مجتمع

كيف نفهم صعود اليمين المتطرف في مجتمعات أوروبا؟

تجتاح أوروبا موجات عاتية من اليمين المتطرف الذي يتجه لإعادة رسم خريطة السكان والقوانين والعلاقات الإنسانية والدولية في القارة العجوز، فما الذي يحدث؟

future من اليمين: زعيمة اليمين الفرنسي ماري لوبان، رئيسة الوزراء الإيطالية اليمينية جورجيا ميلوني، ورئيسة حزب البديل من أجل ألمانيا أليسا فايدل.

تجتاح أوروبا موجات عاتية من اليمين المتطرف، الذي يتجه إلى إعادة رسم خريطة السكان والقوانين والعلاقات الإنسانية بل والدولية، في القارة العجوز، وذلك بوصفه جزءاً من سياق عالمي أوسع نطاقاً.

وبعيداً عن الحسابات السياسية، فإن السكان على تنوع انتماءاتهم ومشاربهم يجدون أنفسهم معنيين بهذه الظاهرة، التي تطبع بصماتها شيئاً فشيئاً على حياتهم. ويقع المهاجرون العرب والمسلمون في قلب هذا الجدل، وبخاصة في أوقات الحملات الانتخابية التي عادة ما تشهد انتشاراً للخطاب المتطرف، ليس على مستوى الدول فحسب، بل على مستوى برلمان الاتحاد الأوروبي الذي صعد فيه اليمين المتطرف بقوة مؤخراً.

عرب أوروبا

يركز اليمينيون بشدة على ملف المهاجرين، لاسيما العرب، باعتبارهم سبباً للأزمات الاقتصادية، على رغم أن كثيرين منهم يشغلون وظائف مرموقة أو حتى وظائف شاقة في قطاعات لا يرغب الأوروبيون في القيام بها، كقطاع البناء، أي إنهم يقدمون خدمات مهمة لتلك البلدان، لكنهم ضحايا دائمون للعنصرية التي تتفشى فيها بشدة.

في فرنسا مثلاً تابع العرب بقلق بالغ صعود شعبية رئيس حزب التجمع الوطني المتطرف، جوردان بارديلا، الذي تعهد -إذا حصل على الأغلبية- بأن يقدم إلى البرلمان قانوناً حول الهجرة، يهدف إلى طرد الأجانب، وإلغاء حق الأطفال الأجانب المولودين في فرنسا في الحصول على جنسيتها، ومنع المهاجرين غير الشرعيين من الرعاية الطبية المجانية، واستبعاد مزدوجي الجنسية من المناصب المهمة، وتشديد قيود حصول المهاجرين على السكن الاجتماعي.

وتحتل مظاهر الهوية الإسلامية، مثل الحجاب، صدارة الاهتمام في أوقات الحملات الانتخابية، فالمرشحة المتطرفة، مارين لوبان، أعلنت قبيل انتخابات الرئاسة عام 2022، نيتها حظر الحجاب في دولتها التي تضم أكبر عدد مسلمين في غرب أوروبا.

وبخلاف تهديدات الساسة، فإن كثيرين يعانون التمييز المجتمعي، ففرص التوظيف تكاد تنعدم بسبب الحجاب أو الأصل العربي. ويشكو البعض من أنه ما إن يقرأ صاحب المؤسسة اسم المتقدم للعمل حتى يرفض قبول سيرته الذاتية مباشرة.

ومع استمرار صعود هذا التيار في فرنسا، سلطت وسائل الإعلام الأضواء على أوضاع بلدية بربينيان غرب البلاد التي يحكمها العمدة اليميني، لويس أليوت؛ فثلث سكانها تحت خط الفقر، وتعاني معدلات بطالة مرتفعة، وهي موطن أحد أكبر مجتمعات الغجر المستقرة في أوروبا الغربية، ومع مجيء أليوت ازدادت مخاوف عائلاتهم التي عاشت هناك لأجيال من الترحيل القسري، والنظرة العنصرية تجاههم.

