انطفأت أنوار الملعب وأصبحت الرؤية قاتمة تماماً. لم يتحرك أحد من مكانه في انتظار عودة النور، وحين لم يعد، أُلغيت المباراة وانفضّ الجمع. ولا عجب في ذلك، فلم يسبق لي أو لك أن شاهدنا مباراة كرة قدم تُلعب في الظلام الحالك. ومن الذي يقدر على أن يمرر شيئاً لا يراه؟ ومن يستطيع أن يسدد الكرة في مرمى لا يعرف إلا أنه موجود، ولكن أين، على أي مسافة، ما عرضه وما ارتفاعه، ومن يقف فيه؟
بالكاد يمكن أن يتحسس المرء موضع قدمه في الظلام الدامس، وإن لم يهتدِ ولو بضوء شمعة، فيمكن أن يظل حبيس مكانه للأبد؛ اتّقاء عواقب أقلها الاصطدام بشخصٍ أو بحائط. فكيف إن أخبرتك أن هناك من يلعب كرة القدم في هذا الظلام الدامس؟
ليس ذلك فحسب، بل إنهم يقطعون الملعب جيئة وذهاباً، ويمررون الكرة بدقة ويسددون في المرمى ببراعة، كل ذلك وأعينهم معصوبة!
يبدو الأمر نوعاً من التحديات التي تهدف لإضحاك المشاهدين من خلال المفارقات الظريفة، لكن هذا هو واقع حياة فاقدي البصر وكرة قدم المكفوفين. فما الذي نعرفه عنها؟
عام 1996 أدرجت رياضة كرة القدم للمكفوفين ضمن رياضات الاتحاد الدولي لرياضات المكفوفين «IBSA». خطوة تأخرت لعقودٍ جعلت إحدى الرياضات الأكثر شعبية، تبدو كأنها حديثة العهد، لكن جذورها في التاريخ الرياضي أقدم من ذلك بكثير.
كانت ملاعب المدارس شاهدة على البدايات الأولى لكرة قدم المكفوفين، وكانت إسبانيا تحديداً من رواد تلك الرياضة في عشرينيات القرن الماضي، ثم ما لبثت أن انتقلت تلك الرياضة بحكم الجغرافيا وحركات التجارة والهجرة إلى البرازيل في ستينيات القرن الماضي، حيث تطورت اللعبة وأقيمت أول بطولة محلية لها هناك عام 1974.
لم تخضع اللعبة وقتها لأي نظام ولم تندرج تحت إشراف أي اتحاد، وكان منطقياً ألا توجد قواعد تنظم جوانبها المختلفة، كحجم الملعب ونوعية الأرضية ومواصفات الكرة نفسها. فحسب تقليد كل بلد، تُقام المباريات إما في الصالات أو خارجها، على ملاعب صلبة أو ترابية أو غير ذلك، بكراتٍ تقليدية أو مُعدّلة، ولم تُرسَ قواعد اللعبة إلا بعدما تم إدراجها ضمن رياضات الاتحاد الدولي لرياضات المكفوفين.
من بين تلك القواعد، خضوع اللاعبين لفحوصات طبية صارمة، لتحديد درجة الإعاقة البصرية. ويتحدد بناء عليها تصنيفهم الرياضي ونوعية المنافسة التي ينتظمون فيها. في حالة كرة القدم، يُصنف اللاعبون إلى ثلاثة تصنيفات: B1 وهم أصحاب الإعاقة البصرية الكاملة، وB2-B3 وتضم أنصاف المبصرين أو أصحاب اعتلال جزئي في حاسة النظر. وكلا الفئتين تتنافس في منافسات خاصة بها بقواعد مختلفة ولو قليلاً عن الأخرى.
أصبحت كرة قدم المكفوفين رياضة بارالمبية لأول مرة في أثينا عام 2004، ومن ذلك الحين؛ حققت البرازيل وحدها الميداليات الذهبية الخمس جميعاً، ولم تستطع أي دولة أخرى كسر تلك السلسلة إلا فرنسا في البطولة الحالية في باريس.
«والأذن تلعب قبل العين أحياناً!»
