دعنا نبدأ القصة أولاً رفقة افتراضين؛ الأول أنك تعرف هذا الاسم جيداً: إيفيتا، وهذا يعني ببساطة أنك تعرف قصتها الملهمة وكيف أنها تحولت من فتاة بسيطة إلى السيدة الأولى والرمز الخالد في قلوب الشعب الأرجنتيني. وهذا يعني أيضاً على الأغلب أنك شاهدت فيلم إيفيتا وتعلقت بمادونا وهي تغني في نهاية الفيلم أغنيتها الأشهر: لا تبكي من أجلي يا أرجنتين!
أما الافتراض الثاني، فهو أنك تصرخ الآن: مادونا! ألا يزال أحدهم يتحدث عن مادونا، هو إحنا في التسعينيات! وهو ما أقدره تماماً، وأعدك أننا لسنا هنا لنقص عن إيفيتا نفسها، لكننا هنا نسرد لك فصلاً مختلفاً عن علاقة الكرة بالسياسة، لكن لا بد من أن نتعرف على بطلة القصة أولاً.
ماريا إيفا دوارتي هي فتاة أرجنتينية وُلدت في أسرة شديدة البساطة، ثم هاجرت نحو العاصمة للعمل في مجال التمثيل، وعُرف عنها تعاطفها الدائم مع الفقراء، تزوجت إيفا من الكولونيل خوان دومينجو بيرون الذي قرر في العام نفسه الترشح لمنصب رئيس البلاد، لتتحول إيفا إلى السيدة الأولى، وتكرس كامل مجهوداتها لخدمة العمال والنساء والفقراء، وهو ما جعل الشعب يتعلق بها بشكل صادق، إلا أنها توفيت في عمر الثالثة والثلاثين فقط، إثر الإصابة بمرض سرطان الرحم؛ لتتحول إلى زعيمة روحية للأمة.
الآن حان وقت السؤال الأهم، ما علاقة تلك الملهمة الثورية بكرة القدم؟ وهنا تحديداً تبدأ قصتنا الحقيقية.
ظل السيد رامون سيرجيو وزير مالية الرئيس بيرون والمشجع الوفي لنادي راسينج صامتاً طوال فترة تناوله العشاء مع لاعبي ناديه المفضل، إلى أن هدأ الضجيج تماماً من حوله فهمس: إن السيدة الأولى تريد لنادي بانفيلد أن يكون البطل، لقد تلقيت هذا الأمر يا رفاق، لكن القرار الأخير لكم.
نظر اللاعبون بعضهم إلى بعض في حيرة، وكان كل منهم يعلم أن السلطة السياسية مدت مخالبها إلى الرياضة الأكثر شعبية في البلاد من خلال المسئولين الحكوميين، ومع ذلك، لم يتخيل اللاعبون أبداً أن إيفيتا ستتقدم بمثل هذا الطلب قبل أيام قليلة من المباراة الفاصلة بين بانفيلد وراسينج لتحديد النادي الذي سيفوز ببطولة دوري الدرجة الأولى عام 1951.
لم يحتَج اللاعبون أكثر من عشر دقائق حتى يصلوا لقرار نهائي؛ سيلعبون المباراة للفوز فقط، وليحدث ما يحدث. تلقى الوزير الخبر بابتسامة واسعة، ثم أجابهم بأنه قرار خطير قد يكلفه وظيفته، لكنه يدعمه تماماً، فالمجد لراسينج قبل أي شيء!
لم تكن إيفيتا من مشجعي بانفيلد، بل لم تكن مهتمة بكرة القدم على الإطلاق، ولم يكن زوجها الرئيس بيرون مخلصاً لتلك اللعبة كما يعتقد البعض، لكنهما كانا سياسيين، مهما كانت رقة إيفيتا وإخلاصها لكنها كانت تعمل بالسياسة؛ ولذا فقد تعاملت وزوجها مع الرياضة وكرة القدم كعادة الساسة جميعهم؛ بمبدأ الاستغلال.
