يؤمن الروائي المولع بكرة القدم إدواردو جاليانو بأن قميص منتخب الأوروجواي كان بمثابة الدليل الدامغ على هوية الأمة، هذا لأن الأوروجواي ظلت في كثير من النواحي تبدو كأنها خاضعة لهيمنة جيرانها الأكبر والأقوى من أمريكا الجنوبية، إلا أن كرة القدم جلبت لها اعترافاً عالمياً من خلال نجاحات فريقها منذ عشرينيات القرن الماضي وحتى خمسينياته.
وفي سياق متصل، فإن عضوية فلسطين في كل من اللجنة الأولمبية الدولية والاتحاد الدولي لكرة القدم يعتبرها البعض شكلاً من أشكال الاعتراف الدولي بالهوية الفلسطينية، هذا الاعتراف الذي يعاني من أجله الشعب الفلسطيني على جميع الأصعدة.
طبقاً لهذا الطرح، يبدو الربط بين الهوية الوطنية وكرة القدم أمراً مقبولاً لدى الكثيرين، فهي اللعبة الشعبية التي توحد طوائف المجتمع جميعها تحت راية الوطن ويُعرف بها الوطن نفسه في أحيان كثيرة، حتى إن الغارقين في تكتيكات اللعبة يستخدمون تعبيرات تربط بين اللعبة والهوية، مثل المهارة البرازيلية والكفاءة الألمانية والروح الإيطالية وهكذا.
لكن داخل الوطن نفسه تقاس الهوية الوطنية من خلال مكونات مختلفة تماماً، مثل اللغة والعادات ومكان الميلاد والدين، بينما يُنظر إلى كرة القدم على أنها سحر قادر على جذب الجميع دون تمييز، وهذا هو جوهر الحكمة الكامنة وراء معظم الكليشيهات التي تخبرنا بأن كرة القدم أكثر من مجرد لعبة.
ومثلما تدلنا الكرة على الهوية الوطنية بشكل شاعري أحياناً، فهي تشير في أوقات أخرى وبشكل قاسٍ إلى أزمات الهوية وتعقيداتها، تمنحك كرة القدم المجد والطمأنينة والتقبل، لكنها لا تمنحك صك الوطنية كما يعتقد البعض.
دعنا نبدأ القصة من منظور لاعب كرة القدم نفسه، ماذا لو أنصفتك الكرة في وطنك الجديد حتى بُني لك تمثال يخلد دورك المحوري كلاعب كرة عظيم ساهم في إنجازات هذا الوطن، هل يُشعرك هذا بالوطنية؟ السيد هنريك لارسون لاعب السويد التاريخي لا يعتقد ذلك.
في مقابلة مع جريدة الجارديان، وقف هنريك لارسون فوق أرض من العشب حيث تعلم لأول مرة ركل الكرة، ومن خلفه يطل المبنى السكني الذي قضى فيه طفولته، والشرفة التي كانت والدته تدعوه منها لتناول العشاء، حيث نظر ملياً وقال: لديَّ 106 مباريات دولية مع السويد، لكنني لا زلت أشعر بأنني أجنبي.
تحدث لارسون بأنه يعلم بالطبع أنه سويدي لكنه لا يشعر بذلك، فهو لم يشعر أبداً بأنه مواطن سويدي بنسبة 100%. يعتقد لارسون أن السبب الرئيسي هو كونه ابناً لمهاجر من الرأس الأخضر، فعلى الرغم من أنه عاش وسط عائلات كثيرة مهاجرة من يوغوسلافيا واليونان وفنلندا، لكنه كان الوحيد ذا البشرة الداكنة، لذا كان عليه خوض الكثير من المعارك أمام العنصرية.
عندما تنجح فقط تصبح جزءاً من هذا المجتمع، وهنا ينسى الناس من أين أنت، وما هو عرقك.
— هنريك لارسون
يؤمن لارسون بأنه لم يكوِّن علاقة مع السويد إلا بعد أن نجح في ملعب كرة القدم، حيث تناسى الجميع حينذاك عرقه وأصله، ويتفق هذا مع حديث السويدي الأهم زلاتان إبراهيموفيتش الذي ولِد لعامل نظافة بوسني وعاملة نظافة كرواتية، والذي يعتقد دوماً أن سبب نجاحه هو إصراره طفلاً على إسكات جميع المشككين في هويته. هذا الشعور الذي لم يستطِع أن يتجاوزه لارسون على الرغم من احتفال مدينة هيلسينجبورج السويدية بابنها الأكثر شهرة من خلال بناء تمثال له في عام 2011 على ساحل المدينة.
دعنا ننتقل بالقصة من اللاعبين إلى السياسة، ترى هل يمكن لكرة القدم أن تغير من التعامل السياسي مع الهوية الوطنية؟ فرنسا يمكنها دوماً الإجابة.
بعد أن فازت فرنسا بكأس العالم 98 اعتقد الكثيرون داخل فرنسا أن قوة هذا الفريق ووحدته بمثابة رسالة جريئة إلى بلد طالما تعامل بشكل شائك مع فكرة الهوية والمواطنة، وتجسَّد هذا الاعتقاد في الإشارة إلى أن هذا الفوز بمثابة رد فعل على جان ماري لوبان، زعيم حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف، الذي هاجم قبل عامين الفريق باعتباره مكوناً من أجانب وفرنسيين مزيفين.
