عبر مختلف الحضارات، تناولت الأساطير والأديان النبوءات والرؤى المستقبلية التي تتنبأ بنهاية العالم وانهيار المجتمعات. تحكي قصة النبي نوح عن فناء حضارة فاسدة وبداية عالم جديد، وبالمثل ظهرت في القرون الأولى للميلاد نصوص تصف فترات الدمار، أبرزها رؤيا يوحنا، التي تضمنت نبوءات عن نهاية العالم وأُدرجت في العهد الجديد. ومنها نشأت كلمة «أبوكاليبس»، التي تعني «رفع الغطاء»، غالبًا ما تُوظَّف هذه النبوءات لتأويل الواقع عبر إسقاطها على أحداث زمنها، مما يمنحها بُعدًا يتجاوز المستقبل إلى قراءة الحاضر برؤية رمزية.
لم تكن السينما بعيدة عن هذه الرؤى، بل وجدت فيها مصدرًا خصبًا للأفكار، فظهرت أفلام نهاية العالم والكوارث وأفلام ما بعد الكارثة. تميزت هذه الأخيرة بتقديم تصورات عن مستقبل البشرية بعد وقوع الكارثة وكيفية استمرار الحياة، مُركِّزةً على معاناة الناجين ونفسياتهم، في الفترة التي تلي الكارثة، حيث تُنسى الحضارة أو تتحول إلى أسطورة. في هذا السياق، تُطرح تساؤلات حول كيفية استعادة الأمل والوجود في عالم مدمَّر، وكيف يمكن للبشرية إعادة بناء نفسها أو التكيف مع واقع جديد
في إطار التصور الدوري للزمن، تُفسَّر الكارثة على أنها ليست نهاية مطلقة، بل عودة إلى نقطة البداية، حيث يُعاد تشكيل العالم بعد انهياره في دورة مستمرة من الدمار والتجديد. هذه العملية تدعو إلى إعادة التعرف على ذواتنا والتركيز على تفاصيل صغيرة تعيد تعريف الأمل والوجود في عالم ينهار ثم يعيد تكوين نفسه.
يقدم فيلم 2024 «تدفق - Flow» للمخرج غينتس زيلبالوديس Gints Zilbalodis رؤية سينمائية بصرية خالصة لعالم يغمره الطوفان، حيث يجد قط نفسه وحيدًا وسط المياه، يبحث عن الأمان بعد كارثة مدمرة. هذه الفكرة تتقاطع مع النبوءات التي تناولتها الأساطير والأديان، خاصة قصة الطوفان في ملحمة جلجامش وسفينة نوح، حيث يُعاد تشكيل العالم بعد أن يغرق القديم في الماء ويبدأ عهد جديد.
الطوفان في فيلم 2024 «Flow» ليس عقاب أو نبوءة دينية، بل حدث وجودي يدفع الكائنات إلى البحث عن النجاة والتكيّف خلال الطوفان وبعده، يعزز الغياب التام للحوار الطابع التجريدي للتجربة، محولًا إياها إلى رؤية تتجاوز اللغة، تشبه إلى حد كبير رؤيا يوحنا التي تعبّر عن الخوف من المجهول عبر تجربة بصرية.
يغيب في الفيلم الإحساس بالزمان والمكان المألوفين الذين يميزان سينما ما بعد الكارثة، ليحلّ محلهما فضاء مائع ومتحوّل بلا ثوابت، أشبه بمتاهة مائية لا نهاية لها. الفيلم لا يقدّم سياقًا زمنيًا واضحًا، كما أن المكان ذاته في حالة تغيّر مستمر، مما يعزز الشعور بالضياع والتيه.
لكن الفيلم رغم انتمائه لهذا الخواء الزمكاني، لا يغرق في التشاؤم المطلق، بل يمنح القط ورفاقه فرصة للمقاومة عبر الحركة المستمرة، وكأن التيه نفسه يصبح أسلوبًا جديدًا للحياة. وبهذا، يعيد الفيلم تعريف البقاء في عالم انهارت معاييره التقليدية، متقاطعًا مع سينما ما بعد نهاية العالم ولكن بأسلوبه البصري الصامت والتأملي.
