«جلت في تجليها الوجود لناظري... ففي كل مرئي أراها برؤية».
يقول الصوفي المسلم عمر بن الفارض (1181م – 1235م) في قصيدته التائية، متحدثاً عن الذات الإلهية التي يراها في كل مرئي، أي كلما نظر إلى أي شيء شاهد ربه فيه.
ونفس المعنى كرره بعده الصوفي الألماني المسيحي مايستر إيكهارت (1260م – 1328م)، بحسب ما نقل رودلف أوتو في كتابه «التصوف في الشرق والغرب»، إذ يقول:
«كل ما يكون هنا أمام الإنسان متكثراً من الناحية الخارجية فهو في الحقيقة واحد؛ فهنا جميع أوراق الحشائش والأشجار، جميع الأشياء واحدة.. تلك هي الأعماق البعيدة».
والمعنى أن الله أو الرب موجود في كل شيء، فكل ما في الكون واحد وهو الرب الذي تجلى في كل مخلوقاته.
نفس الفكرة الوحدوية آمن بها قبلهم الفيلسوف الإغريقي أفلوطين (توفي 270م)، وإن لم يكن مؤمناً بدين سماوي، ولكنه آمن بوجود شيء واحد أرقى من المادة يسري في كل موجود على الأرض، بحسب ما جاء في النصوص التي نقلها تلميذه فرفوريوس الصوري، وجمعها تحت مسمى «التاسوعات».
إذ يرى أفلوطين أن هناك جوهراً أساسياً واحداً لكل الأشياء سماه الواحد، وهذا الواحد هو مثال الخير الذي يسري في داخل كل الأشياء.
لكن الفارق بين أفلوطين وابن الفارض ومايستر إيكهارت أنه لم يسمِ هذا الواحد بالرب، وإنما رآه الوحدة التي تشتق منها الكثرة الوجودية، ضارباً المثل بفكرة رياضية وهي رقم واحد الذي منه يتكون أي رقم مهما عظم وكثر، فالمليار هو واحد نتج عنه مليار.
ضرب أفلوطين المثل أيضاً بما وصفه بالأقانيم الثلاثة أو الأصول الثلاثة، وهي العقل والروح والرابط الواصل بينهما، وهذا الرابط الواصل بينهما هو جوهرهما معاً، وهذه المعادلة يمكن تشبيهها بالشمس التي تعتبر العقل، والقمر الذي يعتبر الروح، أما النور الواصل بينهما، فهو جوهرهما معاً، وهذا النور هو الواحد، بحسب أفلوطين.
تقريباً نفس المعنى نجده لدى الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (توفي في 1677م)، الذي حكم عليه بالارتداد عن الدين اليهودي، أي إننا لا يمكن أن نعده على أي دين سماوي.
يرى سبينوزا أن هناك جوهراً لكل الموجودات في الكون، وهذا الجوهر ليس مخلوقاً، ولم ينتج عن شيء، وإنما هو أزلي ولم يكتسب شيئاً من خارجه، أي إن هذا الجوهر موجود بذاته، فهو الوجود ذاته، لأنه كامن وأصيل في كل شيء نراه أو نشعر به، بحسب ما نفهم من الدكتورة أمل مبروك في كتابها الفلسفة الحديثة.
هذا الاشتباك بين تصوف الفلاسفة غير المؤمنين بالديانات السماوية والصوفية المؤمنين الذين ذكرناهم يثبت الفرضية التي تقول إن التصوف واحد، ولكن كل ثقافة (دينية أو غير دينية) تطوعه لمفاهيمها، فبينما كان أفلوطين وسبينوزا يتحدثان عن الجوهر الموجود في كل موجود، كان الصوفية المؤمنون بالديانات يتحدثون عن الرب الإله.
ماذا يوحد الصوفية بين الديانات والثقافات المختلفة، كيف تتحد تجاربهم الروحية رغم اختلاف تأويلاتهم وتفسيراتهم لها، هل تسللت الروحانية الصوفية إلى خارج الإطار الديني، أم إنها موجودة بالأساس داخل كل إنسان، هل غير المؤمن بدين بحاجة إلى التصوف؟ هذا ما نلقي الضوء عليه في ما يلي.
محيي الدين بن عربي أحد أهم أعلام التصوف الإسلامي، يقول في كتابه الأهم «الفتوحات المكية»:
«ولما كان من لا يؤمن بالشرائع المنزلة يشاركنا في الرياضة والمجاهدة وتخليص النفس من حكم الطبيعة، ويظهر عليه الاتصال بالأرواح الطاهرة الزكية، ويظهر حكم ذلك الاتصال عليه مثلما يظهر على المؤمنين العاملين منا هذه الأعمال بحكم الشرائع المنزلة، وقع التشبيه والاشتراك بيننا وبينهم في هذا القدر عند عامة الناس».
