فن

لا يصور الماضي فحسب: كيف يصنع الأدب المستقبل؟

إن الأدب يمهد للثورات. حتى لو كان أدباً لا يلقى حفاوة نقدية مثل الأدب الساخر، فتلك الأعمال التي قد لا يلتفت إليها نقدياً تنطبع في وجدان الشعوب.

future كتب

في النصف الثاني من القرن الـ20، بدأ العالم يلتفت للأدب. ليس التفاتاً بمعنى شيوع قراءته، أو الاهتمام بنشره، فذلك النوع من الالتفات موجود منذ نشأة الأدب. لكنه كان يحصر الأدب في مضمار التسلية والترفيه عن القراء، أو المستمعين في حالة الأدب الشفهي كالحكائين. أما في العقود الأخيرة فقد أصبحت النظرة للأدب جادة.

جاءت هذه النظرة تحديداً من فلسفة ما بعد البنيوية، ونظرية ما بعد الاستعمار أو ما بعد الكولونيالية. وبدأ النقاد والمحللون يشرحون النصوص الأدبية لمعرفة النظرة العميقة للكتاب، حتى لو كان الكاتب نفسه لا يدرك أن أدبه يحتوي تلك النظرة العميقة. ومن الأعمال نفسها خرج المحللون بدلائل ونظريات تفيد أن الأدب كان في مرحلة ما وسيلة لتكريس الاستعمار.

الأدب وصناعة التغيير

يمكن التدليل على ما سبق عبر الإبحار في كتابات واحد من أبرز كتاب ما بعد الكولونيالية، وهو إدوارد سعيد. فقد حاول سعيد كتابة روايات، عدة مرات، اقتناعاً منه –حينئذ- أن الروائيين هم أقدر الناس على تحدي السلطة وتغيير العالم، لكن عندما لم ينجح في هذا المضمار، توصل إلى قناعة مفادها أن الإخفاق هو مصير من يريد تغيير العالم عبر الرواية، وأن الخيال الروائي ليس الأداة المناسبة لمن يحاولون إحداث تغيير سياسي في العالم.

لكن الأدب مفهوم أكبر من الرواية خصوصاً، ويشمل أنواعاً كثيرة للسرد. فكتابات سعيد التي قاوم بها النظرة الغربية للشرق هي نوع من أنواع الأدب. لذلك يمكن القول إن الأدب، إذا أراد صاحبه، يمكنه أن يكون محركاً ومحرضاً للشعوب. ويمكن أن يكون أدباً للتسلية والمتعة فحسب. ولا يمكن بأية حال الانتقاص من النوع الثاني، ولا من دوره في إزاحة ضغط الواقع وآلام الحياة عن عاتق الإنسان المضطر للحياة اليومية وسط العديد من المنغصات.

فمثلاً في حالة الشعر نجد أشعار أبي القاسم الشابي قد بعثت من جديد مع الثورات العربية، لتؤكد للشعوب جميعاً أنها إذا أرادت فسوف يستجيب الكل لإرادتها. كذلك نجد أشعار أحمد فؤاد نجم في الميادين تصدح بها حناجر المتظاهرين.

من المبالغة القول إن الأدب قد يصنع ثورة منفرداً، لكنه بالتأكيد يساهم في زيادة حدة أي فعل. خصوصاً إذا كان الأدب والسياسة في المضمار نفسه، وعلاقتهم تكاملية. كما حدث في سنوات وجود المحتل الإنجليزي، وارتفاع وتيرة المقاومة العالمية ضد الاحتلال، وكما جرى أيضاً في سنوات الحديث عن الوحدة القومية العربية. نجد كل ذلك في روايات مثل رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل، وكتابات طه حسين، وأشعار أمير الشعراء أحمد شوقي، وإبراهيم عبدالقادر المازني؛ حيث كانت أعمالهم مليئة بالتفاؤل بالمستقبل، وبأن البلاد العربية توشك أن تدخل عصراً مليئاً بنور الحضارة والعلم.

الكتابة كصرخة شخصية

في لحظة ما انفصل الأدب عن السياسة، وبدلاً من أن يكونا في خندق واحد ضد العالم، باتا في خندقين منفصلين ضد بعضهما البعض. لم تكن علاقة حرب مباشرة، بل أعلن الأدب عن نفسه بوصفه نصيراً للمهمشين، ووسيلة المجهولين لسرد أصواتهم، وكاميرا الأدباء لنقل هموم الناس.

هذا الانفصال أخرج الأدباء من ضغط الوقوع على سيطرة أي كيان يحاول جعلهم صوتاً له؛ فنجد ذلك في كتابات عبد الرحمن منيف، مؤلف خماسية «مدن الملح»، وثلاثية «شرق المتوسط». وكذلك يظهر الأمر جلياً في مرحلة من مراحل نجيب محفوظ، حين كتب «ثرثرة فوق النيل» وغيرها. أما في الشعر فيبرز الأمر تماماً في شعر نزار قباني، الذي وقف ضد السلطة العربية في الكثير من قصائده، ونجده في شعر محمود درويش الذي هاجم كل سياسة لا تفضي إلى دعم الفلسطيني المحاصر.