تنتمي أفلام المخرج غينتس زيلبالوديس Gints Zilbalodis إلى نوع أفلام الرحلة، لكن ليس كانتقال جغرافي عبر عوالم غامضة يخلقها بعناية بصرية، بل رحلة وجودية تنبع من كارثة. في أفلامه «بعيدًا» (2019 Away) و«التدفق» (2024 Flow)، نرى الشخصيات تُدفع نحو المجهول بسبب حدث كارثي مفاجئ يبدأ مع بداية الفيلم. هذه الكارثة تشكل نقطة الانطلاق للرحلة، حيث تُجبر الشخصيات على مواجهة عالم غريب وغير مألوف. الرحلة هنا لا تقتصر على الانتقال المكاني، بل هي أيضًا رحلة داخلية إذ يتعين على الأبطال مواجهة مخاوفهم الداخلية، والتعامل مع عالم جديد مليئ بالتحديات والمخاطر. مع تقدم الرحلة، يتلاشى مفهوم الوصول كهدف نهائي، لتصبح الرحلة ذاتها هي الغاية، تمامًا كما في التجربة الصوفية، حيث يُعاد تشكيل الذات من خلال المسير في المجهول. في كل من 2019 «بعيدًا - Away»، و2024 «التدفق - Flow»، يكون البحث عن الأمان والانتماء بعد الكارثة هو ما يقود الشخصيات في رحلتها، ليكتشفوا عوالم جديدة ويعيدوا تشكيل أنفسهم في مواجهة هذا المجهول.
يسقط مفهوم الأسماء في فيلم 2024 «Flow» كما يسقط معه حضور الإنسان وهيمنته وثقل لغته. لا أحد هنا ليمنح المسميات أو يفرض الكلمات، فالحياة تمضي وفق إيقاعها الفطري، حيث تحل الحركة محل اللغة، وتصبح النظرات والتصرفات وسيلة التواصل الوحيدة. تحكم الطبيعة هذا العالم متحررة من التصنيفات البشرية، فلا معنى للأسماء حين يكون البقاء هو الغاية، ولا حاجة للكلمات حين تتحدث الغريزة بصوت أعلى.
يتحرر الفيلم عن استخدام أسلوب الأنسنة (Anthropomorphism)، الذي غالبًا ما يُستخدم في أفلام الرسوم المتحركة مثل «الأسد الملك» (The Lion King 1994) و«زوتوبيا» (Zootopia 2016). القط لا يتحول إلى شخصية كرتونية ناطقة أو يتصرف بصفات بشرية، بل يبقى قطًا بكل عفويته: يتثاءب بكسل، يتمدد بهدوء، ويتأمل العالم بفضول وذعر. تنسحب هذه الواقعية على بقية الحيوانات أيضًا، حيث يحمي الطائر العملاق المجموعة بحزم، بينما يتصرف الكلب بحساسيته الغريزية، منتبهًا للخطر قبل حدوثه، لكنه يهز ذيله بسعادة عند رؤية القط، وكأنه يعكس شعورًا بالأمان في صحبته. أما الحوت، فيظهر ويختفي كمنقذ، في دور يذكّرنا برمزيته في بعض القصص الدينية، في حين يضفي القرد وخنزير الماء جوًا من المرح والحيوية على الرحلة. هذه التفاصيل الذكية عززت الارتباط العاطفي بين القط ورفاقه من جهة، وبين المشاهد والشخصيات من جهة أخرى، لتخلق تجربة حسية تعتمد على الصورة والحركة بدلاً من الحوار واللغة.