كان بيرون رجلاً عسكرياً محترفاً، لذا كان يفضل الرياضات التي تدعم التنمية الشاملة للجسم. كان يمارس الركض والجمباز والمبارزة، حتى إنه كان من المقرر أن يمثل الأرجنتين في رياضة المبارزة في دورة الألعاب الأولمبية بباريس عام 1924 لولا رفض وزير الدفاع آنذاك.
إلا أن بيرون لم يحب أي رياضة بقدر ما أحب الملاكمة، كان يجد في الملاكمة سحراً كذلك الذي يجده الآخرون في الباليه أو الرسم، لكنه كان ينظر للرياضة على أنها وسيلة مهمة لإثبات تفوق الدولة السريع، وهو ما لا ينطبق بالطبع على كرة القدم.
بيرون مثل موسوليني، كان يفضل الصيد على الرياضة، وكان مبارزاً ماهراً، لكنه أدرك أيضاً الدور المحتمل لكرة القدم في بناء الأمة وتعزيزها.
— ديفيد جولدبلات، صحفي بريطاني
وجه بيرون الدولة للاستثمار في الرياضات التنافسية ذات النتائج السريعة، وكانت النتائج واضحة، ففي دورة الألعاب الأولمبية لندن 1948، فازت الأرجنتين بثلاث ميداليات ذهبية وثلاث ميداليات فضية، وميدالية برونزية واحدة. كما فازت الأرجنتين بكأس العالم لكرة السلة في البطولة التي نظمتها على أرضها عام 1950؛ ثم أُعلن الأرجنتيني فانجيو بطل العالم لأول مرة في الفورمولا 1 في عام 1951، وبعد ثلاث سنوات اعتلى الملاكم باسكوال بيريز قائمة أبطال العالم في الملاكمة.
أما في مجال كرة القدم، فقد خصصت الحكومة البيرونية مبالغ ضخمة لتمويل بناء الملاعب، لكنها واجهت مشاكل جمة مع اللاعبين الذين قاموا بإضراب لتحسين الأجور ودفع الأجور المتأخرة وحرية انتقال اللاعبين، مما نتج عنه هجرة جماعية للاعبي كرة القدم إلى دول مثل تشيلي وإيطاليا وأوروجواي وكولومبيا.
وبسبب نزيف اللاعبين إلى الدوريات الأجنبية، غابت الأرجنتين عن نهائيات كأس العالم في البرازيل 1950 وسويسرا 1954، وبطولة أمريكا الجنوبية عامي 1949 و1953، فقد عقد بيرون جلسة مع رئيس الاتحاد الأرجنتيني لكرة القدم آنذاك السيد فالنتين سواريز وسأله ببساطة: هل تضمن الفوز بكأس العالم المقام في البرازيل؟ وعندما أجاب سواريز بالنفي، اتخذ بيرون قراراً نهائياً بعدم لعب الأرجنتين.
تعامل بيرون مع كرة القدم على أنها من أمور الدولة، لذا كان القلق بشأن الهزيمة دافعاً كافياً لعدم اللعب، فمن خلال عدم المخاطرة بالهزيمة يمكن لجماهير كرة القدم الأرجنتينية أن تعتقد أن فريقها هو الأفضل دائماً، كان النظام مدركاً تماماً للضرر الذي يمكن أن يحدث إذا ثُقبت مفاهيم التفوق الوطني من خلال حقائق المنافسات الدولية المفتوحة.
هكذا تعامل بيرون مع كرة القدم والرياضة، لكن ماذا عن الرقيقة نصيرة الفقراء السيدة إيفيتا، كيف كانت السياسية إيفا دوارتي تتعامل مع كرة القدم؟
تعاملت إيفيتا مع الرياضة على أنها وسيلة مناسبة للفقراء للمشاركة في الحياة الاجتماعية تحت رعاية الدولة، ولذا أنشأت ألعاب إيفيتا عام 1948 كمسابقة وطنية لكرة القدم، على أن يكون جميع الأولاد المشاركين ولم يرتدِ أي منهم زياً رياضياً من قبل، ويحصلوا على مجموعة كاملة من القمصان والسراويل والجوارب بألوان فريقهم.
