حين ظهرت سهرات «مودرن سبورت» التي كان يقودها المذيع والمعلق الرياضي المصري الأشهر: مدحت شلبي كان الغرض المعلن لها مناقشة المشهد الكروي المصري العام، وتناول مباريات الدوري والمنتخب بالنقاش والتحليل.
لكن المتابعين، وربما شلبي ورفاقه، لا يذكرون شيئاً من حديث تلك الأيام الغابرة التي مضى عليها أكثر من 15 سنة. بل كل ما يذكره الجمهور وأصبح ملازماً للجنرال بعد ذلك في تجاربه الإعلامية اللاحقة، هي نوبات الضحك التي كانت تتملكه وضيوفه من قدامى اللاعبين، حتى عند مناقشة قضايا مهمة وحساسة، كقضية التِلر المسيء الشهيرة.
تمر الأيام وتنقضي السنون، ويجيء عصر لا تشغل فيه «الهجايص» نفس المساحة التي كانت تشغلها قديماً على المستويين العالمي والمحلي. وسط تلك الجدّية التامة؛ بزغ نجم أحد الأستوديوهات التحليلية وتربع على عرش المشاهدات العالمية. وهو الأستوديو الذي تنتجه شبكة التلفزيون الأمريكية «CBS Sports» والخاص بتحليل دوري أبطال أوروبا، الذي اشتهر لدى الجمهور بوجود تييري هنري وميكا ريتشاردز وجيمي كاراغر.
المثير عند مشاهدة مقتطفات من ذلك البرنامج، تشعر وكأنك دخلت في فجوة زمنية. أعادتك لسهرات «مودرن» بقهقهاتها العالية وأحاديثها الفارغة من المضمون المليئة بالفكاهة التي لا تنقطع، ولكن بلغة مختلفة. من هنا نحاول المقاربة بينهما، والإجابة عن سؤال مهم: هل لا تزال كرة القدم بحاجة إلى الفكاهة في تناولها رغم ما يكتنفها من جدية؟
في النصف الثاني من موسم 2019/2020 الذي تزامن مع جائحة كورونا؛ أعلنت شبكة «TNT Sports» عن تخليها عمّا تبقى في عقدها من حقوق بث بطولات دوري أبطال أوروبا والدوري الأوروبي ودوري المؤتمرات، باللغة الإنجليزية في أمريكا.
في تلك الأثناء كانت شركة «Paramount» قد حصلت على حقوق البث لتلك البطولات في أمريكا، لمدة ثلاثة مواسم تبدأ من موسم 2021/2022، عبر شبكة قنوات «CBS Sports» التابعة لها. لكن انسحاب شبكة «تيرنر» أغرى مسئولي باراماونت بتمديد العقد ليشمل الموسم ونصف المتروكين.
هكذا بدأت رحلة برنامج «Champions league Today» الذي كان طاقمه الأساسي مكوناً من كيت أبدو مقدمة البرنامج، وميكا ريتشاردز وجيمي كاراغر وروبيرتو مارتينيز كضيوفٍ دائمين. لكن مارتينيز ترك البرنامج ليقود المنتخب البلجيكي في كأس العالم 2022، وخلى مقعده للنجم الفرنسي المعتزل تييري هنري. وبذلك أصبح الرباعي الأخير علامة البرنامج المميزة، وبالكاد يتذكر أحد وجود مارتينيز.
رغم أن البرنامج مُوجه بالأساس إلى الجمهور الأمريكي الذي لا تعد كرة القدم من بين الرياضات المفضلة عند معظمه؛ فإن البرنامج وفقًا لشبكة «CBS Sports» قد حقق مشاهدات بلغت 3.5 مليار مشاهدة عبر منصات التواصل الاجتماعي، في الموسم الماضي فقط.
