يقول المداومون على الذهاب إلى استاد برنابيو، إنك إن لم تنتبه فإن وشاحًا يحمل صورة شاب داكن البشرة قد يتطاير أمام وجهك مباشرة أو إنك سترى على ظهور معظم السائرين أمامك لنفس الوجهة قمصانًا تحمل نفس الاسم والرقم.
ستوطن نفسك في المقعد الخاص بك، وسيبدأ المذيع الداخلي للملعب في عرض التشكيل الأساسي للنادي الملكي. وعلى خلاف التسلسل المنطقي؛ فإن الإعلان ينتهي عند صاحب هذا الرقم، مع هياج جماهيري صاخب.
لم تبدأ المباراة بعد ولم تحدث أخبارها، لكن ذلك اللاعب قد حصل بالفعل على إشادة الجمهور والمدرب وزملائه والصحفيين والمحللين جميعًا.
ورغم أنه لم يمضِ على وجوده هنا إلا موسم واحد فقط؛ فإن مصدرًا مطلعًا أسر لصحفي في موقع The Athletic أن قمصانه تباع أكثر من قمصان نجم الفريق فينيسيوس جونيور بعشر مرات.
قد تبدو مبالغة رقمية من قائلها أو ناقلها؛ لكنها تحمل في ثناياها إشارة للأثر الهائل، الذي أحدثه قدوم جود بيلينجهام إلى ريال مدريد. فما ذلك الأثر، وما انعكاساته على النادي الملكي داخل وخارج الملعب، ولماذا هو بالتحديد وليس فينيسيوس جونيور، من بإمكانه أن يكون وجه ريال مدريد والليجا؟
الثنائي المثالي
يحتاج اللاعب النجم إلى ناد قوي، ويحتاج النادي القوي إلى لاعب نجم. هكذا تسير الأمور وهكذا حدث التوافق المثالي في عقد بيلينجهام مع مدريد الذي كان أشبه بزيجة سعيدة يحسد الناس أصحابها عليها.
فأي ناد أقدر من ريال مدريد بعراقته وسطوته، على منحه ما يصبو إليه من إنجازات فردية وجماعية وما تنطوي عليه من مكاسب مادية ومعنوية؟ وأنَّى للريال بلاعب ناضج بدرجة نجم مكتمل النجومية «جلاكتيكوس» في سن العشرين؟
انعكست قيمة الريال بالطبع على بيلينجهام منذ قدومه، ومنحته قاعدة شعبية يمكن تتبع مداها في أبسط صورة، من خلال تضاعف عدد متابعيه عبر تطبيق الإنستجرام.
صحيح أنه كان شيئًا مذكورًا في دورتموند ومع المنتخب الإنجليزي، قبل أن يعتاد فتح ذراعيه أسبوعًا بعد آخر أمام الجمهور في برنابيو، إلا أن قوة العلامة التجارية لمدريد حول العالم، فتحت له بابًا واسعًا على عقود الرعاية والشركات العابرة للقارات والمحيطات، وقدمته إلى أسواق ضخمة لم يصل إليها مع دورتموند، ولم يكن ليصلها لو ذهب إلى أحد الأندية الإنجليزية التي حاولت ضمه لصفوفها.
وبدوره لم يبخل بشيء على الفريق الذي اختاره طواعية بوعي كامل ليقضي فيه سني الذروة في مسيرته على عكس عادة اللاعبين الإنجليز الذين يفضلون الحضور القوي في دوري بلادهم أولًا، وادخار فرصة الاحتراف لسنواتهم الأخيرة.
في موسمه الأول، في ناد متطلب بحجم ريال مدريد، وفي مركز مغاير لمركزه الأصلي؛ أثبت بيلينجهام جدارته داخل الملعب بأسلوب لعبه المميز، وإنهاء الموسم كأفضل لاعبي النادي الملكي والدوري ككل.
أحرز 19 هدفًا في الدوري من بينها أهداف الفوز في الكلاسيكو على الغريم برشلونة ذهابًا وإيابًا، التي أمنت لقب الدوري بحسب وصف المدرب أنشيلوتي.
