بعد ثورته التي لم يكتب لها النجاح على الخليفة الأموي الثاني يزيد بن معاوية، قُتل الحسين بن علي بن أبي طالب، سبط النبي، في كربلاء، عام 61 هـ، هو وعدد من أهل بيته، في معركة غير متكافئة.
على الرغم من ضعف شرعية دولة بني أمية، أمام شخصية مثل الحسين بن علي، فإن ثورة الأخير على الخليفة الأموي يزيد بن معاوية، انتهت نهاية كارثية.
لماذا لم يكتب النجاح لثورة الحسين بن علي بكل ما يتمتع به من مقومات دينية - تاريخية، أمام دولة عانت باستمرار من هشاشة شرعيتها الدينية؟
بعد أعوام من الحروب الأهلية الطاحنة بين المسلمين، بدأت بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان، رضي الله عنه، عام 35 هـ حتى مقتل الخليفة الراشدي الرابع، علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، عام 40 هـ، اجتمع أمر الأمة، وسكنت الفتنة - مؤقتاً - بعد إعلان الحسن بن علي بن أبي طالب، تسليم أمر الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان، في عام 41 هـ، الذي وصف بعام الجماعة.
يذكر المؤرخ أبو محمد أحمد بن أعثم الكوفي، في كتابه «الفتوح»، رواية الصلح الذي تم بين الحسن بن علي ومعاوية بن أبي سفيان، التي تؤكد أن الحسن عرض بعض الشروط على معاوية، لتسليمه أمر الخلافة أبرزها هي ترك الأمر -الخلافة- شورى بين المسلمين، بعد موته أي معاوية، وقد وافق الأخير على شروط الحسن.
تقول الرواية: «ثم دعا الحسن بن علي بكاتبه فكتب: «هذا ما اصطلح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب، معاوية بن أبي سفيان، صالحه على: أن يسلم إليه ولاية أمر المؤمنين على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة الخلفاء الصالحين. وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد لأحد من بعده عهداً، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين. وعلى أن الناس آمنون إذ كانوا من أرض الله في شامهم وعراقهم وتهامهم وحجازهم».
لم يلتزم معاوية ببنود هذا الاتفاق، وخصوصاً بعد موت الحسن بن علي عام 49 أو 50 هـ.
لا نعلم على وجه التحديد، متى بدأت تداعب معاوية فكرة ولاية العهد ليزيد، من بعده، كما أن كتب التاريخ، تختلف في ذكر بداية هذا الأمر.
فكتاب «الإمامة والسياسة»، لابن قتيبة الدينوري، يذكر رواية تؤكد أن المغيرة بن شعبة صاحب هذه الفكرة، وعرضها على معاوية: «وذكروا أنه لما استقامت الأمور لمعاوية، استعمل على الكوفة المغيرة بن شعبة، ثم همَّ أن يعزله ويولي سعيد بن العاص، فلما بلغ ذلك المغيرة قدم الشام على معاوية، فقال: يا أمير المؤمنين، قد علمت ما لقيت هذه الأمة من الفتنة والاختلاف، وفي عنقك الموت، وأنا أخاف إن حدث بك حدث أن يقع الناس في مثل ما وقعوا فيه بعد قتل عثمان، فاجعل للناس بعدك علماً يفزعون إليه، واجعل ذلك يزيد ابنك».
الرواية توضح أن سبب عرض هذه الفكرة غير العادية من المغيرة إلى معاوية، كانت راجعة إلى خوف الأول من عزله من منصبه - ولاية الكوفة - فقرر طرحها على معاوية، كفكرة ستجعل الأمر في البيت الأموي وتصبح ملكاً يتوارث.