إن كانت كرة القدم تعتمد في جوهرها على إبصار مواضع الأقدام وملاحظة التحركات والمساحات ورؤية الزميل والخصم، والكرة بالطبع؛ فيمكن اختزال الفرق بينها حين يمارسها كل ذي بصر، وحين يلعبها المكفوفون، في أن الأولى تعتمد كليّاً على البصر، أما الثانية فتعتمد كلياً على السمع.
يتكون فريق كرة القدم للمكفوفين من أربعة لاعبين وحارس مرمى. ولابد للاعبين أن يكونوا من فئة B1 الضريرة كلياً، ولِزاماً عليهم أن يغطّوا أعينهم بغطاءٍ للعين يعلوه واقٍ يحجب أي منفذ للضوء، حتى تكون المنافسة عادلة، إذ إن استجابة المكفوفين للضوء والظلال مختلفة.
أما حارس المرمى، فلابد ألّا يكون أعمى، ليس بالضرورة أن يكون مبصراً تماماً ولا مانع في ذلك أيضاً، لكنه سيكون عين أولئك المكفوفين الأربعة داخل الملعب، وهو المسؤول عن تحريك المدافعين على الأقل، ولا يُسمح له بأية حالٍ أن يغادر منطقته.
على أحد جانبي وسط الملعب، يقف أحد المدربين ليشرح للاعبين ما يدور في زحام المنتصف، ويوجههم بالكرة ومن دونها. ولا يتوقف الإرشاد الخاصّ عند تلك النقطة، بل يتموقع المدرب الثاني بشكل دائم خلف مرمى الخصم، لِيرشد المهاجم -بالصوت طبعاً- لمكان المرمى وأبعاده.
وتبلغ ذروة الإرشاد الصوتي في ركلات الترجيح، حيث يطرق المدرب ذاته عدة طرقات على القائمين المعدنيين والعارضة؛ بما يعني: المرمى ههنا، سدد في نطاق الصوت.
والكرة المستخدمة هنا، تشبه كرة القدم العادية من حيث كونها جلداً مدوراً منفوخاً، لكن أسفل الجلد مجموعة من الأجراس الصغيرة يبلغ عددها ستة في الغالب، بداخل كل منها مجموعة من الكرات الصغيرة «البلي» منتظمة بشكل متساوٍ، لتحدث صوتاً طالما تتحرك.
داخل الملعب، يردد اللاعبون بصوتٍ مسموع: Voy, Voy, Voy أو ما يعادلها في اللغات الأخرى، وهي كلمة إسبانية الأصل بمعنى «أنا قادم»، كإقرار بالسبق الإسباني في هذه اللعبة. وليعرف اللاعب موضعه من الزملاء والخصوم، ولتجنب الحوادث المرورية الكروية.
أما في المدرجات، فعلى عكس الصخب المحمود الذي يستجديه المدربون واللاعبون في كرة القدم في أحوالها العادية، يُحثُّ الجمهور الحاضر تلك المباريات على التزام الصمت قدر الإمكان، فالهدوء التام مطلوب، لكي تبدو التعليمات واضحة لكلا الفريقين، ولا يلتبس الهجوم مع الدفاع، ولا تختلط أصوات مدربي الفريقين؛ فالسمع هنا هو الوسيلة الوحيدة للإبصار.
«إنها مثل مباريات التنس، إن كانت هناك جَلبة في المدرجات؛ فسيوقف الحكم المباراة ويطالب الجميع بالهدوء.»
- سمير جاساما، مؤسس نادي بوندي الفرنسي لتدريب لاعبي كرة القدم المكفوفين.
يستمر هذا الوضع لمدة 40 دقيقة، هي مدة شوطي المباراة، في ملعب ضيق تبلغ مساحته 40m x 20m، تحدّه الحدود والموانع التي تمنع اندفاع اللاعبين خارج حيزه والحفاظ على سرعة اللعبة من جهة، وتحدث صدى صوتٍ للكرة عند الارتطام بها من جهة أخرى. وكأن اللعبة قُيض كل ما فيها لتضخيم ذلك الجانب الحسيّ السمعي، وكأنه العين التي تنظر كل شيء وهي لا تُبصر.