تأثير ضخم خارج الملعب
عام 2019 أبرم النادي الملكي عقدًا مع أديداس لرعاية قمصان الفريق، بقيمة 1.1 بليون يورو، وهو العقد الأغلى في تاريخ كرة القدم، ويمتد حتى موسم 2027/2028. وبدلًا من أن يحصل المرينجي على حصة من مبيعات كل قميص؛ تم الاتفاق على نسبة مئوية من أرباح الشركة السنوية.
بوضع ذلك في سياق واحد مع ما صرح به المصدر المسئول عن الفارق بين مبيعات قمصان بيلينجهام وفينيسيوس؛ نجد أن الهدف إذن أن تباع قمصان مدريد بكثرة، حتى تزدهر العلامة التجارية أكثر فأكثر وتزداد أرباحها؛ وتنتعش على إثر ذلك خزائن النادي الملكي.
كل ذلك لن يتحقق إلا بوجود نجم ساطع، لا خلاف عليه، يجدد الرغبة لدى الجمهور في شراء قميص يحمل اسمه ورقمه، هذا النجم هو بيلينجهام.
وفقًا لـغاريث بالش الرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك لوكالة Two Circle للتسويق الرياضي؛ فإن الإحصائيات تؤكد أن بلينجهام قد رفع أسهم ريال مدريد في بعض الدول التي تملك أسواقًا اقتصادية ضخمة جدًا يحتاجها النادي الملكي، كما أن جيناته المنحدرة عن أمه ذات الأصل الأفريقي، أسهمت في غزو أسواق أفريقية كاملة كانت تصب كامل اهتمامها على الدوري الإنجليزي، ولا تعير الدوري الإسباني أي اهتمام.
كل ذلك إضافة لعنصر جذب لا يمكن غض الطرف عنه، وهو الجنسية الإنجليزية لبيلينجهام التي تضمن إعادة فتح قنوات تواصل على كل الأصعدة، مع المجتمع الإنجليزي وإعلامه وجمهور الكرة فيه، بعد ردح من الزمان غاب فيه العنصر الإنجليزي على هذا المستوى من الحضور والتأثير عن النادي الملكي منذ بيكهام ومايكل أوين.
لماذا بيلينجهام تحديدًا وليس فينيسيوس؟
يبدو السؤال مفخخًا في الحقيقة، فنحن نتحدث عن لاعبين في نفس الفئة العمرية تقريبًا، يلعبان لنفس النادي، يمتلكان نفس لون البشرة، ولهما تأثير مشابه في الملعب، لكن يبدو أن أحدهما يُلتفت له أكثر من الآخر، ولو بشكل نسبي. فما السبب؟
وقوفًا على البداية، فانطلاقة فينيسيوس لم تكن صاخبة وقوية كما هي الآن، وليس سرًا أن جماهير مدريد ومدربهم آنذاك زين الدين زيدان وبعض لاعبيهم، قد راودتهم بعض الشكوك بشأن قدراته وسلوكه، لكنه ما لبث أن رد شكوك المشككين وأقام عليهم حجة الملعب.
على عكس انطلاقة بيلينجهام التي بدت حادة وقوية، لم يدخر وقتًا لقتل الشكوك في مهدها، بإحرازه عشرة أهداف في مشاركاته العشر الأولى. ليس ذلك فحسب، وإنما حرص على تقديم نموذج اللاعب الذي تحب مشاهدته: يركض، ويمرر، ويدافع، وسجل الأهداف، وساعده في ذلك المدرب كارلو أنشيلوتي الذي أعطاه الحرية التي يحب أن يلعب بها.
شكل بيلينجهام في الملعب وخارجه انعكاس لمجهود آلة احترافية وتسويقية ضخمة، على رأسها الأبوان الناصحان الأمينان مارك ودينيس.
ستيف مارتن الرئيس التنفيذي لشركة التسويق M&C Saatchi للرياضة والترفيه
تلك الآلة التي مهدت له الطريق منذ الصغر، لا ليكون لاعب كرة محترفًا على أعلى مستوى فحسب، وإنما ليكون نموذجًا ذا وعي كاف بوضعه الحالي وانعكاساته عليه ودوره في إبقاء جذوته مشتعلة طول الوقت.