ما حدث عملاً أنه مع تلاشي توهج الفوز عام 1998، أصبح من الواضح أن الفوز باللقب في أيدي فريق متعدد الثقافات لن يغير السياسات الفرنسية على المستوى الوطني، أو حتى على مستوى كرة القدم.
ففي العام 2010، ناقشت قيادة الاتحاد الفرنسي لكرة القدم خطة للحد من عدد اللاعبين أصحاب الأصول الأفريقية والعرب الذين يشاركون في منتخبات فرنسا للشباب. هذه القناعة وجدت ترحيباً هائلاً عند مدرب الديوك حينذاك لوران بلان، هذا يعني ببساطة أن الرجل الذي شهد بنفسه تألق زيدان وتورام يعتقد أن المنتخب الفرنسي يحتاج لهوية فرنسية خالصة بعيداً عن أمثال زيدان وتورام!
بل إن الأمر يتعدى فكرة عدم التقبل ويصل للملاحقة والإقصاء، فهناك حادثة مؤكدة، حيث أمر المسئولون عن كرة القدم في فرنسا بتفتيش الحقائب الخاصة باللاعبين من أصل مغاربي في المنتخب الوطني للشباب؛ للتأكد من أنهم لا يحملون سجادات الصلاة.
عادت فرنسا وفازت بكأس العالم 2018 وخرجت مقاطع فيديو لكانتي محتفلاً مع والدته المسلمة الملتزمة، وبوجبا وعائلته السمراء. لكن في الحقيقة لم يتغير شيء، بل إن أفضل من وصف هذا الواقع كان كريم بنزيما في تصريحه الشهير حول هويته كفرنسي.
عندما أسجل، أكون فرنسياً، وعندما لا أسجل فأنا عربي.
— كريم بنزيما
حسناً، تبدو كرة القدم عاجزة عن تغيير السياسات كما يروج البعض، لكن يتبقى لنا عنصر آخر، ربما يؤمن بسحر كرة القدم المفترض وهو الجمهور.
تحكي شابي خرسندي، الفنانة الكوميدية البريطانية الجنسية والإيرانية المولد، أنها خلال كأس العالم 1990 اضطرت لمشاهدة مباراة إنجلترا داخل حانة بريطانية في ألمانيا، إلا أنه بمجرد دخولها الحانة صمت الجميع محدقين بها في إشارة واضحة لعدم الترحيب، فهذه الحانة للبريطانيين وهي لا تبدو كذلك أبداً.
لكنها تعتقد أن الأمور تغيرت كثيراً، فالمنتخب الإنجليزي يلعب له رحيم سترلينج الذي يتشابه معها، كونه مهاجراً من الجيل الأول، فقد وُلد في جامايكا لكنه يلعب من قلبه من أجل إنجلترا، لهذا فهي لن تشعر بالخجل مجدداً من القفز من الفرح عندما تسجل إنجلترا الأهداف.
من هنا تستمد علاقة كرة القدم بالهوية الوطنية بريقها، من زاوية المشجع تحديداً، حيث يُعاد إنتاج الهوية الوطنية من خلال رفع العلم واحتفال المواطنين بالأهداف والتعلق بلاعبين متشابهين في الظروف المجتمعية. وهذا يعني ببساطة أن كرة القدم هنا تعمل كوسيلة لتذكير الناس بهويتهم المفترضة، حتى إذا كان هذا الشعور بالهوية أمراً لحظياً تماماً خلال مباراة كرة قدم تمتد لساعة ونصف فقط.
بل إن بعض اللاعبين يمثلون منتخبات معينة في الشباب ويشعرون بهويتهم كمواطنين ينتمون لتلك المنتخبات، ثم يلعبون لمنتخبات أخرى في مراحل الكبار. فأديما لوكمان على سبيل المثال فاز مع إنجلترا بكأس العالم للشباب، ثم كاد أن يفوز بكأس الأمم الأفريقية في نسختها الماضية مع المنتخب النيجيري، ترى كم إنجليزي من أصل أفريقي شعر بمدى صدق هويته عندما شاهد لوكمان بقميص إنجلترا؟
تمتلك كرة القدم سحراً لا يخيب، هذا السحر الذي يستغله البعض لمحاولة تصويرها على أنها النشاط الثقافي والاجتماعي الأهم الذي ربما يمكِّن الجميع من العيش ولو لدقائق دون الالتفات إلى فوارق أو هويات مضطربة.
لكن لا يعني هذا أنه من خلال كرة القدم يمكن للمهاجر العربي أن يشعر بأنه جزء من وطنه الإسكندنافي الجديد، أو يتخلص لاعب كرة القدم المولود لأبوين أفريقيين من شعوره بأنه غريب عن نسيج الدولة الأوروبية التي وُلد بها. في الحقيقة تحاول كرة القدم فعل ذلك، لكن هذا لا يعني أن سحر كرة القدم كافٍ للعبور من أزمة الهوية الوطنية.