بينما يورد بن أعثم الكوفي، في كتابه «الفتوح»، رواية تؤكد أن صاحب هذه الفكرة كان عمرو بن العاص، وعرضها على معاوية بعد موت الحسن بن علي: «وتوفي الحسن بن علي بالمدينة، فأقبل عمرو بن العاص حتى دخل على معاوية فقال: يا أمير المؤمنين! توفي الحسن بن علي بالمدينة وقد قر هذا الأمر فيك وفي ولدك وفيمن تؤمي إليه من أهل بيتك، ويجب عليك أن تعقد لرجل من أهلك عقداً في أعناق المسلمين يقوم بأمرهم من بعدك، ولكن ذلك عن الرضا والاختيار. فقال له معاوية: ننظر في ذلك أبا عبدالله وتنظر أنت أيضاً، ويقضي الله في ذلك ما يحب ويرضى».
إذن لا نعلم ما هي بداية تلك الفكرة، ولكن لا يوجد شك في أن فكرة توريث الحكم، كانت في ذهن معاوية، ولكن كان يتخوف من الصحابة وأبناء الصحابة الموجودين، وخشي الانقسام الذي عانى المسلمون منه فترة زمنية طويلة، أن يعود مرة أخرى.
أعلن معاوية، ولاته على الأمصار، قراره، وطلب منهم أخذ البيعة لابنه يزيد، كوليٍّ للعهد، ولكن نصحوه بتأجيل ذلك، حتى يأخذ البيعة أولاً من أهل المدينة المنورة، التي يوجد منها من تبقى من صحابة النبي، وأبنائهم.
تؤكد الروايات أن معاوية كان يبحث عن إجماع لهذه البيعة، فقرّر الذهاب إلى الحجاز، للحج، وقرر إرضاء الناس، بتفريقه للمال في مكة والمدينة.
يذكر ابن أعثم الكوفي، في الفتوح، رواية تقول: «ولم يزل معاوية يروّض الناس على بيعة يزيد، ويعطي المقارب، ويداني المتباعد، حتى مال إليه أكثر الناس، وأجابوه إلى ذلك».
تؤكد الدكتورة بثينة بن حسين في كتابها «الفتنة الثانية: في عهد الخليفة يزيد بن معاوية» أن معاوية تمكن من أخذ البيعة لابنه يزيد من جميع الناس، ما عدا أربعة أشخاص، وهم: الحسين بن علي، وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن عمر بن الخطاب، وعبدالرحمن بن أبي بكر الصديق.
في أيامه الأخيرة، وبعد رجوعه من الحجاز إلى الشام، يقدم معاوية لابنه يزيد، تحليلاً لشخصيات من رفضوا البيعة، وكيف يتعامل معهم يزيد، مع توقعات أفعالهم.
الرواية ذُكرت في كتاب «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم»، لعبدالرحمن الجوزي، وتقول: «وعهد -أي معاوية بن أبي سفيان- إلى ابنه يزيد حين مرض فيها فقال له: يا بني إني قد كفيتك الرحلة والترحال ووطأت لك الأشياء وفللت لك الأعداء وأخضعت لك أعناق العرب وإني لأتخوف عليك أن ينازعك في هذا الأمر الذي أسندت لك إِلا أربعة نفر من قريش: الحسين بن علي، وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن الزبير، وعبدالرحمن بن أبي بكر. فأما عبدالله بن عمر فرجل قد وقَذَته العبادة وإذا لم يبق أحد غيره بايعك. وأما الحسين فإن أهل العراق لن يدعوه حتى يخرجوه فإن خرج عليك فظفرت به فاصفح عنه فإن له رَحِماً ماسة وحقاً عظيماً، وأما ابن أبي بكر فليست له همة إلا في النساء واللهو فإن رأى أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثلهم، وأما الذي يجثم جثوم الأسد ويراوغك مراوغة الثعلب فإذا أمكنته فرصة وثب فابن الزبير فإن هو فعلها بك فقدرت عليه فقطعه إرباً إرباً».
إن ثبتت صحة هذا الرواية، والموجودة في أكثر من مصدر، فإنها دالة على الحس السياسي العالي الذي كان يتمتع به معاوية بن أبي سفيان، إذ استطاع تنبؤ تصرفات هذا الرباعي، التي حدثت بالفعل، فعبدالرحمن بن أبي بكر، مات قبل موت معاوية، أما الحسين وعبدالله بن الزبير، فكان الأمر مثلما قال معاوية.