أما فينيسيوس الذي لا يملك إلا جهده؛ فما أكثر العقبات التي تقف في طريق تحوله إلى نجم الجيل. أولها جنسيته البرازيلية التي يتحسس منها الأوروبيون داخل الملعب وخارجه، وكثيرًا ما شهدت الملاعب الإسبانية تحديدًا نذرًا يسيرًا من تلك الفئة من رونالدينيو إلى نيمار. وبالطبع، معركته الكبرى ضد العنصرية في إسبانيا.
مباراة تلو الأخرى ولا حديث للإعلام سوى فينيسيوس ليس على النحو الذي يرجوه أو ترجوه إدارة النادي الملكي، بعرض أهدافه وتشريح إبداعه؛ وإن كان بريقهما لم يخفت إلا نادرًا، ولكن بسبب مشاجراته الدائمة مع جمهور الخصوم ولاعبيهم ومدربيهم إذا لزم الأمر، وحديثه الدائم عن تواطؤ الليجا مع حملة العنصرية الممنهجة ضده، واتهامه للبلد الذي يلعب فيه بالعنصرية.
ويبدو أن الليجا لا تعترف بفينيسيوس وجهًا لها، رغم غياب أي تأثير يذكر لأقرب منافسيه. ولم تدرك تداعيات حملات العنصرية ضده، وخطرها على المسابقة المضمحلة أصلًا.
أما خافيير تيباس رئيس رابطة الدوري الإسباني، فلم يحركه سوى تكذيب تصريحات البرازيلي عن عنصرية الدوري والدولة.
لذلك كان قدوم بيلينجهام بمثابة إنقاذ لريال مدريد وخططه التسويقية، والحرص على ألا تتأثر بتلك المعركة التي لا ترى نهايتها القريبة في الأفق المنظور، وأيضًا لحفظ ماء وجه رابطة الدوري التي تتهم بحماية العنصرية والدفاع عن مرتكبيها.
ليس لون البشرة إذن، فهذا الإنجليزي يحظى بنفس السمرة، لكن حضوره حقيقي، وتواصله مع الجمهور والإعلام ذكي جذاب، ورغم كل ذلك يدير معاركه بحكمة، حتى معركة العنصرية نفسها.
يروق بيلينجهام لكل الفئات العمرية، يحبه الأطفال، وكذلك متوسطو العمر من أصحاب الثروات، المشجعات أيضًا يحببنه. إنه يخترق الجماهير، وقد بدؤوا يشعرون جميعًا بالارتباط به، وحين يستقر أكثر ستصبح تلك الرابطة أقوى.
ستيف مارتن، الرئيس التنفيذي لشركة التسويق M&C Saatchi للرياضة والترفيه
تخيل أنك صاحبة شركة عالمية ضخمة، لا تدعم العنصرية بالطبع، ولا تؤمن بالتمييز القائم على الأعراق والأجناس والألوان، لكنك تؤمن بالمال والثروة والربح الوفير، فأي النموذجين سيكون أكثر إفادةً لعلامتك التجارية؟
لا نحكم بأفضلية مطلقة للاعب على الآخر، ولكننا ندعي أن ما سبق يقودنا لمحصلة بسيطة لا خلاف عليها، وهي أن نموذج بيلينجهام أكثر قابلية للتسويق من نموذج فينيسيوس.
يمكن أن نعتد بتلك المحصلة حتى الآن، لأنك هنالك مشكلة يمكن أن تطفو على السطح في المستقبل القريب جدًا، مع الإعلان الرسمي بقدوم كيليان مبابي النجم الأكثر سطوعًا في عالم كرة القدم إلى ريال مدريد ومزاملة كل من بيلي وفيني. لكنها من جملة مشكلات المترفين المحببة لهذا النادي وجماهيره ولا شك في قدرتهم على التعامل معها.
# جود بيلينجهام # فينيسيوس جونيور # ريال مدريد # الدوري الإسباني