لم يكن يتوقع «بيت رادوفيتش المنتج المنسق للبرنامج، أن يحقق تلك الأرقام الضخمة أو أن يغزو أستوديو تحليلي لكرة القدم يعرض على منصة أمريكية وسائل التواصل في أوروبا والعالم. لدرجة أن تيري هنري صار يُسأل عن الأستوديو أكثر مما يُسأل عن أرسنال، وفق تعبيره.
فما السبب؟
تتبدى فرادة تجربة «مودرن سبورت» وريادته، عند مطالعة الإقبال الكبير والمشاهدات الخيالية التي تحققها البرامج والأستوديوهات صاحبة ذات السمت في الوقت الحالي، مثل أستوديو «Champions League Today» صاحب المشاهدات المليارية، والمقاربة بينهما.
يمثل تيري هنري قاعدة مثلث البرنامج «الأمريكاني» والضلع الأكثر جدية فيه، بتقديم تحليلات تكتيكية مُعدة جيداً. ولا يمنعه ذلك من الانخراط مع ميكا ريتشاردز الضلع الترفيهي الخالص في المثلث الذي يُلقي نكاتاً وتعليقات ساخرة طوال الوقت يتخللها بعض الحديث الجاد، وليس العكس.
بين الاثنين يجلس جيمي كاراغر الذي يمثل بخبرته الطويلة لاعباً ومحللاً، همزة الوصل بين ميكا الضحوك وهنري الجاد. يشاركهما الهزل ويخترعه في أحيان كثيرة بسبب لهجته الإنجليزية السكاوزية، التي أصبحت مثار تندر في كل حلقة تقريباً. ولا يفوته تقديم تحليلات جادة لا تقل كفاءة عن تلك التي يقدمها في التلفزيون الإنجليزي.
في البرنامج «المصري» الرائد، لم تكن هنالك حاجة لتفكيك ما يحدث في المباراة، ولم يكن من الضروري إطلاقاً الإعداد المسبق، طالما كانت هناك القدرة على الارتجال والخروج من مأزق الحرج. ولم يكن ارتجال ضيوف البرنامج عادياً، بل كان فيه من خفة الظل والعشوائية ما يطرب الجمهور ويسحبه إلى بئر الضحك حتى نهاية السهرة.
على سبيل المثال: يطلب شلبي من محمود بكر لمحة سريعة عن نتائج إحدى جولات الدوري الممتاز «ب»، يستلم بكر ورقة من أمام الضيف الآخر فاروق جعفر، ويبدأ في قراءة «جدول الترتيب». ينبهه شلبي وجعفر إلى أن النتائج مكتوبة في الجزء العلوي من الورقة، ويرد بكر بسريالية، «فوق الجدول مكتوب شريف إكرامي».
يحاول الغزال إبراهيم يوسف الوقوف على أسباب تراجع مستوى أحد اللاعبين، عن طريق إثارة معضلة التأقلم. يجادل مجدي عبدالغني بوجود باع طويل للاحتراف في الدوري المصري من 1991 حتى 2010 يجعل التأقلم حجة ضعيفة للاعبين، فتلك مدة طويلة قدرها 19 سنة، لكن الغزال مصمم أنها 21 سنة، معللاً ذلك بـ«فرق التوقيت بمناسبة رمضان».
تقدم البرنامج الأمريكي كيت عبدو المذيعة ظريفة الحضور وصاحبة الذكاء اللغوي الحاد وسرعة البديهة النابعين من إتقانها أربع لغات اكتسبتها من عملها الطويل في كبرى منصات الإعلام الرياضي العالمي. لكن سمة كيت الأبرز في قدرتها على إدارة ذلك الثلاثي بطريقة تسمح بإبراز سماتهم الشخصية التي يحبها الناس وتتماشى مع سياسة القناة وتجربة الجمهور، مع تحقيق التوازن المطلوب بين الجد والهزل.