مات معاوية عام 60 هـ، وظل هذا الثلاثي، رافضاً بيعة يزيد، ويبدو أن السبب واضح، فكل شخص منهم يرى أنه أحق من يزيد بالأمر، فهم أبناء كبار صحابة النبي، وكان الحسين بن علي، هو أحقهم بالأمر بلا منازع، لأنه يتميز عنهم جميعاً، بقربه من النبي، فهو حفيده.
بعد وفاة معاوية، وإعلان يزيد خليفة على المسلمين، كان أول قرار يتخذه، هو حل مشكلة أبناء الصحابة الذين رفضوا بيعته وهم، الحسين، عبدالله بن الزبير، عبدالله بن عمر.
يورد المؤرخ، أبوالحسن علي عز الدين بن الأثير، في كتابه «الكامل في التاريخ»، القرارات التي اتخذها يزيد، بخصوص بيعته، حيث أرسل إلى واليه على المدينة المنورة، الوليد بن عتبة، يأمره بأخذ البيعة من الثلاثي.
يقول بن الأثير: «لم يكن ليزيد همة حين ولي إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية بيعته، فكتب إلى الوليد يخبره بموت معاوية، وكتاباً آخر صغيراً فيه، أما بعد فخذ حسيناً، وعبدالله بن عمر، وابن الزبير، بالبيعة أخذاً ليس فيه رخصة حتى يبايعوا والسلام».
الرواية تؤكد، أن يزيد كان يشعر بهشاشة بيعته مقارنة، بهذا الثلاثي، الذين قد يتفوقون عليه، لو رجع الأمر شورى بين المسلمين، ولذلك أصر بعناد على أخذ البيعة منهم، بقوة وفي أسرع وقت.
يبدأ والي المدينة، في إرسال الرسل إلى الحسين، وعبدالله بن الزبير، ليبايعوا يزيداً بالخلافة، ولم يتمكن الوليد بن عتبة- والي المدينة- من النجاح في مهمته، لضعف شخصيته، وكان يود ألا تقع فتنة في مجتمع المدينة، وتساهل مع الثنائي اللذين قررا الهروب والتوجه في أسرع وقت إلى مكة.
أما عبدالله بن عمر، فكان كارهاً للفتن، وأكد لهم أنه سوف يبايع عندما يبايع الجميع يزيد بن معاوية.
تقول رواية طويلة استقطعنا منها جزءاً، ذكرها أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البَلَاذُري، في كتابه «أنساب الأشراف»: «.... وتحمّل ابن الزبير في ليلته - السبت لثلاث بقين في رجب سنة 60- ومعه أخوه جعفر بن الزبير..... وخرج الحسين ليلة الأحد، ليومين بقيا من رجب سنة 60».
تبدأ فكرة الثورة، في عقل الحسين، أولى خطواتها العملية، عند وصوله إلى مكة، ويعلن لعبدالله بن الزبير، أنه ينوي التوجه إلى الكوفة، لأنها بحسب قول الحسين «فإن شيعتي فيها، وأشرافها قد كتبوا إليّ في القدوم عليهم».
كان توجه الحسين، إلى الكوفة، في مصلحة عبدالله بن الزبير، الذي كان يرى، أنه لا يستطيع أن يُقارَن بشخصية في حجم وثقل الحسين بن علي.
يقول البلاذري في كتابه «أنساب الأشراف»: «ويأتي - أي عبد الله بن الزبير - إلى الحسين بن علي، وحسين أثقل الناس عليه لعلمه، بأن أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين في البلد، لأن حسيناً كان أعظم في أنفسهم وأطوع عندهم».
في أثناء ذلك، يبدأ وصول كتب أهل العراق، إلى الحسين بن علي، يطلبون منه القدوم عليهم، ويلحون عليه بذلك، فيقرر استشارة أهله وخاصته من بين هاشم.
