسطينيين التي حدثت في الجامعات.
مع ذلك، أؤكد أن الجامعات بوصفها مؤسسات بشكل عام، فشلت في هذا الاختبار الأخلاقي وفشلت في التزاماتها بحرية التعبير والإنسانية والتحليل النقدي للواقع في أوقات الأزمات. ربما تشكل جامعة تل أبيب ورئيسها أرييل بورات استثناء، إذ دافع في معظمه عن حرية التعبير، ولكن في المجمل هناك جو من الخوف والقمع. وينطبق هذا بشكل خاص على الأساتذة والطلاب الفلسطينيين، الذين يشعرون أنهم لا يستطيعون حتى التعبير عن أي نوع من أنواع التعاطف العلني تجاه إخوانهم وأخواتهم في غزة. فلا يوجد مجال لمشاعرهم أو وجهات نظرهم في الحرم الجامعي أو في المجال العام أو على وسائل التواصل الاجتماعي.
لقد خسر بعض الأساتذة ومن بينهم يهود، وظائفهم في الكليات بسبب التعبير عن انتقادات مشروعة، وآخرون لم يفقدوا وظائفهم لكن تعرضوا للمضايقات. والحادث الأكثر شهرة حدث للأستاذة نادرة شلهوب كيفوركيان الأستاذة الفلسطينية المشهورة عالمياً في الجامعة العبرية في القدس والمعروفة بآرائها الصريحة حول الإبادة الجماعية والصهيونية. فقد أوقفتها الجامعة عن التدريس لفترة قصيرة، وواجهت مضايقات من زملائها وتهديدات أيضاً، واعتقلت واحتجزت لمدة يومين. واستجوبتها الشرطة عدة مرات. ربما بدا انتقادها قاسياً، ولم يعجب معظم الإسرائيليين، ولكنه لا يزال مشروعاً، وفي رأيي، صحيحاً إلى حد كبير. إنها تنتظر الآن لترى ما إذا كانت ستُتهم «بالتحريض» استناداً أيضاً إلى مقالاتها الأكاديمية التي راجعها أقرانها.
ومن التطورات المقلقة أيضاً مشروع قانون مثير للجدل من قِبَل الاتحاد الوطني لطلبة إسرائيل، الذي يلزم الجامعات بفصل أي شخص، بمن في ذلك الأساتذة الدائمون، من وظيفتهم بسبب أي انتقاد للدولة أو الجيش يعده وزير التعليم «تحريضاً». لا تدعم جميع اتحادات الطلاب المحلية، بما في ذلك فرع الجامعة العبرية، مشروع القانون، والجامعات نفسها تعارضه بشدة. آمل ألا يتم اعتماده، لكن الائتلاف الحكومي، وكذلك جزء من المعارضة، يضغطون بشدة في ذلك الاتجاه. من المخزي حقاً أن يدفع طلاب في المجتمع الأكاديمي الإسرائيلي إلى مثل هذا الإجراء الديكتاتوري والشمولي، ومن المخيف التفكير في النتائج إذا تم اعتماد النص بالفعل.
إنني أتفق مع أغلب تقييمات الأمم المتحدة وغيرها، بما في ذلك المذكرات الصادرة حالياً عن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان، التي تنص على أن هجوم حماس كان مروعاً وإجرامياً، وينطوي على جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ورغم أن البعض يعده إبادة جماعية، فإنني لا أتفق مع هذا الاستنتاج. إنها جريمة فظيعة، خصوصاً استهداف المدنيين، وتدمير الكيبوتسات، واحتجاز الرهائن، بمن في ذلك الأطفال. لكن وصف تلك الأفعال بالإبادة الجماعية يبالغ في التعريف إلى حد تجريده من أي معنى.
لقد رفضت الجامعة صراحة وصف نادرة شلهوب كيفوركيان أفعال إسرائيل بالإبادة الجماعية. فقد صرحوا بأنه من الفظيع أن نطلق عليه إبادة جماعية، على الرغم من أن عديداً من الخبراء القانونيين والمؤرخين وخبراء الإبادة الجماعية مثل راز سيجال وماريون كابلان وفيكتوريا سانفورد ورونالد سوني وفرانشيسكا ألبانيزي يستخدمون هذا المصطلح. ويعتقد خبراء بارزون آخرون مثل عمر بارتوف أن الوضع قد يكون في طريقه إلى التحول إلى إبادة جماعية. ونحن نعلم أيضاً أن أعلى محكمة على وجه الأرض، محكمة العدل الدولية، حكمت في يناير على عدة تدابير مؤقتة وذكرت أن من الممكن أن تكون حقوق الفلسطينيين وفقاً لاتفاقية الإبادة الجماعية قد انتهكت، أو بعبارة أخرى، يمكن وصف ما يحدث في غزة بالإبادة الجماعية.