ويعبر أحد مواطني الغجر قائلاً:

«يُنظر إلينا كفرنسيين عندما تكون هناك انتخابات وتكون أصواتنا ذات أهمية، ولكن بمجرد انتهاء الانتخابات، يعاد النظر إلينا باعتبارنا غجراً».

العنصرية والانعزالية

يعتمد اليمينيون على إشعال النعرات القومية الضيقة والترويج للانعزالية وروح العنصرية؛ فالكثير منهم يقف ضد الاندماج في الاتحاد الأوروبي ويطالب بالخروج منه أو تقليص صلاحياته، ويعتمدون في الترويج لمعاداة المهاجرين على نظرية الاستبدال العظيم، وهي نظرية عنصرية تدفع بأن هناك مؤامرة لاستبدال السكان الأصليين بالمهاجرين.

يجتهد نشطاء التيار في الدعاية لفكرة أن دولة الرفاهية يجب أن تكون مخصصة لفئة المواطنين الأصليين المستحقة لكل المزايا، مما يساهم في ترسيخ التمييز ضد باقي الفئات، وفي أوقات الانتخابات تركز الدعاية على تخيير المصوتين بين تأييد الهجرة الجماعية أو الرفاهية.

قاد حزب الشعب الدنماركي هذا الطريق، فقد حصد نجاحاً انتخابياً هائلاً من خلال تنصيب نفسه المدافع عن دولة الرفاهية، وصاغ رسالة للطبقة العاملة مفادها الدفاع عن دولة الرفاهية من خلال استبعاد المهاجرين من المزايا، وسرعان ما تبنت معظم أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا الغربية خطابه، الذي يشار إليه باسم شوفينية الرفاهية Welfare Chauvinism.

لكن على رغم تقدم التيار المتطرف في أنحاء أوروبا، فإن الأغلبية تتحرك عكس نموذجه الاجتماعي الذي يتبنى نموذج الأسرة التقليدي والزواج المبكر للفتيات وتشجيع إنجاب المزيد من الأطفال؛ فقد انخفضت معدلات الزواج والمواليد في دول الاتحاد بشكل حاد.

ونتيجة للتقلص المستمر في عدد الأوروبيين في سن العمل ونمو عدد المسنين، يزداد احتياج القارة العجوز إلى القادمين الجدد لتشغيل اقتصاداتها، ففي إيطاليا مثلاً اضطرت الحكومة اليمينية، المعروفة برموزها المناهضين للهجرة حين كانوا في المعارضة، إلى زيادة حصص تصاريح العمل للعمال من خارج الاتحاد إلى 452 ألفاً للفترة 2023-2025.

أسباب الصعود

مع زيادة تدفقات الهجرة واللاجئين وارتفاع معدلات البطالة والشعور بعدم الأمان الاقتصادي، يجد اليمين الأوروبي فرصته في النمو والانتشار، وقويت هذه الظاهرة بوضوح خلال الأزمة المالية العالمية (2008-2009)، حين فرضت العديد من الحكومات الأوروبية تدابير تقشفية قوضت الثقة بالأحزاب والمؤسسات السياسية الرئيسية، كما سرعت أزمة الهجرة في الفترة بين عامي 2014 و2016 هذا الاتجاه، مما أدى إلى بدء دخول تلك الأحزاب المتطرفة للحكومات في جميع أنحاء القارة.

بحسب باولا ريتل، الأستاذ المساعد في كلية هارفارد للأعمال، فإنه مثلاً في الحالة الإيطالية، هناك تصور بعدم إمكانية زيادة حجم الإنفاق العام، لأن الديون مرتفعة والاتحاد الأوروبي يحد من حجم الديون لإيطاليا، لذا فإن الحل اليميني المتطرف باستبعاد المهاجرين من الخدمات العامة، يصبح أكثر جاذبية في نظر العديد من الناخبين، ويساعد هذا في تفسير كيف يؤدي ضعف توفير الخدمات العامة إلى زيادة الدعم لليمين وزيادة المخاوف بشأن الهجرة. وقد وجدت الدراسات أن تدابير التقشف تؤدي إلى تراجع الثقة السياسية، مما يساهم في زيادة الدعم للأحزاب المتطرفة.