يورد عز الدين بن الأثير، في الكامل في التاريخ، نص إحدى تلك الرسائل، التي أرسلها أشراف الكوفة، إلى الحسين: «بسم الله الرحمن الرحيم سلام عليك فإننا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها وغصبها فيئها وتأمر عليها بغير رضا منها ثم قتل خيارها واستبقى شرارها وإنه ليس علينا إمام فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق، والنعمان بن بشير- والي مدينة الكوفة- في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا عيد ولو بلغنا إقبالك إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله تعالى والسلام عليك ورحمة الله وبركاته».
هذه الرسالة توضح لنا استعداد أشراف الكوفة، وعلى رأسهم، سليمان بن صرد الخزاعي، والمسيب بن نجبة، ورفاعة بن شداد، وحبيب بن مظاهر، للانقلاب على السلطة الأموية، ومساندة الحسين بن علي في ثورته على يزيد.
بعد قراءته لرسائل أشراف الكوفة، يرد عليهم الحسين، بأنه أرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب، ليرى وضع مدينة الكوفة على حقيقتها، ويبدو أن الحسين بن علي، كانت لديه شكوكه تجاه مواقف أشراف الكوفة، لأنه اختبرهم من قبل، مع والده الخليفة علي بن أبي طالب، ومن بعده الحسن بن علي.
وطلب الحسين من رسوله إلى الكوفة، مسلماً، أن يرصد وضع المدينة، ومدى صدق تلك الرسائل، وأن يبلغه بالقدوم إذا كان الوضع كما تقول رسائل الأشراف.
وصل مسلم بن عقيل مدينة الكوفة، ونزل في دار أحد شيعة الحسين، وهو المختار الثقفي، بحسب رواية البلاذري، وفي رواية أخرى، نزل على هانئ بن عروة، ووصلت إلى والي الكوفة، وهو النعمان بن بشير، أخبار وصول مسلم، وتحركات شيعة الحسين، فدعا أهل الكوفة إلى الجماعة، وحذرهم من الفتنة والانقسام، ولكن نظراً لشخصيته اللينة، وعدم حزمه للأمر ظلت شيعة الحسين تتحرك بكثافة على أرض الكوفة.
وبسبب تدهور حالة الكوفة، يبدأ كبار المدينة، ممن كان هواهم مع بني أمية، ويزيد من معاوية، في إرسال الكتب، إلى الأخير، يعلمونه تطورات الوضع، وضعف الوالي، ويطلبون منه تغييره في أسرع وقت، فيقرر يزيد ضم الكوفة، إلى عبيد الله بن زياد مع البصرة، ليصبح والي العراق بأكمله، ويطلب منه التوجه فوراً إلى الكوفة، والقضاء على ثورة شيعة الحسين، والقبض على مسلم بن عقيل.
يصل عبيد الله بن زياد، الكوفة، بطريقة، قد تدل على أن الأمور في المدينة متدهورة للغاية، وسلطة الدولة فيها، قد ضعفت للغاية.
ويورد البلاذري، «في أنساب الأشراف»، في رواية طويلة، مشهد دخول عبيد الله بن زياد الكوفة: «.... وشخص إلى الكوفة، ومعه المنذر بن الجارود، وشريك بن الأعور، ومسلم بن عمرو الباهلي، فوردها متلثماً بعمامة سوداء، وكان الناس يتوقعون ورود الحسين بن علي، فظنوا أنه الحسين، فساء ابن زياد تباشير الناس بالحسين، وغمه ذلك».
إذاً، دخل عبيدالله، الكوفة متخفياً، ومعه أشراف مدينة البصرة، وفي عدد قليل من خدمه، نظراً لسيطرة شيعة الحسين على المدينة، وخاف أن ينكشف أمره، ويقتل، فقرر التخفي، حتى يتمكن من القضاء على تلك الثورة والقبض على رسول الحسين، مسلم بن عقيل.
تمكن عبيد الله، من دخول قصر الإمارة، ليبدأ بفضل خبرته السياسية، القضاء على ثورة الحسين في الكوفة، بأقل الخسائر الممكنة.