يحدث أن يتبنى مخرج ما معتقدات وقواعد ومعايير سينما الشعر ومع ذلك يحقق فيلماً مدّعياً وسيئاً. ويأتي مخرج آخر ويتبنى معتقدات وقواعد ومعايير سينما النثر – أي أن يروي قصة – ومع ذلك يبدع.
— بيير باولو بازوليني
على الرغم من أنه يُصعب تحديد خصائص السينما الشعرية بدقة، إذ تتعدد الطرق التي يمكن من خلالها الاقتراب من هذا المفهوم وفهمه. ما يميز السينما الشعرية هو قدرتها على خلق تجربة عاطفية وجمالية للمشاهد من خلال مزج الصور والموسيقى والرموز بطريقة تعبيرية تتجاوز السرد الخطي أو الحبكة التقليدية. تستخدم هذه السينما تقنيات مثل تدفق الزمن غير المنطقي، وتعبير المشهد بدلًا من الحوار، مما يجعلها أكثر مرونة وتفتح المجال لتفسيرات متعددة بناءً على الرؤية الفنية للمخرج.
غالبًا ما يُعتبر غياب الحوار في أفلام «زيلبالوديس»، بما في ذلك «تدفق» (2024 Flow)، اختيارًا فنيًا مدروسًا أكثر من كونه مجرد ضرورة إنتاجية. هذا الخيار يتطلب منه إتقانًا بصريًا عاليًا لتوصيل المشاعر والأفكار دون الحاجة للكلمات، وهو ما يظهر في اختيار اللقطات أو في حركة الحيوانات التي كانت أقرب إلى الحقيقة، ولكن في عالم أسطوري، ما أضفى على المشهد طابعًا خاصًا. هذا المزج بين الحقيقي والخيالي خلق صورة عاطفية، بينما عزز الصمت من الأبعاد الشعرية للصورة السينمائية، وأصبحت الصورة هي الوسيلة الرئيسية للتعبير عن مشاعر الشخصيات وتطور الأحداث.
يبتعد فيلم «تدفق - Flow» عن الأسلوب المعتاد في أفلام الرسوم المتحركة التي تعتمد على القطع السريع واللقطات الثابتة لإضفاء حركة ديناميكية أو تسريع الإيقاع بدلًا من ذلك. يستخدم الفيلم اللقطات الطويلة والكاميرا المحمولة التي تتابع حركة القط ورفاقه في القارب عبر المياه، مما يخلق مشاهد صامتة تتحول إلى خطوط زمنية ممتدة تتيح للمشاهد حالة من التأمل والسكينة. كما تُعزز المشاهد المتكررة لآثار الإنسان والمعابد الخاوية فكرة تكرار دورة الفناء والتجدد، حيث يصبح الزمن جزءًا أساسيًا من التجربة البصرية، ممتدًا يرمز إلى الاستمرارية وإعادة التكيف مع العالم الجديد.
يتأرجح الفيلم في بعض مشاهده بين عالمين متداخلين الأول هو واقع القط، الذي يواجه فيضانًا دمر حياته، والثاني عالمه الداخلي المفعم بالذكريات والأحلام. في إحدى لحظاته، يغرق القط في حلم أشبه بأحلام اليقظة، يعيد فيه الطوفان ابتلاعه من جديد، وكأن الماضي يفرض نفسه في صور أسطورية غامرة. في المشهد الأخير، الذي يلامس حدود الحلم، تنعدم الجاذبية، ويرتفع القط والطائر وسط السماء، محاطان بالنجوم، في لحظة تتلاشى فيها الحدود بين الواقع والمجاز. لكنه حين يعود إلى رفاقه، لا يعود كما كان، بل محملًا بتجربة غيرته بعمق، وكأن الرحلة لم تكن مجرد نجاة، بل بحثًا عن الذات وسط عالم يتغير. ومع ذلك، تبقى الصداقة والعلاقات الإنسانية الثابت الوحيد وسط هذا التبدل المستمر.
# سينما # أنمي # رسوم متحركة # أوسكار # جوائز ومهرجانات # موسم الجوائز السينمائية