ولما تعلق هؤلاء الصوفية -غير المؤمنين بالديانات- بالحياة الروحية وما تعطيه لهم، «انتقش في هذه النفوس الفاضلة جميع ما في العالم، فنطقوا بالغيوب»، بحسب ما يقول ابن عربي.
نحن هنا أمام اعتراف واحد من أساطين التصوف الإسلامي، بأن التجارب الروحية التي يعيشها الصوفي المسلم وتنتج عنها الاستنارة أو الكشوفات الغيبية، يمكن أن يعيشها حتى غير المؤمن بدين سماوي، بعد أن أثبت ابن عربي نفس الشيء في مواضع أخرى من كتاباته للرهبان المسيحيين.
نظرية ابن عربي تبناها بعد ذلك فلاسفة غير مسلمين ومنهم الفيلسوف الإنجليزي ولتر ستيس في كتابه «التصوف والفلسفة»، والباحث في الديانات الشرقية روبرت تشارلز زاينر في كتابه «التصوف المقدس والمدنس - Mysticism Sacred and Profane».
يفرق زاينر بين التجربة الصوفية وتأويلها أو تفسيرها، معتبراً أن التجربة الروحية الصوفية الشعورية نفسها واحدة في كل الثقافات، ولكن تفسيرها يختلف بين ثقافة وأخرى وفقاً لمفردات وخلفيات أصحاب هذه الثقافة أو هذا الدين.
فهذا الاتحاد مع الروح العليا يفسره المسلم والمسيحي واليهودي على أنه اتحاد مع الرب، ويفسره غير المؤمنين بدين بالاتحاد بالجوهر الموجود في كل الموجودات، أو بالنواة الأولى التي ينبثق عنها الشيء الموجود كما لدى أفلوطين.
ويرى ولتر ستيس أن هذا الإحساس بالجوهر الواحد المقدس، الناتج عن تلك التجارب الروحية تسلل إلى الفضاء الإنساني العام، ضارباً المثل بما كتبه الشاعر الإنجليزي وليام وردز ورث (توفي 1850م):
«إحساس جليل بشيء يتغلغل بعمق نافذ
مسكنه بين الشموس المحيطة
وفي المحيط الهادر والهواء الحي
وفي السماء الزرقاء وفي ذهن الإنسان
حركة وروح تدفعان جميع الموجودات المفكرة
وموضوعات الفكر كلها، وتنتشر في جميع الأشياء».
ويعلق ستيس على هذه الأبيات (ترجمها للعربية الدكتور إمام عبدالفتاح) بأنها تعبر عن نفس ما يعيشه الصوفية في جوهر تجاربهم الروحية، معتبراً أن وردز ورث لم يكن صوفياً (متفلسفاً أو متديناً)، وإنما عاش معنى صوفياً ظهر على شعره المذكور.
وخرج ستيس بنتيجة وهي أن الأفكار الصوفية انتقلت من المتصوفة إلى المجرى العام للأفكار في التاريخ والأدب.
ويعلق وليم جيمس عالم النفس الأمريكي المسألة من ناحية سيكولوجية في كتابه «التنوع في التجربة الدينية - The Varieties of Religious Experience»، إن أهم إنجاز للتصوف هو كسر الحواجز بين الفرد والمطلق، إذ توحد التجربة الصوفية الفرد مع القيمة المطلقة أو الواحد المطلق.
ويؤكد جيمس أن هذه التجربة يصعب تغييرها مهما تغيرت العقائد، حتى إن الأقوال المأثورة عن المتصوفة في الثقافات المختلفة تجدها متشابهة جداً إن لم تكن متطابقة في معناها وإن اختلفت ألفاظها.
فالمشاعر الصوفية عند من يعيش هذه التجربة واحدة، وجميعها تنتهي إلى تقديس هذا الواحد، هذا الجوهر، هذا الإله، وهذا التقديس ليس المقصود منه التأليه كما قد يفهم، ولكنه الاحترام الشديد والتقديس العظيم للفكرة التي لا يشوبها دنس بالنسبة للمتصوف.
وجميع هذه التجارب تتجاوز فكرة الزمان والمكان وتسمو إلى ما هو فوق العالم، إلى شعور لا يمكن وصفه لشدة نبله وسموه، وينتج عن كل ذلك سعادة وسلام نفسي لا يوصفان، ولكن كل شخص يفسر ويحكي تجربته من واقع ثقافته، سواء كان معتنقاً ديناً سماوياً أو عقيدة غير دينية، يقول جيمس.
