معرفة

لمدة 70 يوماً: دمشق عاصمة للخلافة العباسية

من سامراء إلى دمشق.. لماذا فر الخليفة العباسي المتوكل على الله إلى المدينة التي شهدت المذابح التي ارتكبها بنو العباس بحق أحفاد معاوية؟

future صورة متخيلة لمدينة بغداد في العصر العباسي

عام 847م تُوفّي الخليفة العباسي الواثق بالله، لتبدأ فوراً إجراءات تنصيب ولي عهده وشقيقه جعفر حفيد هارون الرشيد. خلال فترة ولاية عهده لم يحظَ المتوكل بثقة أخيه الخليفة حتى إنه عيّن عليه رجلين لمراقبته ونقل كل أخباره للخليفة.

هذا الشعور انتقل إلى رجال الحاشية أيضاً فاستشعروا القلق من خلافة جعفر المنتظرة بعد رحيل الخليفة الواثق حتى إن بعضهم طالبوه بعزله من ولاية العهد وتنصيب ابنه محمد بدلاً منه، لكن الخليفة العباسي رفض بدعوى عدم رغبته في تحمُّل أعباء الخلافة وتبعاتها حياً وميتاً.

رغم هذا فإن بعض رجال الحاشية أصرّوا على فكرة عدم صلاحية جعفر للخلافة بعد وفاة الواثق، ورتّبوا لتعيين محمد بن الواثق بعده لكنه كان طفلاً صغيراً لا يصلح للخلافة فاضطروا لتنصيب جعفر، ومنحه أحمد بن داؤد القاضي لقب «المتوكل على الله».

أجواء خانقة في سامراء

بعد مرور سنوات على تولي الخليفة المتوكل الحُكم، أبدى تبرمه من سيطرة القادة الأتراك على كافة مقاليد الحُكم في العاصمة سامراء. بحسب المرويات التاريخية فإن المتوكل فكر في دخول صدام عسكري مع الأتراك وقتل بعض قادتهم ومصادرة أملاكهم لكنه تراجع عن ذلك لاحقاً بسبب سيطرتهم الكاملة على سامراء وخوف الخليفة على سلامته.

زاد الطين بلة معرفة الخليفة أن هذه الأنباء تسربت إلى الأتراك فبدؤوا في التفكير في التخلص منه وتوليه ابنه المنتصر بدلاً منه.

إزاء كافة هذه التحديات تفتق ذهن المتوكل عن فكرة خارج الصندوق، فطالما أنه غير قادر على بسط سيطرته على عاصمته فلينتقل إلى عاصمة جديدة يُشكل موازين قواها على هواه، فقرر الانتقال إلى دمشق وجعلها عاصمة للخلافة العباسية.

فكرة خارج الصندوق

لم ينتقِ المتوكل دمشق عبثاً وإنما وقَعَ اختياره عليها بسبب بُعدها عن النفوذ التركي والفارسي، كما أنها المعقل القديم للأمويين وبالتالي فإن الهاشميين لن يشكّلوا أغلبية فيها وهو ما يقي الخليفة من أي مؤامرة يحيكها ضده أبناء عمه لنيل مقعده.

وهنا تتجلى المفارقة التاريخية؛ فدمشق هي العاصمة التاريخية للدولة الأموية، وبسقوطها في أيدي العباسيين عقب انتصارهم في معركة الزاب انتهت الدولة الأموية. كانت المدينة شاهدة على المذابح التي ارتكبها بنو العباس بحق أحفاد معاوية. كما مارَس العباسيون فيها أعمال قتل ونهب وتخريبٍ واسعة، والآن باتت على مشارف عمليات بناء وعمران لم ترها من قبل بأمرٍ من خليفة عباسي آخر سعياً منه لأن تتحوّل إلى عاصمة الخلافة العباسية لتُنقذ ما تبقّى من هيبة الخلافة العباسية.

يقول طارق فتحي في كتابه «تاريخ الدولة الإسلامية في العصر العباسي»: كان (يقصد الخليفة المتوكل) يروم نقل الخلافة إلى دمشق ليجعل العرب عمادها وأعوانها، برماً بالترك وكثرة ما أحدثوا في الدولة من فوضى وإفساد لشؤون العامة، ولم ينجُ الخلفاء من شرّهم.

دمشق عاصمةً للخلافة العباسية

في محاولة لتبرير تلك الخطوة غير المسبوقة، أشاع المتوكل أنه سينتقل إلى دمشق لأن صحته بحاجة إلى الاستشفاء بأجواء الشام، وهو الخطوة التي أثارت الأسى في نفوس أهل بغداد. حُزن عبّر عنه الشاعر يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُهَلَّبِيُّ بقوله: «أظنُّ الشام يشمت بالعراق/ إذا عزم الإمام على انطلاق... فإن تدع العراق وساكنيها، فقد تبلى المليحة بالطلاق».