لكن تلك الأمثلة قد تعطي انطباعاً مغايراً عن حال العديد من الأدباء، فالأديب لا يكون دائماً عارفاً بالهدف الذي يكتب لأجله. إنما يستمر في مراكمة الكلمات فوق بعضها، يخرجها من صدره فحسب، لا يهم ماذا ستصبح تلك الكلمات في شكلها النهائي. خصوصاً مع السيولة التي يحياها الإنسان حالياً، فكل المقدسات صارت موضع شك، وكل المشاعر صارت أقرب للوهم، وقابلة للتسليع والخداع.

إلا أن الكتابة بالنسبة للكاتب في أحد تجلياتها هي صرخة شخصية، لا يكترث ماذا سيكسب من ورائها، ولا حجم تأثيرها على الناس. وقد يختار الكاتب المشاركة في تغيير مجتمعه بشكل شخصي، بوجوده في محافل ما، أو بالتبرع المادي، أو بأنشطة أخرى قد لا تكون كتابته من ضمنها.

جدوى الأدب

مع توجه المجتمعات للإنتاج الصناعي والاعتماد على الذكاء الاصطناعي في شتى المجالات. يزداد السؤال حول جدوى الأدب، وصلاحيته للحياة وسط هذا المجتمع. السؤال ينبع من نظرة قاصرة للأدب باعتباره مجرد منتج ترفيهي على هامش الحياة. لكن الواقع أن الأدب هو إنتاج للفكر، وإنتاج الفكر هو أعظم درجات الإنتاج. فالأدب، والفكر عموماً، هما ما يجعلان لهذا الكون الفسيح معنى. ويصيغان للفرد فهماً لحقيقة وجوده، ويجعلان له كينونة مستقلة تنقذه من براثن العدم، فالفكر قرين الوجود.

لا يمكن فصل النظرة المحتقرة للأدب عن النظرات التي تحتقر باقي المهن. فحيثما كان الطبيب مقدراً، وكان عامل النظافة مقدراً، فستجد الأدب مهماً. أما إذا كان الإنسان ينظر بدونية لكل المهن، فمن الطبيعي ألا يكون الأدب محل تقدير في هذا المناخ. وهذا التقدير المعنوي، الذي سيتبعه تقدير مادي، هو السبب في وجود أو غياب تأثير الأدب.

فإذا كان الأديب سيحيا بصفته أديباً، سواء كان ناجحاً أو فاشلاً، فإنه سيظل مخلصاً لفكرته، وعاملاً على تطويرها وتطويعها لتناسب المجتمع. لكن في العديد من المجتمعات يضطر الأديب إلى ممارسة مهنة أخرى بجانب الأدب، مما يؤثر على إخلاصه لفكرته أو وقته المخصص لتطويرها. كما يسهل أن يفضل المعارك الآمنة كي لا يتعرض مصدر رزقه للتضييق، فيتجنب الاصطدام مع كل أحد، ليس السلطات فحسب، بل حتى لو كان يعارض فئة ما من المجتمع ويعترض عليها، فإنه يؤثر السلامة والصمت.

عودة للحراك والأدب

الأدب والثورة وجهان لعملة واحدة غالباً، فمعظم الثورات التي عاشها الإنسان بدأت بكتابات أدبية. سواء كانت تلك الكتابات محرضاً مباشراً للثورة، أو مجرد ناقل للأوضاع التي يعانيها الناس، فتضع مرآة أمامهم كي يروا واقعهم، ثم يدركوا أنه واقع بحاجة لإصلاح.

بعبارة أخرى يمكن القول إن الأدب يمهد للثورات. حتى لو كان أدباً لا يلقى حفاوة نقدية مثل الأدب الساخر، أو ما يعرف بالأدب الشبابي. فتلك الأعمال التي قد لا يلتفت إليها نقدياً تنطبع في وجدان الشعوب، لا عقولهم. وتتفجر من قلوبهم مع أول شرارة.

إن دور الأدب يأتي أحياناً من تقديم سيناريو مستقبلي للأحداث. فيخبر الناس عن الواقع الذي ينتظرهم في المستقبل، إذا هم عملوا على تغيير واقعهم. لذلك فالأدب والحراك المجتمعي متلازمان غالبية الوقت. ولا يقتصر دور الأدب على مجرد التأريخ أو الحكي عما حدث. فغالباً يحتاج الكاتب لفترة زمنية من انقضاء الأحداث كي يستطيع استرجاعها والكتابة عنها كما يجب. لكن أحياناً كثيرة يكون الأدب صانع الحدث، فلا يقبع في ماضي الحياة، ولا يكتب فقط حاضرها، بل يتنبأ الأدب للأمم بمستقبلها، ويظهر لها الطريق الأمثل للوصول إلى ذلك المستقبل.

# أدب

فيلم «المخدوعون»: فلسطين في مواجهة الرجال والشمس
بسبب التنافس على السلطة: أشهر قصائد المعارضة عند العرب
كرة القدم والشعر: ويسهر الخلق جراها ويختصم

فن