يقسم ولتر ستيس التجارب الصوفية في كل الديانات والثقافات إلى نوعين، وهما «التجربة الانبساطية» و«التجربة الانطوائية»، واللتان تمثلان فكرتين أساسيتين وهما «الاتحاد» و«وحدة الوجود».
التجربة الانبساطية تتلاقى مع فكرة وحدة الوجود التي يرى الصوفي خلالها الله أو الروح العليا أو المثال الأعلى في كل شيء حوله، فهو خلالها منفتح على محيطه الخارجي، على الدنيا والموجودات، ولكنه يراها جميعها واحدة وهي الله أو الروح العليا أو الجوهر الساري في كل الموجودات.
ويتلاقى تعريف التجربة الانبساطية عند ستيس مع ما لمسناه في شعر ابن الفارض الذي بدأنا به سطورنا حين تحدث عن الذات الإلهية وقال عنها «في كل مرئي أراها»، ومع ما سماه أفلوطين الواحد الذي تنبثق عنه الموجودات أو الذي تشتق منه الكثرة الوجودية.
أما التجربة الانطوائية فهي تجربة داخلية في نفس الصوفي، هدفها الاتحاد بالله، وخلالها يتجرد الصوفي تدريجياً من كل موجود حتى من حواسه نفسها مثل النظر والسمع والتذوق واللمس حتى يفنى عن الدنيا ويصبح في مواجهة مع ربه، نتيجة للوجد الحارق والعاطفة الشديدة تجاه ربه أو الجوهر أو المثال الأعلى، وهنا يحدث الاتحاد، يحدث الذوبان بين العاشق ومعشوقه.
هنا يتحد الصوفي بمعشوقه الإلهي أو بالجوهر أو الروح العليا، ويصبح كما جاء في الحديث القدسي الذي رواه البخاري، والذي يقول فيه الله عن عبده الذي يحبه «... كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها...».
هذه التجربة تسبقها تمارين روحية صوفية تختلف من ثقافة إلى أخرى، كما الخلوة التي تحدث عنها أبو حامد الغزالي في «إحياء علوم الدين»، وابن عربي في «كتاب الخلوة» وغيرهما، والتي ينعزل خلالها الصوفي لمدة 40 يوماً عن الناس، في غرفة منخفضة السقف، مظلمة، لا يتحدث إلى أحد ولا يرى أحداً، ولا يفعل شيئاً سوى الذكر والتأمل والتدبر ومناجاة الله بالقلب والروح.
مثل هذه الخلوات يمارسها البوذيون والزرادشتيون، وكما الطقوس التي تحدثت عنها سانت تريزا أو القديسة المسيحية تريزا الأفيلية (ماري فرنسوا)، التي وضعت خمس مراحل روحية تأملية تعبدية يعيشها الصوفي حتى يصل إلى الاتحاد بربه، بحسب ما نفهم من هيلين إيستر كولفيل Helen Hester Colvill في كتابها « Saint Teresa of Spain – القديسة تريزا الإسبانية».
تقسم تريزا تحولات الصوفي أو مراحل تجربته الروحية إلى خمس مراحل: البذرة، ثم دودة القز، ثم الشرنقة، ثم الفراشة، ثم اللاشيء.
ونلاحظ هنا تحول الصوفي بعد خروجه من شرنقة الدنيا إلى فراشة تحترق بالنور الإلهي، فتفنى وتتحول إلى لا شيء.
ويتلاقى ما نقلناه عن القديسة تريزا مع التجربة الصوفية الإسلامية التي يحترق الصوفي المسلم خلالها حباً ووجداً، فيؤدي الاحتراق إلى ذوبانه وتلاشيه في معشوقه الإلهي ويتحد به، بحسب ما نفهم من عبدالرحمن بدوي في كتابه «شطحات الصوفية».
تشبيه تريزا يشبه أيضاً ما هو موجود لدى الديانات الشرقية (البوذية والزرادشتية)، التي تعتبر أن عاشق النور كالفراشة يحرق ذاته عندما يقترب كثيراً من مصدر النور (الروح العليا)، وبهذا يفنى بذاته في الذات الأعظم.
اعتبر ولتر ستيس أن التجربتين الانبساطية أو الانطوائية المسيطرتين على كل الثقافات الصوفية لهما سبع خصائص أساسية، تتفقان في خمس منها، وتختلفان في اثنتين.
الخصائص الخمس المشتركة هي: الإحساس بالموضوعية أو الواقعية أو إن شئنا الإحساس بالصدق لدرجة اليقين، الشعور بالغبطة أو النشوة أو السعادة والرضا، الشعور بأن ما يدركه الصوفي هو شيء مقدس، انطواء التجربة على مفارقة أو تناقض أو الإحساس بشيء خارق للعادة، إحساس المتصوف بأن تجربته لا توصف أو أنها فوق الوصف بكلمات.
