في أزمنة الحروب تتعرض المنظومات الصحية لاستنزاف شديد، وتصبح جميع قدراتها ومواردها البشرية واللوجستية مكرسة للمئات أو الآلاف من حالات الإصابات والكسور والحروق.. إلخ، الناجمة عن الاشتباكات والمعارك والقصف.. إلخ، وقد يحدث ما هو أسوأ بمراحل عندما تُستَهدَف المنظومة الصحية بشكل مباشر كجزء من الأعمال الحربية، كما رأينا ولا نزال على مدى شهور حرب الإبادة الحالية الدائرة في فلسطين.
في غزة حالياً لا يجد المئات من مصابي القصف مشافي كافية، وقبلهم أصبح 350 ألف مريض مزمن في غزة (مصابون بالسكري أو ارتفاع ضغط الدم أو أمراض القلب أو أنواع مختلفة من السرطانات الخبيثة) خارج التغطية بشكل شبه تام، ومعرضون لمضاعفات صحية بالغة الخطورة كالفشل الكلوي الحاد والنوبات القلبية بمختلف درجات شدتها وغيبوبات ارتفاع أو هبوط سكر الدم والانتشار السرطاني في الجسم.. إلخ، والتي قد ينتهي أي منها بالوفاة، في حين أنه كان يمكن بسهولة تجنبها مع استمرار المتابعة الطبية والعلاج اللائق.
إن الأمراض المزمنة عموماً تمثل تحدياً هائلاً للمنظومات الصحية حول العالم، حتى في البلدان المتقدمة، وفي أوقات السلم؛ حيث إن أكثر من ثلثي الوفيات حول العالم تُعزى للإصابة بالأمراض المزمنة ومضاعفاتها، والظروف القاسية التي تخلقها الحروب بمختلف أنواعها تحرم الكثير من المرضى المزمنين من المتابعة الطبية الدورية، ومن العلاجات الأساسية المطلوبة لحالاتهم، فعلى سبيل المثال، أثبتت نتائج دراسة أُجريت أثناء الحرب الأهلية في إثيوبيا قبل عامين أن قرابة 80% من مرضى السكري من النوع الأول في بعض المناطق الريفية لم يستطيعوا الحصول على العلاج الذي كانوا يحصلون عليه قبل الحرب.
سنحاول في السطور التالية أن نجيب بشكل عملي وعبر نقاط قصيرة عما يمكن أن يفعله من يعانون مِن الأمراض المزمنة للنجاة في أزمنة الحروب القاسية.
الحصول على الماء العذب النقي بالحد الأدنى المطلوب للشرب من أكبر التحديات في ظروف الحرب القاسية، والتي لا تتورع فيها الأطراف المعتدية عن مهاجمة مصادر المياه العذبة ومحطات التحلية وشبكات إيصال المياه إلى المنازل.
نحفظ جميعاً الآية الكريمة: «وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ»، ولا نحتاج إلى إعادة اختراع العجلة وحشد الدلائل على أهمية المياه لكل إنسان عموماً، ولأصحاب الأمراض المزمنة خصوصاً، فشرب المياه يحمي من الإصابة بالجفاف الذي يزيد من لزوجة الدم، وبالتالي فرص الإصابة بالجلطات الحادة شديدة الخطورة على اختلاف أماكنها، وكذلك يحافظ على الحد الأدنى من استقرار الدورة الدموية والحفاظ على الأعضاء الحيوية، لا سيما الكليتيْن.
ونؤكد خطورة اللجوء إلى شرب المياه المالحة، لا سيما للمرضى المزمنين، فقد تسبب الفشل الكلوي والنوبات القلبية والارتشاح الرئوي الحاد.. إلخ.
ضوء النهار وأشعة الشمس لها أهمية كبرى في الحفاظ على الصحة الجسدية وتقوية المناعة وتحسين الاستقرار النفسي والمزاجي للإنسان، لكن تكمن الخطورة في التعرض الطويل للفح أشعة الشمس المباشرة، لا سيما في وقت الظهيرة، حيث يمكن أن يتسبب هذا في الإصابة بالحروق، أو التعرض لضربات الشمس الخطرة التي قد تسبب الجفاف الشديد وهبوط الدورة الدموية والفشل الكلوي الحاد والنوبات القلبية، وقد تصل إلى الوفاة، ويزداد احتمال جميع تلك المضاعفات لدى أصحاب الأمراض المزمنة.
للأسف الشديد، تسبب الحروب الحديثة المدمرة خرابًا واسعًا للمنازل وللبنى التحتية، وتترك الآلاف من النازحين في العراء تحت أشعة الشمس الحارقة في الصيف. ولذا، فتوفير الحد الأدنى من الظلال ولو بقطعة قماش أو مظلة من الصفيح، قد ينقذ حياة الكثيرين من أصحاب الأمراض المزمنة.
عادة ما تحتوي روشتة علاج الأمراض المزمنة على العديد من الأصناف الدوائية، والتي قد تصل في بعض الأحيان إلى عشرة أصناف دوائية أو أكثر، ومن البديهي أن تلك العلاجات ليست كلها على القدر نفسه من الأهمية، فالبعض يكون أدوية أساسية تمنع المضاعفات الكبرى وتقلل احتمالات الوفاة، والبعض الآخر دوره تكميلي، ويساهم في تحسين الأعراض.