يبدأ عبيد الله بن زياد، في البحث عن مسلم بن عقيل، وأرسل عيونه للبحث عنه، وفي الوقت نفسه، يقرر استخدام أسلحته التي ستمكنه من وأد ثورة الحسين، سريعاً في مهدها.
يذكر ابن الأثير، في كتاب الكامل في التاريخ رواية تقول: «ثم نزل -أي عبيد الله بن زياد- فأخذ العرفاء والناس أخذاً شديداً وقال اكتبوا لي الغرباء ومن فيكم من طلبة أمير المؤمنين ومن فيكم من الحرورية وأهل الريب الذين رأيهم الخلاف والشقاق، فمن كتبهم إلي فبرئ ومن لم يكتب لنا أحداً فليضمن لنا، ما في عرافته ألا يخالفنا فيهم مخالف ولا يبغ علينا منهم باغ، فمن لم يفعل فبرئت منه الذمة وحلال لنا دمه وماله وأيما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحد، لم يرفعه إلينا صلب على باب داره وألغيت تلك العرافة من العطاء».
الرواية المذكور مهمة، لأنها باختصار، توضح الطريقة التي اتبعها عبيد الله بن زياد، للقضاء على ثورة الحسين، وهي عن طريق استخدام مؤسسات الدولة، التي عملت على السيطرة على القبائل والعشائر، لإحكام قبضتها على الأمصار، المختلفة وخصوصاً، مدينة مثل الكوفة.
فالعرفاء الذين طلب منهم عبيد الله كتابة، أسماء الناس، سواء الغريب، أو الموالي للدولة، أو المخالفين لها «الحرورية» هم الخوارج، و«أهل الريب» ويقصد بهم شيعة الحسين، هم حلقة الوصل بين القبائل والعشائر والدولة، والغرض من هذه الوظيفة، هو تمكن الوالي، من معرفة حال القبيلة أو العشيرة، ويتم اختيار الشخص لهذه الوظيفة، من داخل القبيلة نفسها، ولكن لا يشترط أن يكون سيدها.
كما أن من أدوار العريف، مساعدة الوالي في إدارة المصر، ومعرفة أحوالها، وتوزيع العطاء السنوي، ومعرفة أسماء جميع أفراد العشيرة أو القبيلة.
تقول الدكتورة بثينة بن حسين، في كتابها «الدولة الأموية ومقوماتها الإيديولوجية والاجتماعية»، إن الوالي كان يعين العريف، ولا يستشير في ذلك العشيرة ولا الخليفة.
إذن فالعريف، كان يتبع والي المصر، بشكل كامل، وبعد سلسلة التهديدات التي قدمها عبيدالله بن زياد، إلى العرفاء، ضمن بذلك، رصد جميع أسماء من في الكوفة، وضمن أيضاً الولاء والطاعة، وتثبيط عزيمة من أراد الثورة، خوفاً من العقاب.
عَلِم مسلم بدخول بن زياد إلى الكوفة، ويصل إليه خبر خطبته، في نفس الوقت الذي يبدأ في حصوله على بيعة شيعة الحسين في المدينة، ليقرر التنقل من البيت المقيم فيه، والتوجه إلى أحد أشراف الكوفة، ليحتمي به، وهو هانئ بن عروة المرادي.
أرسل مسلم بن عقيل، وهو في دار هانئ بن عروة، رسالة إلى الحسين بن علي في مكة، يعمله بأن الكوفة أصبحت تنتظره، ويناشده الإسراع في الإقدام عليه، بعد مبايعة نحو 18 ألف مقاتل لمسلم. الرسالة ذكرها البلاذري، وتقول: «أما بعد، فإن الرائد لا يكذب أهله، إن جميع أهل الكوفة معك، فأقبل حين تنظر في كتابي».
يقرر الحسين التوجه إلى الكوفة، بعد وجوده في مكة المكرمة أكثر من أربعة أشهر.
وأثناء ذلك تمكن عبيد الله، من دس جاسوس، في الدائرة الصغيرة لمسلم بن عقيل، لمعرفة مكانة، وينجح هذا الجاسوس، في مهمته، فيقرر والي الكوفة، القبض على هانئ بن عروة، وحبسه في سجن القصر لإيوائه مسلماً، لتنفجر الأحداث، ويقرر مسلم أن تبدأ أحداث الثورة المسلحة فوراً.