على عكس كيت التي تُخرج زملاءها من مآزق الصوابية السياسية والاندفاع المهلك أحياناً، نجد أن مدحت شلبي هو القوة المحركة لحالة العشوائية واللاجدية تلك. قد لا يبذل جهوداً ضخمة في استخراج الضحك من جعبة ضيوفه، لكنه لو أحس بالجدية أكثر من اللازم فإنه يقطع الحديث ويسجل ملاحظاته الطريفة لتبدأ جوقة الضحك.
يتحدث مجدي عبدالغني بجدية تامة عن أداء عمرو زكي بعد إنهاء مداخلة هاتفية مع اللاعب، يشعر شلبي أن الجدية المفرطة تضر بتلك السهرة، فيقاطعه بنفس النبرة الجادة، «لو لعب تحتيه شريف عبدالله كان فرق جامد جداً». يوافقه عبدالغني، ويراجعه أيمن يونس متسائلاً: من شريف عبدالله؟ ليتضح أنه أحد متابعي البرنامج الذي كسب جائزة توقع نتيجة المباراة.
على قدر ما ألهبت كرة القدم حماس الملايين حول العالم، وعلى قدر ما افتتن بها الكبار والصغار، إلا أنها حتى اللحظة تعدّ منتجًا غير رائج بالشكل المتوقع في أمريكا مقارنةً بدول أوروبا والشرق الأوسط. كانت برامج وأستوديوهات تحليل اللعبة الموجهة للمشاهد الأميركي، تتباسط في الشرح لدرجة التعريف بأبسط قواعد كرة القدم. لكن تلك النظرة تغيرت مع الوقت، وأصبح وعي المشاهد الأميركي بكرة القدم أكبر، خصوصاً مع احتراف عدد من اللاعبين الأمريكان في الدوريات الأوروبية الكبرى.
لكن الطابع الاستهلاكي الأمريكي لا يزال غالباً، ووفق رؤية «رادوفيتش» فالأمريكان يعدون أنفسهم أصحاب المنتجات الأفضل في السينما والتلفزيون والموسيقى والترفيه؛ فإن كنت ستقدم لهم وجبة رياضية كروية؛ فقدمها بالشكل الترفيهي الأفضل، وإلا فإن مصيرها سيكون الفشل كتجارب كثيرة سابقة.
من أجل ذلك اتجه صناع العمل لاستلهام نموذج رياضي مألوف، ليتسرب بسهولة تحت جلد المشاهد الأمريكي ويصبح قريباً له. وهو برنامج «Inside The NBA» الذي أثبت حضوره الطاغي ونجاحه الأكيد عبر عقودٍ في الصناعة الرياضية الأمريكية، بذات التكوين والتوليفة، لكنه خاص بكرة السلة.
تلك الرؤية تتفق مع إحدى المراجعات المنهجية لعدد من الدراسات التي نشرت في موقع «Frontiers» وتشدد على أهمية الفكاهة وتأثيرها على الصحة النفسية، وضرورة حضورها كعنصر أساسي في الحياة اليومية بصفة عامة، وبالأخص في علاجات الاضطرابات النفسية كالاكتئاب والقلق المزمن وغيرها. لتأثيرها الإيجابي في نطاقات الترابط مع الآخرين، والإحساس بالتمكين وكذلك الشعور بالاستقلالية والأمل، وقد ناقش بإسقاط ذلك على الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي صاحبت ظهور سهرات «مودرن سبورت» قبيل ثورة الـ25 من يناير، يمكن فهم الحذو الذي حذاه شلبي وضيوفه وحالة الإعجاب بها وقتها. كما يمكن أيضاً تفسير حالة النوستالجيا العميقة التي ضربت بجذورها في وجدان الجيل الحالي تجاه تلك النوعية من البرامج، لأن الزمانين رغم البعد النسبي بينهما، كما قال الشاعر، تطابقاً في الرزايا لُحمةً وسدى.
# رياضة # كرة القدم # كرة القدم العالمية # الإعلام الرياضي # كرة القدم المصرية