أعتقد أن رفض هذا الاتهام بحجة أنها «لا أساس لها» هو خطأ فادح. وبصفتنا أكاديميين، فإن دورنا هو فحص الحقائق واستخلاص النتائج، وليس رفض المصطلحات أيديولوجياً. وبينما قد يستنتج البعض أن الأمر ليس إبادة جماعية، فإن تسميتها كذلك منطقي، بسبب الأدلة وعديد من الخبراء الذين توصلوا إلى نفس النتيجة. إن رفضها باعتبارها فظاعة دون النظر في الحقائق والحجج يتناقض مع التزامنا الأكاديمي بمعرفة الحقيقة.
أجل. إن الحكومة الألمانية ومعظم وسائل الإعلام الألمانية متحيزة ومخطئة ومنافقة عندما يتعلق الأمر بجرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين. وهذا الموقف ليس جديداً. فألمانيا تدعم إسرائيل وروايتها بسبب فكرة Staatsräson الألمانية، (أو مصالح الدولة)، التي تربط شرعية الدولة بدعمها لإسرائيل. والأمر لا يقتصر على أنهم لا يريدون رؤية ما يحدث. بل إنهم رافضون لذلك! وهذا الدعم الثابت الذي يُنظر إليه على أنه تفويض مطلق لأفعال إسرائيل، بما في ذلك ما أعتبره إبادة جماعية، ليس شيئاً جيداً لإسرائيل.
إن ألمانيا الدولة التي ارتكبت الهولوكوست تحت الحكم النازي، يجب أن تقف من أجل القيم العالمية، ويجب أن ينطبق شعار «لن يتكرر ذلك أبداً» على الجميع. يأتي ما يقرب من 30% من واردات إسرائيل من الذخيرة والأسلحة من ألمانيا. وهذا لا يساعد الفلسطينيين ولا الإسرائيليين. إن قضية قمع ألمانيا لحرية التعبير تسبق الحرب الحالية، إذ تعتبر الدولة الألمانية أي انتقاد لإسرائيل تقريباً، بما في ذلك الانتقادات التي يعبر عنها اليهود، معادياً للسامية. إن وسائل الإعلام والحكومة الألمانية تتجاهل عمداً الواقع في إسرائيل وفلسطين، مما يتيح لإسرائيل ارتكاب الجرائم ومواصلة سياسات الفصل العنصري والضم والاحتلال والاستيطان. ولا أعتقد أن تصرفات ألمانيا تساعد إسرائيل، بل على العكس، فهي تدفع المجتمع الإسرائيلي إلى هاوية قد لا يتمكن من التعافي منها.
إن الحكومة وعديداً من المستوطنين وأنصارهم يرون في الحرب فرصة لتوسيع المستوطنات والاستيلاء على الأراضي وطرد الفلسطينيين. لقد قُتل أكثر من 500 فلسطيني في الأراضي المحتلة على يد الجيش الإسرائيلي والمستوطنين منذ بدء الحرب. أنا جزء من مجموعة إسرائيلية تسمى «نشطاء وادي الأردن» التي تحاول حماية مجتمعات الرعاة الفلسطينيين ومساعدتهم في الحفاظ على أراضيهم وسبل عيشهم. لقد شهدت بنفسي عنف المستوطنين. مؤخراً وقعت حادثة مروعة إذ هاجم مستوطنون من شدموت محولا رعاة ومزارعين فلسطينيين، وسرقوا سيارة، وحطموا جميع نوافذها، وضربوا الناس وأصابوهم، فهم يرهبونهم ويضايقونهم باستمرار. من الواضح أن المستوطنين يستغلون الحرب لتوسيع أراضيهم، وطرد الفلسطينيين من أراضيهم، وبخاصة في المنطقة «ج» من الضفة الغربية، و«تهويد» المنطقة.
في كثير من الحالات، يدعم الجيش والشرطة تصرفات المستوطنين، سواء بشكل نشط أو سلبي، من خلال عدم التدخل عمداً أو عدم محاسبة الجناة. لا تخدم الشرطة سيادة القانون بل المستوطنين الخارجين عن القانون. وبالتالي، فإن المهاجمين لا يحاكمون تقريباً أبداً. في نهاية المطاف، فرضت الولايات المتحدة ودول أخرى عقوبات على هؤلاء المستوطنين لأنها أدركت أن النظام القانوني الإسرائيلي نادراً ما يحاسبهم.
في عام 2017، نشر بتسلئيل سموتريتش ما يسمى «الخطة الحاسمة»، التي عرضت على الفلسطينيين خيارين: قبول العيش في ظل نظام الفصل العنصري أو المغادرة. في الواقع، لقد هدد سموترتيش بإبادة الفلسطينيين الذين يقررون معارضة هذين الخيارين. تتمتع هذه الخطة التي صممها سياسيون رفيعو المستوى، بدعم واسع النطاق. أظن أنه حتى لو لم تتبنها الحكومة الحالية رسمياً، فإن روحها هي التي تحدد سياستها.