ومما زاد من تفاقم ظاهرة صعود التطرف الأبيض في المجتمعات الأوروبية أن العديد من السياسيين البارزين في السنوات الأخيرة تبنوا شعارات أو مواقف التيار على أمل منافسته على أنصاره قبل الانتخابات، لكنهم في واقع الأمر ساعدوا في ترسيخ وجود اليمين وليس إضعافه؛ إذ يميل الناخبون إلى اختيار الأصل، وليس النسخة المقلدة.

في الوقت نفسه، تحرك عدد من الأحزاب اليمينية المتطرفة نحو تبني خطاب أقرب إلى الوسط، وذلك لجذب المزيد من الناخبين الوسطيين والتخلص من وصمة التطرف؛ فالإعلان عن المخططات المتطرفة بصراحة من شأنه تنفير السواد الأعظم من الناس. فعندما تم الكشف عن مخطط حزب البديل من أجل ألمانيا لترحيل المقيمين المولودين في الخارج، بما في ذلك أولئك الذين يحملون الجنسية الألمانية، نزل عشرات الآلاف من الألمان إلى الشوارع، للإشارة إلى رفضهم لمواقف الحزب، ودفاعهم عن الديمقراطية الألمانية، ومبادئ التكامل واحترام حقوق الإنسان.

في مدينة بون وحدها، تظاهر نحو 30 ألف شخص تحت شعار «لن يتكرر ذلك مرة أخرى أبداً!»، حاملين لافتات كُتب عليها شعارات مثل «أخرِجوا النازيين» و«الكراهية ليست رأياً». وأوصلت تلك التظاهرات إشارة قوية للغاية إلى الأحزاب الرئيسية، لأن حزب البديل حقق صعوداً كبيراً على حسابهم، وروج لفكرة التضامن الحصري مع الألمان العاطلين عن العمل الذين يعانون ارتفاع تكاليف المعيشة، وبذلك نجح المتطرفون في حشد الأشخاص الأكثر ضعفاً في المجتمع ضد المهاجرين، ولم تستطع الأحزاب الكبرى مواجهة هذه الرواية التي كشفت عن قصور كبير في أداء النقابات العمالية.

يقول كاي أرزايمر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ماينز (Mainz) الألمانية:

«إن المخاوف بشأن المهاجرين غير الأوروبيين وغير البيض هي المحرك الأكبر لتصويت اليمين المتطرف».

ويوضح أرزايمر أن أهمية هذه القضية وحجمها يختلفان بين الطرفين، فهي تشكل مصدر قلق هائلاً للناخبين المعارضين، أما مؤيدوها فلا يعطونها أهمية كبيرة في أولوياتهم، فأحزاب اليمين المتطرف تركز على هذه القضية بالطريقة نفسها التي تركز بها أحزاب الخضر على قضايا البيئة، ونتيجة لذلك، فإن التركيز على تأييد مسألة الهجرة يعمل على إبقاء القضية في صدارة جدول أعمال الجمهور، وهو ما يميل لصالح اليمين المتطرف.

وعند البحث يتضح أن من أسباب انتشار الشعبويين اليمينيين مؤخراً، بساطة الفكرة، وسهولة عرضها، والتواصل الجيد مع الناخبين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وإن كانوا يستخدمون تكتيكات غير مشروعة مثل نشر الشائعات الكاذبة.

ومن أبرز الأمثلة على الأثر الهائل الذي يجنيه المؤثرون السياسيون اليمينيون المتطرفون على وسائل التواصل، نموذج جوردان بارديلا، زعيم حزب التجمع الوطني، الذي ذاع صيته بشكل سريع للغاية بسبب حضوره المتواصل على تطبيق تيك توك، رغم أن سنه لا يتعدى 28 عاماً، حتى كاد يصل لرئاسة الوزراء في الانتخابات البرلمانية الأخيرة لولا تراجعه في الجولة الثانية.