توجه مسلم ومن معه من الثوار، إلى قصر الوالي، لتخليص هانئ بن عروة، وقتال عبيد الله وجنوده، ويخرج معه أربعة آلاف مقاتل فقط، من أصل 18 ألفاً كانوا قد بايعوه من قبل.
التفاصيل يذكرها البلاذري، حيث يقول: «وأتى مسلماً خبر هانئ فأمر أن ينادى في أصحابه وقد تابعه 18 ألف رجل، وصاروا في الدور حوله؛ فلم يجتمع إليه إلاّ أربعة آلاف رجل، فعبأهم ثم زحف نحو القصر؛ وقد أغلق عبيدالله بن زياد أبوابه وليس معه فيه إلا 20 من الوجوه و30 من الشرط، فوجه محمد بن الأشعث بن قيس، وكثير بن شهاب الحارثي، وعدة من الوجوه ليخذلوا الناس عن مسلم بن عقيل والحسين بن علي، ويتوعدوهم بيزيد بن معاوية وخيول أهل الشام، وبمنع الأعطية، وأخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب فتفرق أصحاب ابن عقيل عنه؛ حتى أمسى وما معه إلا نحو من 30 رجلاً».
عبر قراءة الرواية، نرى أن عبيدالله، استخدم السلاح الثاني له، بعد سلاح العرفاء، وهو أشراف القبائل، والذي ذكرهم البلاذري في روايته باسم «الوجوه»، حيث تمكن هؤلاء من تثبيط عشائرهم، وتهديدهم بقطع الأموال عنهم.
كانت مصلحة الأشراف، مع الدولة، وذلك نظراً للامتيازات المالية والوجاهة السياسية، التي يحصلون عليها بالقرب من الوالي، ولذلك حاربوا ثورة مسلم بن عقيل في الكوفة بكل قوتهم، للحفاظ على مصالحهم.
كان يعتمد النظام المالي لدولة بني أمية، على سيطرة الدولة على الأموال التي بين القبائل، عن طريق «بيت المال»، الذي كان يضم أسماء جميع أفراد القبائل والعشائر، والمبالغ المصروفة لتلك الأفراد المشاركة في الحروب والفتوحات.
بفضل دهاء عبيدالله بن زياد وهو الممثل للدولة، وعبر استخدامه لتنظيم ومؤسسات هذه الدولة، تمكن من إجهاض ثورة مسلم بن عقيل، حتى تفرق عنه من بايعوه من قبل، فأصبح وحيداً في الكوفة.
عندها تمكّن عبيدالله من القبض على مسلم بن عقيل وقتله هو وهانئ بن عروة، ثم أرسل رأسيهما إلى الخليفة الأموي يزيد بن معاوية.
وعن موت هذا الثنائي، يقول الشاعر الأخطل:
ولم يكُ عن يوم ابن عروة غائباً - كما لم يَغِب عن ليلة ابن عقيل
أخو الحرب ضرّاها فليس بناكلٍ - جَبانٍ ولا وَجب الفؤاد ثقيل
وفقاً للأحداث التي ذكرناها، نستطيع القول إن ثورة الحسين بن علي، كتب لها الفشل قبل أن تبدأ. فالأشخاص الذين طالبوه، بالإقدام عليهم إلى الكوفة، خذلوا رسوله، مسلم بن عقيل، وتركوه يواجه الموت وحيداً، ولم يكتفوا بذلك، بل البعض منهم، حارب مسلماً!
أبرزهم، كان شبث بن ربعي، وهو من الأشراف، الذين أرسلوا، إلى الحسين كتباً تطالبه بالقدوم للكوفة، وبعد تدخل عبيدالله واستخدامه للأشراف، وتهديده لهم بمصالحهم، تحول شبث من شخص مؤيد لثورة الحسين، إلى مقاتل ضدها، ليحارب مسلماً، كما أورد أبو جعفر الطبري في تاريخه.