إن المزاج يتغير شيئاً فشيئاً، حيث يدرك كثير من الإسرائيليين أن الطريقة الوحيدة لإعادة الرهائن هي التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار. كما أن البعض لم يعد يرى جدوى الحرب. ومع ذلك، فإن الأغلبية لا تزال تدعم الحرب ولا شك أنها عمياء تماماً عن الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في غزة.
هناك أمر إيجابي أود أن أشير إليه وهو أن المنظمات مثل نشطاء وادي الأردن، التي ذكرتها من قبل أو الحركات الشعبية مثل Standing Together تنمو أيضاً، على الرغم من أن هذه المجموعات صغيرة جداً مقارنة ببقية المجتمع. ومن بين الإجراءات الجديرة بالملاحظة التي اتخذتها Standing Together هي مرافقة قوافل المساعدات الإنسانية، التي تم حظرها وتخريبها من قبل المستوطنين واليمينيين، إلى غزة. حتى إن وزير الأمن القومي إيتمار بن جفير أمر الشرطة بعدم حماية القوافل، مما سمح بحدوث التخريب. قام نشطاء Standing Together بحماية الشاحنات حتى وصلت إلى معبر غزة الحدودي.
تتألف هذه الحركة في الأساس من اليهود والعرب من داخل حدود عام 1948، الذين يحتجون على الحرب ويطالبون بإطلاق سراح الرهائن، لأنهم يدركون أن الحرب لن تؤدي بنا إلى أي مكان وأن الجانبين يدفعان ثمناً باهظاً بالفعل. ولكن هذه الأصوات تتعرض لقمع شديد من قِبَل الحكومة والشرطة، وحتى المسؤولين المحليين. مثل رئيس بلدية حيفا يونا ياهاف، الذي قال إن المظاهرات ضد الحرب لا ينبغي أن تجري في مدينته.
لن يأتي من هذه الحرب أي خير، ولا أرى أي مخرج من هذا الطريق المسدود. لقد عشت طيلة حياتي في القدس ناشطاً وأكاديمياً، أعمل وأكتب على أمل التغيير. وفي كتاب مشترك مع صديقي وزميلي الأستاذ بشير بشير بعنوان «الهولوكوست والنكبة: قواعد جديدة للصدمة والتاريخ»، وفي مقالات أخرى كتبناها، تصورنا حلاً ثنائي القومية قائماً على المساواة. ويُبنى هذا الحل حول المساواة في الحقوق للجميع، سواء حقوق جماعية أو فردية. لكن الآن تبدو هذه الرؤية أبعد من الخيال العلمي.
إن حل الدولتين ليس سوى سراب يستخدمه المجتمع الدولي، إذ لا يوجد مسار واقعي لتحقيق حل الدولتين سيعطي للفلسطينيين حقوقهم قابل للتطبيق. لم يترك توسيع المستوطنات أي مجال لذلك، ولم يتم حتى النظر في فكرة الدولتين المتساويتين. وحتى المقترحات الأكثر تقدمية من اليسار الإسرائيلي والمجتمع الدولي لا ترقى إلى الحد الأدنى من الكرامة والسيادة والاستقلال الذي يمكن للفلسطينيين قبوله. في المجتمع الإسرائيلي، تنتشر العنصرية والعنف والعسكرة والتركيز النرجسي على معاناة الإسرائيليين فقط إلى حد يجعل أي دعم شعبي لأي حل غير مزيد من القوة والقتل غائب تقريباً.
الوضع الراهن غير قابل للاستمرار لكنه سيستمر في خلق مزيد من العنف. إن إسرائيل التي لم تكن ديمقراطية كاملة منذ البداية، تفقد حتى سماتها الديمقراطية الجزئية. يوجد اليوم تحت السيطرة الإسرائيلية ما يقرب من 7.5 مليون يهودي و7.5 مليون فلسطيني بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط. يتمتع اليهود بحقوق كاملة بينما لا يتمتع الفلسطينيون بأي حقوق أو حتى بحقوق جزئية. لقد أصبح المجتمع اليهودي الإسرائيلي أكثر عدوانية وتوسعياً واستبداداً. لقد أسهمت ألمانيا والولايات المتحدة ومعظم الدول الغربية بشكل كبير في الطريق المسدود الحالي. أنا متشائم للغاية ومكتئب بشأن المستقبل. أقول هذا بحزن شديد لأن إسرائيل هي مجتمعي وموطني.
ومع ذلك، فقد أظهر لنا التاريخ أن المستقبل قد يكون غير قابل للتوقع، وربما تتغير الأمور للأفضل، لكن هذا يتطلب ضغوطاً دولية هائلة. تلك الفكرة المجردة هي أملي الوحيد.