يمكننا القول ببساطة إن تلك المسابقات أُنشئت كأداة للإدماج الاجتماعي ضمن مبادرات إيفا بيرون، حيث أصبح بإمكان الفتيات والفتيان من جميع أنحاء الأرجنتين ممارسة الرياضة. أدى ذلك إلى زيادة عدد الرياضيين، سواء الهواة أو المحترفين، كما زاد عدد المتفرجين في الأحداث الرياضية وأعضاء الأندية. لكن في المقابل كانت هناك تلك الضغوط التي مارسها بيرون للقيام بالدعاية السياسية في الأندية.
«الأداء الممتاز الذي قام به فريق بانفيلد خدم البيرونية في إثبات أن العدالة الاجتماعية في أرجنتين بيرون الجديدة وصلت أيضاً إلى كرة القدم».
— الصحفي فيكتور رافو، من الفيلم الوثائقي إيفيتا كابيتانا
لنعد الآن لقصة إيفا مع نادي راسينج، ما حدث عملاً أن إيفيتا كانت قد وصلت إلى المقر الرئيسي لمؤسسة إيفا بيرون الخيرية، وتفاجأت عندما وجدت الموظفين يناقشون النهاية المثيرة لبطولة الدوري الأرجنتيني.
استدعت إيفيتا مساعدها إنزو إلى مكتبها على الفور، والذي كان يعمل مذيعاً لمباريات كرة القدم؛ لتسأله لماذا انصرف الموظفون إلى الجدال حول مباراة كرة قدم بدلاً من العمل؟ وكان الجواب لأنها مباراة مصيرية بين راسينج وبانفيلد لتحديد بطل الدوري.
هنا سألت إيفا: أي الفريقين أفقر؟ ليرد إنزو: بانفيلد. لتقرر إيفيتا ببساطة: حسناً، أريدك أن تجعل بانفيلد يفوز، هذا أمر. تواصل إنزو مع وزير المالية رامون سيرجيو المعروف بانتمائه الشديد وقوة علاقته بأطراف نادي راسينج لإبلاغ الأمر.
لم يوافق اللاعبون على أن يكونوا جزءاً من رؤية حرم الرئيس لكرة القدم على أنها حلم الفقراء، وهنا قرر المسئولون وبإذن من إيفا اللجوء لخطة بديلة، حيث وعدوا لاعبي بانفيلد في حالة الفوز بسيارة مرسيدس لكل لاعب، بل قرروا رشوة حارس الراسينج والمعروف بأنه بيروني مُخلص وله علاقات مع مسئولي الحكومة، حيث وُعد بأن يكون عمدة بلدته فيسنتي لوبيز، ولكن ولأن كرة القدم بها روابط أكثر وثاقة من السياسة، فقد قرر حارس المرمى أن يصارح زملاءه بالأمر، ويعتذر عن المشاركة في المباراة.
أقيمت المباراة أخيراً، وانتهت بالتعادل السلبي، علماً بأنه قد ألغى الحكم الإنجليزي للمباراة هدفاً صحيحاً للراسينج قبل النهاية مباشرةً، ثم أُعيدت المباراة مرة أخرى وفاز الراسينج بهدف لا يمكن إلغاؤه. شاهدت السيدة الأولى المباراتين من فوق سرير المستشفى، حيث كانت قد انتهت من عملية سرطان الرحم تلك، ولم يكن ممكناً أبداً أن يمر تحدي رغبات إيفيتا دون عقاب.
تمثل كبش الفداء في وزير المالية، السيد رامون سيرجيو، الذي أخبر اللاعبين في بداية القصة أنه يقامر بوظيفته، لكن هذا لا يهم، فهو لن يخذل الراسينج أبداً. خسر رامون وظيفته من أجل انتمائه لناديه، ربما هذا ما يجعله بطل القصة الحقيقي لا بيروني ولا إيفا.
قبل أن ننتهي من القصة رفقة بطلها الجديد، دعني أخبرك أن البعض يتهم السيد سيرجيو بتقديم قروض بأسعار مخفضة بشكل مخالف من أجل نادي الراسينج، ألم أقل لك في البداية، لا تأمن لسياسي في قصة تتعلق بكرة القدم!