بجانب هذه الخصائص المشتركة هناك خاصيتان لكل تجربة تختلف عن الأخرى، ففي التجربة الانبساطية هناك رؤية الصوفي الأشياء برؤية موحدة، فهو يرى أن الكل واحد، الكل يسري فيه الجوهر، أو كل شيء مسكون بالرب أو الله؛ ونلاحظ أن الصوفي هنا يستخدم حواسه البدنية– وإن كان بشكل مساعد بجانب روحه- في إدراك تجربته.
أما الخاصية الثانية للتجربة الانبساطية والمرتبطة أو المكملة للخاصية الأولى فهي أن الصوفي يدرك أن الحياة التي تسري في كل شيء؛ هي الله أو جوهر الكون، فالكل واحد، بحراً، وجواً، وأرضاً، وهنا نتذكر قول الصوفي المسلم الحسين بن منصور الحلاج: «يا كل كلي وكل الكل ملتبس وكل كلك ملبوس بمعنائي».
فهو يرى أن الكل أو جميع المظاهر والموجودات هي الله، وكل هذه الموجودات واحدة، وكلها ملبوسة أو مختلطة أو متحدة به هو شخصياً، لأن الله بداخله كما هو بداخل هذه الموجودات.
أما الخاصيتان المتعلقتان بالتصوف الانطوائي فهما بحسب صياغة ولتر ستيس:
1- الوعي الموحد الذي يستبعد كل كثرة للمضمون الحسي أو التصوري أو أي مضمون تجريبي آخر، حتى إنه لا يبقي سوى الوحدة الفارغة أو الخيالية بحسب تلك هي الخاصية الأساسية أو الجوهرية أو النواة التي تنتج عنها معظم الخصائص الأخرى.
2- التجربة ليست مكانية أو زمانية، وهي خاصية تنبع بالطبع من الخاصية النواة التي ذكرناها الآن تواً.
أي إن التجربة هنا هي تجربة في باطن الصوفي، ولا ترتبط بأي شيء خارجي عنه، فهو لا يرى الكون ولا الموجودات ولا يشعر بهما من الأساس، هو فقط يرى الجوهر، يرى الرب مجرداً غير مرتبط بأي شيء، فهو لا ينتظر أن يرى البحر أو السماء أو الأرض ليشعر بوجود الرب أو الجوهر، لأنه يراه في داخله بعيداً عن الزمان والمكان، بعد أن يتجرد عن كل هذه الأشياء.
وللتقريب يضرب ستيس مثلاً بلاعب الكرة الذي يتعرض خلال اللعب لركلات مؤلمة من الخصوم ولا يشعر بها، نتيجة انشغاله وتركيزه الشديد باللعب، الذي أدى إلى سخونة جسده وجعل عضلاته لا توصل آثار الضربات إلى عقله، ولكنه بعد أن ينتهي من اللعب ويبرد جسده يشعر بما حدث له، وقد يتذكر سبب إحساسه بالألم، ويعرف أن هذا الألم في هذا المكان من جسده كان نتيجة ارتطامه بلاعب آخر بعينه أثناء اللعب.
وهذه الاستفاقة للاعب الكرة تشبه استفاقة الصوفي بعد سكره، وحكيه من خلال شعره عما شاهده حال اتحاده بربه وهو غائب عن الوعي الدنيوي.
بعد هذا الاستعراض، قد نتساءل: إذا كان شخص غير مؤمن بدين بالأساس، ويصنف مجازاً ملحداً أو لا دينياً مثلاً.. لماذا يتصوف أو يمارس الشعور الصوفي، أو بمعنى آخر: هل يحتاج إلى التصوف؟
هناك ارتباطات خفية بين الجمال والتصوف بحسب ما يرى ولتر ستيس، وبالتالي فإن الأشخاص الحساسين المهمومين بالجمال الباحثين بعمق عن جوهر الأشياء، سيجدون أنفسهم متورطين في الشعور الصوفي، بل يمكن القول إن الوعي الصوفي كامن عند جميع البشر مستتراً تحت سطح الوعي، ويظهر إذا ما توفرت أجواء تحفزه.
كذلك فإن الانفعال العاطفي الصوفي يمد الإنسان بإلهامات لا يستطيع الحصول عليها بالبحث العلمي وحده، وبالتالي كان التصوف ضرورياً لبعض الفلاسفة والعلماء، فهو الكمال لعلمهم وحكمتهم.
ومن هذا المنطلق اعتبر الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل في كتابه «التصوف والمنطق ومقالات أخرى»، أن وحدة التصوف مع العلم تشكل أعلى مكانة مرموقة يمكن إنجازها في عالم الفكر.