ولكن، ما حاجة أصحاب الحاجات الخاصة –كالمكفوفين- لممارسة رياضة معقدة نسبياً مثل كرة القدم، تعتمد على البصر والحركة كمتطلبات أساسية، ولا تخلو من مخاطر هي هواجس كل كفيف، كالارتطام بزميلٍ أو خصم، أو الإتيان بحركةٍ تكشف إعاقتهم وتبرزها؟
تُعرّف منظمة الصحة العالمية العمى، على أنه ضعف جسدي أو نفسي أو إدراكي أو حسي، دائم أو مؤقت، يستمر لفترة زمنية كبيرة، ويحد من قدرة الأفراد على أداء مهام الحياة اليومية، الأساسية منها على الأقل، ويتسبب في تلك الحال ويضاعفها عدد من العوامل الاقتصادية والاجتماعية.
وقد بلغ عدد المكفوفين عام 2020 حسب مجلة «نيتشر» 43.3 مليون شخص من مختلف الأعمار، بالإضافة إلى 295 مليوناً يعانون ضعفاً متوسطاً إلى شديد في البصر. وفي ضوء تلك الأرقام والإحصاءات، يمكن دراسة التأثيرات النفسية والاجتماعية للعمى على المُصابين به، وكيف تتشكل حيواتهم في غياب النور. سواء وُلدوا دون أن تلتقط عيونهم لمحة منه أو فارقهم عند لحظة ما من حياتهم.
إحدى الدراسات التي تناولت التأثيرات النفسية والاجتماعية للعمى، نُشرت عام 2016 في المجلة الباكستانية للعلوم الطبية، أجريت على عدد من طلبة المدارس المكفوفين. أثبتت الدراسة أن 60% من هؤلاء الأطفال المكفوفين يُعانون صعوبات جمّة في مواجهة الحياة، منها الإحساس المفرط بالذنب والقلق المرضي والحزن الدائم والاكتئاب.
وتُرجع الدراسة تلك النتائج لتأثير العمى المُباشر على غياب التواصل البصري مع الآخرين والعالم، وما يترتب عليه من نقص الأنشطة الجسدية والرغبة الدائمة في الانعزال والانطواء.
تبرز الرياضات وكرة القدم في القلب منها، باعتبارها إحدى وسائل الخروج من تلك المآزق النفسية والمادية، ولا يقف الأمر عند البعد الترفيهي باعتبارها لعبة في الأساس، ولا ينتهي أيضاً عند الجانب الصحي وتحسين الحالة الجسمانية، وإنما أثبتت دراسة أجرتها مؤسسة «British Blind Sport» عام 2014، أن الإحساس بالقدرة على المنافسة، والتواصل الاجتماعي من أهم أسباب إقبال المكفوفين على ممارسة الرياضة.
ليس الأمر بالسهولة التي يبدو عليها، فعلى المكفوفين في أحسن الظروف أن يتجاوزوا عقبات تعترض طريقهم. بعضها خارجي لا إرادة لهم فيه، كغياب المنشآت المناسبة والجهل المجتمعي الواسع بكرة قدم المكفوفين، وبعضها داخلي ينبع من خوفٍ غريزي من التعرض لإصابة تفاقم من وضعهم الصحي المتدهور وتستلزم رعايةً إضافية لا تتيسر لكثير منهم في الظروف العادية، إضافة لمغالبة الحواجز النفسية الداخلية التي تحول بينهم وبين أنشطة جمة يظنون أنها لا تناسبهم.
وهي مخاوف ومعوقات أثبتتها دراسة نُشرت عام 2020 بعنوان «العميان أيضاً يمكن أن يلعبوا كرة القدم» على عدد من طلبة المدارس في زيمبابوي. لكن أولئك الذين عبروا الشاطئ الآخر، وتغلبوا على تلك العقبات؛ كشفوا عن تجربةٍ فريدة أفادتهم في إعادة رسم هويتهم ورؤيتهم لذواتهم وللعالم أيضاً.