ومن المفارقات أن تطرف اليسار في فرض أجندته المتعلقة بالمثلية الجنسية، قدم لليمين هدية غير متوقعة على الإطلاق، فقد وجد المسلمون المحافظون والإنجيليون المسيحيون البيض أرضية مشتركة في معارضتهم لتغيير الأدوار الجنسية، والعلمانية، ووجد هؤلاء الأعداء السابقون كلمة سواء تتمثل في الالتزام المشترك بالقيم المحافظة ومكافحة نشر ثقافة المثلية الجنسية في المدارس.

ففي ديربورن، موطن أكبر عدد من المسلمين في الولايات المتحدة -حيث يشكلون حوالي نصف السكان في مدينة تعدادها 110 آلاف نسمة- يتوافد المرشحون والقادة المحافظون على المدينة، وينضمون إلى المسلمين في المطالبة بالرقابة وحمل لافتات معادية للمثليين في المسيرات.

المخاوف من تمكن اليمين

أثار صعود اليمين مخاوف قطاعات معينة أكثر من غيرها، ففي فرنسا مثلاً وقع أكثر من 800 شخص بما في ذلك ممثلون وصانعو أفلام، على مقال افتتاحي نشر في صحيفة لوموند في 23 يونيو، يحذر من حصول اليمين المتطرف على الأغلبية وخطره على الإعلام، كما قام نجوم مثل ماريون كوتيار وبيير نيني بنشر مقالات ضد اليمين المتطرف على وسائل التواصل الاجتماعي.

تتعارض صناعة السينما التي تميل نحو اليسار والوسط الفرنسي، مع خطاب اليمين المتطرف المناهض للهجرة وكراهية الأجانب، وتجادل الكاتبة ومخرجة الأفلام الفرنسية، كارولين فوريست، بأن الثقافة هي ساحة المعركة الوحيدة التي يمكن للتجمع الوطني أن يتطلع فيها إلى ترك بصماته العميقة بها، وسوف يتخذون موقفاً قوياً بشأن مواضيع معينة لتعزيز صورتهم أمام الجمهور.

وقد أعربت زعيمة اليمين الفرنسي، ماري لوبان، بالفعل بصوت عالٍ عن نيتها خصخصة محطات البث العامة الوطنية، وفي مقابلة مع محطة الإذاعة العامة فرانس إنتر في الثاني من يوليو؛ قالت إن شركات البث يجب أن تصبح خاصة، لأنه في دولة ديمقراطية كبيرة لا يمكن للدولة أن ترعى الجزء الأكبر من وسائل الإعلام، وأن أفضل طريقة لتكون حراً هي عدم الاعتماد مالياً على الحكومة.

خشي العاملون في صناعة السينما من أن تتبع لوبان خطا رئيسة الوزراء الإيطالية اليمينية، جورجيا ميلوني، المتهمة بالتدخل في المحتوى وخنق حرية التعبير منذ توليها منصبها في عام 2022، حيث سيطرت على مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الإيطالية واستبدلت رئيسها.

وعلى هذا النحو، شعر 13 ألف موظف بأنهم في خطر، إذا فاز اليمين المتطرف قبيل انتخابات الجمعية الوطنية في فرنسا.

لكن في النهاية يجب عدم إغفال حقيقة في غاية الأهمية، وهي أن اليمين لا يعتبر فوزه في انتخابات معينة هو أقصى طموحه، بل يريد استمرار الفوز في كل انتخابات وتعظيم مكاسبه، لذا لا يمكنه إثارة غضب الجميع مرة واحدة وتنفير ناخبيه، ولا يُتوقع أن ينفذ أجندته بشكل راديكالي بمجرد سيطرته على أي منصب، وذلك قبل أن يرسخ قبضته على مقاليد السلطة في أي دولة.

# اليمين المتطرف # فرنسا # أوروبا

احتجاجات أبوجا: صراع الدول الكبرى يصل إلى نيجيريا
فرنسا: كيف لنشيد وطني دموي أن يصنع المعجزات؟

مجتمع