وفي 862م، دخل الخليفة العباسي دمشق وعزم على البقاء فيها؛ فأمر بنقل كل دواوين المُلك إليها وبنى لنفسه قصراً كبيراً بها. لم يُبنَ ذلك القصر –ولا قصور معاوني الخليفة- في قلب دمشق، وإنما استقرَّ المتوكل –تحديداً- في منطقة تُدعى داريا بالقرب من دمشق. لاحقاً، أمر الخليفة ببناء مساكن لحاشيته في نواحي دمشق، وكذلك جرى تدشين مخيمات للجند على مشارف المدينة.

وبحسب كتاب «البداية والنهاية» لابن كثير فلقد صلى المتوكل عيد الأضحى في دمشق، لتكون أول صلاة مناسبة رسمية تُقام في المدينة الشامية كعاصمة لدولة الخلافة بأسرها.

التراجع والعودة إلى العراق

وفقاً للمرويات التاريخية، فإنه بعد شهرين و10 أيام تراجع الخليفة المتوكل عن قراره وعاد إلى العراق من جديد. لا نعلم كثيراً عن تفاصيل تلك العودة ولا أسبابها. بعض المؤرخين اعتبروا أن الأجواء في دمشق لم تكن ملائمة لصحة الخليفة فاضطرَّ للعودة من جديد، مثل الطبري الذي ذكر أن «مغادرة الخليفة المتوكل لدمشق كانت لأسبابٍ مناخية، فقد تصنّع له أن مناخ دمشق غير مناسب، ولهذا عاد المتوكل ومن معه».

في الجزء العاشر من كتابه الموسوعي «البداية والنهاية»، حكى ابن كثير عن سبب رحيل المتوكل السريع عن دمشق، فكتب: «رأى أن هواءها بارد ندي وماءها ثقيل بالنسبة إلى هواء العراق ومائه، ورأى الهواء بها يتحرك من بعد الزوال في زمن الصيف، فلا يزال في اشتداد وغبار إلى قريب من ثلث الليل، ورأى كثرة البراغيث بها، ودخل عليه فصل الشتاء فرأى من كثرة الأمطار والثلوج أمراً عجيباً، وغلت الأسعار وهو بها لكثرة الخلق الذين معه، وانقطعت الأجلاب بسبب كثرة الأمطار والثلوج، فضجر منها».

فنّد باحثون تلك النظرية من منطلق تحليل حالة الطقس التي لازمت دخول المتوكل دمشق، فالفترة كانت في منتصف فصل الصيف حيث لا أمطار ولا ثلوج في إقليم دمشق بأكمله، لذا وضعوا فرضيات أخرى أكثر منطقية –وأقل شيوعاً في المرويات التاريخية- منها أن عودة الخليفة كانت بسبب انتشار وباء في دمشق، كما خمّن غيرهم أن ذلك التراجع السريع كان نتيجة ضغوط كبيرة مارسها القادة الأتراك الذين صاحبوا المتوكل إلى دمشق.

وهو ما نستشفه من رواية ذكرها المسعودي عن إضراب نظمه الجند أمام قصر الخليفة في دمشق، وحينما قدّم لهم المتوكل الأموال لإسكاتهم رفضوا أخذها، لأنهم لم يكونوا يريدون منه إلا العودة إلى بغداد، وبحسب الرواية استجاب الخليفة لضغوط جنوده وغادر دمشق عائداً إلى العراق.

وفي إشارة لافتة، فإن الخليفة بعد عودته إلى العراق لم ينزل بسامراء أيضاً وأصرَّ على البقاء خارجها، فأعاد كرّة بناء عاصمة جديدة هذه المرة في بلاد الرافدين حيث نزل في منطقة تُعرف بِاسم الماحوزة، وسمّاها المتوكلية وبنى فيها عدداً من القصور، مثل: قصر اللؤلؤة، القصر الهاروني، القصر الجعفري. وفي المتوكلية وزّع الخليفة الأراضي على أصحابه وشقَّ لهم ترعة ماء عذب وأمرهم ببناء بيوتٍ حول قصره، ففعلوا ذلك وعمرت المنطقة.

لم يُكتب للمتوكلية استضافة الخليفة كثيراً بعدما ضاق القادة الأتراك بمحاولاته المستمرة في الهرب من تحت سيطرتهم، فتآمروا عليه وقتلوه، إعلاناً ببدء العصر العباسي الثاني، الذي اشتهر بضعف الخلفاء وسيطرة العناصر الأجنبية على مقاليد الأمور في بغداد.

# تاريخ # الدولة العباسية # تاريخ وحضارة

«معركة خلدة»: عن الهزائم التي تلد انتصارات
هدد بقاء الإمبراطورية: التعصب الرياضي في القسطنطينية
من «دقسة» إلى «أرسلان»: رحلة الدروز من محاربة الاستعمار للدفاع عنه

معرفة