أثناء تلك الأحداث، تحرك الحسين بن علي، متوجهاً من مكة إلى الكوفة، وفقاً للرسالة التي أرسلها مسلم بن عقيل، التي أكد فيها على ابن عمه، بإجماع أهل الكوفة عليه، وأنهم ينتظرون قدومه. وقبل سفره، قابَل الحسين بن علي عبدالله عباس ونصحه بعدم التوجه إلى الكوفة.
الحديث الدائر بين الثنائي، ذكره ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ: «وأتاه عبد الله بن عباس فقال له قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبين لي ما أنت صانع فقال له قد أجمعت السير في أحد يومي هذين إن شاء الله تعالى فقال له ابن عباس فإني أعيذك بالله من ذلك خبرني رحمك الله أتسير إلى قوم قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوهم فإن كانوا فعلوا ذلك فسر إليهم، وإن كانوا إنما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم وعماله تجبي بلادهم فإنما دعوك إلى الحرب ولا آمن عليك أن يغروك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك ويستنفروا إليك فيكونوا أشد الناس عليك فقال الحسين فإني أستخير الله وأنظر ما يكون».
ما قاله عبدالله بن عباس، هو الذي حدث فعلاً من أهل الكوفة كما ذكرنا من أحداث، حيث خذلوا رسول الحسين، وانتهى الأمر بمقتله وانفضاض الناس من حوله.
تصل أنباء تحرك الحسين من مكة، إلى عبيدالله بن زياد، فيبدأ في غلق مداخل ومخارج الكوفة، ليمنع أي تواصل بين الحسين وأهل الكوفة، كما بعث جنوده في مناطق مختلفة من الطريق لرصد الحسين ورسله.
بحسب رواية ابن الأثير، في الكامل في التاريخ علم الحسين بن علي بمقتل ابن عمه مسلم، وهو في منطقة الثعلبية- أحد المنازل الواقعة على طريق مكة والكوفة– وثبت أن كل نصائح أهله له وهو في مكة بعدم التوجه إلى الكوفة لأن أهلها سوف يخذلونه في محلها وعلم الحسين بصحتها.
تحت ضغط من آل عقيل لاستكمال المسير إلى الكوفة، ومواجهة نفس مصير مسلم، وافق الحسين بن علي، الذي كان يرى أن الرجوع إلى مكة هو القرار الأنسب.
تقول رواية ابن الأثير: «وأتاه خبر قتل مسلم بن عقيل بالثعلبية، فقال له بعض أصحابه ننشدك الله إلا رجعت من مكانك فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة بل نتخوف عليك أن يكونوا عليك، فوثب بنو عقيل وقالوا والله لا نبرح حتى يدرك ثأرنا أو نذوق كما ذاق مسلم فقال الحسين لا خير في العيش بعد هؤلاء فقال له بعض أصحابه إنك والله ما أنت مثل مسلم بن عقيل ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع».
على الرغم من اكتشاف حقيقة أمر أهل الكوفة، فإن أصحاب الحسين، كانوا يرون احتمال تغيير الأمر لو دخل الحسين بنفسه إلى الكوفة: «فقال له بعض أصحابه إنك والله ما أنت مثل مسلم بن عقيل ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك».
اقترب الحسين بن علي أثناء توجهه إلى الكوفة من جنود عبيدالله بن زياد والتي كان يرأسها الحر بن يزيد، الذي طلب من الحسين عدم دخول الكوفة ولكن الأخير يرفض، فينصحه الحر، الذي كان يخاف أن يقاتل سبط النبي، بأن يختار طريق مختلف لا يرجع منه إلى المدينة ولا يدخله الكوفة، فنزل كربلاء التي ستصبح المحطة الأخيرة في حياة الحسين بن علي.
انتهت ثورة الحسين بن علي بن أبي طالب بمقتله، رضي الله عنه، في كربلاء، بمحرم عام 61 هـ، يوم عاشوراء، عن عمر 56 عاماً، هو و73 فرداً من أهل بيته، بحسب رواية البلاذري.