يمكن استشارة الأطباء المحليين حول ترتيب أولويات الدواء؛ إذ يكون من شبه المستحيل توفير جميع الأصناف الدوائية الموصوفة للمريض.
لا يمتلك من يتعرضون لظروف الحرب القاسية رفاهية انتقاء الأطعمة، وغالباً لا يتوافر لهم سوى بعض الأطعمة المعلَّبة، لكنني أوصي من استطاع إلى ذلك سبيلاً بالحصول على بعض الأطعمة الطازجة، لا سيما الأسماك والخضراوات والفواكه، فهي غنية بالقيمة الغذائية، وتحسِّن عمل جهاز المناعة، وتحتوي على السوائل التي تحافظ على الدورة الدموية، وهي أنسب الأطعمة لمعظم الأمراض المزمنة، لا سيما ارتفاع ضغط الدم والسكري وأمراض القلب والكلى.
مثلما يصبح الحصول على الحد الأدنى من الطعام ومياه الشرب مهمة شبه مستحيلة في ظروف الحروب العصيبة، فإن الحفاظ على قدر معقول من النظافة الشخصية يمسي ضرباً من ضروب الرفاهية، لكن ما لا يُدرَك كلُّه لا يُترك جلُّه ولا بعضه، والحفاظ على النظافة الشخصية لا غنى عنه لإنقاذ حياة أصحاب الأمراض المزمنة، حيث يقلل فرص إصابتهم بمختلف أنواع العدوى، التي قد تكون مميتة في أزمنة الحروب التي لا تتوافر فيها الرعاية الطبية والمضادات الحيوية بسهولة. يمكن اللجوء لمياه البحر إن كانت قريبة للاستحمام وللنظافة الشخصية.
قد تبدو هذه الفقرة بالغة السذاجة؛ إذ كيف نطلب ممن يتعرضون للقصف والاستهداف أن يناموا. سنعتمد هنا على قابلية الإنسان العجيبة على التكيف مع أصعب الظروف، والتي تمكنه من الحفاظ على الحد الأدنى من الأنشطة الطبيعية في أخطر الأوقات وأكثرها لا طبيعية، مثل الحروب والأزمات. يساعد النوم، لا سيما ليلاً، في السيطرة على ارتفاع ضغط الدم، وتقليل فرص الإصابة بالأزمات القلبية الحادة.. إلخ، ولذا ننصح المرضى المزمنين بانتقاء أقل الأماكن خطورة ومحاولة الحصول على ما يمكن من ساعات النوم ليلاً.
صدقاً، يشعر كاتب هذه السطور بالحرج الشديد من الحديث في هذه النقطة تحديدًا، لكنها للأسف بالغة الأهمية، ولا بد من الإشارة إليها. إن القابعين في أمان بيوتهم يتابعون مشاهد الحروب والدمار عبر الشاشات، يتعرضون للانهيار العصبي والاحتراق النفسي، فما بالُنا بمن هم في قلب المعمعة تغزو عيونهم وأعصابهم مشاهد الضحايا والأشلاء والخراب عياناً بياناً، ويقرع مسامعهم هدير الطائرات المغيرة وقرع القذائف المنهمرة، وتكوي عقولهم الأفكار المضنية حول النجاة من الحرب، وكيفية البدء بعدها من تحت الصفر.
مثل هذا الضغط العصبي الشديد، والصدمات النفسية الحادة، هي بالغة الخطورة على أصحاب الأمراض المزمنة؛ حيث تتضاعف احتمالات إصابتهم بالكثير من المضاعفات الحادة الخطرة مثل الارتفاع الشديد في ضغط الدم أو سكر الدم، والإصابة بجلطات المخ أو بالنوبات القلبية القاتلة.. إلخ.
إقامة الشعائر الدينية، والحفاظ على الحد الأدنى من التواصل الأسري والاجتماعي، والحفاظ على مثقال ذرة من الأنشطة الترفيهية التي تروِّح عن النفس رغم ظروف الحرب وقسوتها، لا سيما للأطفال من المرضى المزمنين.. إلخ، كل هذا وغيره مما يمكن أن يكسر حدة الضغط العصبي والنفسي، لا يقل أهمية في الحفاظ على حياة المرضى المزمنين عن تعاطي الأدوية المناسبة.
ما ذكرناه في الأسطر السابقة موجه إلى الأفراد العاديين، والفاعلين المحليين، والجمعيات الخيرية، والعاملين في الفرق الطبية.. إلخ، وكيف يمكن لهم إنقاذ ما يمكن إنقاذه بأقل الإمكانات المتوافرة، لكن ليس هذا كافياً على الإطلاق؛ إذ يجب على الحكومات الفاعلة، والمنظمات الصحية الدولية، أن تقوم بأدوارها في الضغط على الأطراف المعتدية في الحرب لتجنب استهداف المراكز الصحية، وضمان استمرار توافر الأدوية الحيوية، والحد الأدنى من الرعاية الصحية الطارئة والمزمنة، وإخلاء أصحاب الأمراض المزمنة الخطيرة للعلاج خارج المناطق المتأثرة بالحروب، وإلا فسنفقد أرواح آلاف مؤلفة من المرضى المزمنين في مناطق الصراع، بشكل قد يفوق أساساً عدد الضحايا المباشرين للأعمال القتالية.