يورد البلاذري، «في أنساب الأشراف»، حواراً قصيراً بين الحسين بن علي وعمر بن عبدالرحمن بن هشام المخزومي، قبل تحركه من مكة إلى الكوفة، قد يجيب على السؤال الصعب.
تقول الرواية: «ولما كتب أهل الكوفة إلى الحسين بما كتبوا به فاستخفّوه للشخوص، جاءه عمر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي بمكة فقال له: بلغني أنك تريد العراق وأنا مشفق عليك من مسيرك لأنك تأتي بلداً فيه عماله وأمراؤه ومعهم بيوت الأموال، وإنما الناس عبيد الدينار والدرهم، فلا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره، ومن أنت أحبّ إليه ممن يقاتلك معه، فقال له: قد نصحت ويقضي الله».
اعتمد الحسين على أهل الكوفة الذين وصفهم عمر المخزومي آنذاك بـ«عبيد الدينار والدرهم»، أي إن مصلحتهم كانت هي الأولوية الأولى والأخيرة، ولذلك تعامل أهل الكوفة، مع الحسين بن علي، مبنياً على العاطفة، وخصوصاً أن أهل هذا المصر، خذل من قبل، الحسن بن علي وعلي بن أبي طالب، فكانوا يريدون نصرة الحسين كتكفير عن الذنوب التي ارتكبوها بسبب خذلانهم لأهل البيت النبوي.
كما أن الحسين بن علي، لم يكن على علم، بمدى تطور مؤسسات الدولة الأموية، التي تمكنت من فرض سيطرتها بشكل متشعب على المجتمع الكوفي فكانت جميع القبائل في كل الأمصار تحت سيطرة الخليفة وواليه على المصر.
هذه السيطرة، من الممكن القول إنها كانت مضاعفة، في الكوفة، لأنها مدينة مميزة، فهي كانت عاصمة الخلافة في عهد علي بن أبي طالب، عدو مؤسس الدولة الأموية، معاوية بن أبي سفيان، ولذلك فهي مدينة متشيعة- ولو ظاهرياً- إلى آل البيت، فكان على الدولة إحكام سيطرتها الكاملة على عشائر وقبائل الكوفة.
وعبر مؤسسات الدولة، مثل بيت المال وديوان الجند، الذي من خلاله تتحكم الدولة في الأموال داخل المصر، حيث إنه هو المسؤول عن العطاء للجنود المقاتلين وحصر أسمائهم وانتمائهم قبلياً.
كما استخدمت الدولة الأموية، أفراد القبائل أنفسهم، للسيطرة على قبائلهم، عبر الأشراف، وهم كبار العشائر، التي تربطهم علاقات مالية واجتماعية مع الدولة، ولذلك كانت مصلحتهم دائماً مع مصلحة الوالي، فكانت النتيجة خذلانهم لثورة الحسين، وتثبيطهم لعزائم أفراد قبائلهم، وكانوا العامل الحاسم في القضاء على ثورة الحسين في الكوفة.
أما السبب الأخير، هو عدم وضوح «برنامج» الحسين بن علي السياسي. لم تنقل لنا المصادر، كيف سيتمكن الحسين من إدارة بلاد الإسلام، لو كتبت لثورته النجاح. فمعظم خطبه وأحاديثه، عند ذكر سبب ثورته، كانت ذات طابع ديني.
يذكر لنا البلاذري، «في أنساب الأشراف»، رواية للحسين قبل دخوله منطقة كربلاء، حينما قابل الحر بن يزيد وبعض أشراف الكوفة، تقول: «وخطب الحسين فقال: إن هؤلاء قوم لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، فأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء...».
من الرواية نرى أن سبب خروج الحسين على يزيد بن معاوية، كان بسبب عدم التزام الأخير دينياً- لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، فأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء- ولكن لم يذكر الحسين في هذه الخطب المتعددة، ماذا سيقدم للناس سياسياً؟ وهي أمور أثبتت الأحداث أنها تلعب دوراً فارقاً في تحديد ولاء الجماهير.