رياضة

كرة القدم والشعر: ويسهر الخلق جراها ويختصم

تبدو ثنائية كرة القدم والشعر غريبة متنافرة للوهلة الأولى، لكنها ما تلبث أن تجلو نفسها بنفسها مع كل مرة لا يفلح فيها وصف الكرة إلا بالشعر، والعكس كذلك.

future المعلق الرياضي العماني خليل البلوشي

«قل لي.. لماذا اخترتني؟

وأخذتني بيديك من بين الأنام

ومشيت بي..

ومشيت.. ثم تركتني

كالطفل يبكي في الزحام

إن كنت - يا ملح المدامع - بعتني

فأقل ما يرث السكوت من الكلام

هو أن تؤشر من بعيد بالسلام

أن تغلق الأبواب إن

قررت ترحل في الظلام

ما ضر لو ودعتني؟

ومنحتني فصل الختام؟».

إن كنت من محبي الشعر؛ فمن المرجح أن تكون سمعت تلك القصيدة بصوت ناظمتها الشاعرة الكويتية ميسون السويدان في صالونها الأدبي، وإن كنت ممن يعشقون كرة القدم، فمن الوارد أن تكون سمعت الأبيات ذاتها أو بتصرف بسيط على لسان المعلق العماني عامر الخوذيري في إحدى مباريات ريال مدريد.

توجه ميسون أسئلتها للمحبوب الذي فضت معه بكارة الأشياء كلها، وملأ المرايا حتى لم يعد يرى فيها سواه، ثم غادر بلا وداع أو عناق. وبطريقة ما وجد الخوذيري تشابهاً بين حال ميسون مع محبوبها، وحال الجمهور الوفي للنادي الملكي مع نجمهم الفريد كريستيانو رونالدو، الذي رحل وقتها، بلا وداع هو الآخر.

تبدو ثنائية كرة القدم والشعر غريبةً متنافرةً للوهلة الأولى، لكنها ما تلبث أن تجلو نفسها بنفسها، مع كل مرة لا يفلح فيها وصف الكرة إلا بالشعر، ولا يطلق فيها لسان الشعر إلا الكرة، وينام الشعراء واللاعبون ملء جفونهم عن شواردها، ويسهر الخلق جراها ويختصم.

القصيدة والملعب: ميدان واحد

كانت القصيدة سلاح العربي القديم الذي يقصم ويجرح ويذبح، بها يخاصم ويفجر، وبها يعفو ويصفح، ولربما عزت قبيلة كاملة ببيت شعر في الفخر قاله شاعرها، وربما أرغمت أنوف قبائل كاملة إن هجي شعراؤها وذموا.

كان الواحد من أفراد قبيلة «بنو أنف الناقة» يخجل إن سئل من أي القبائل هو، أن يذكر اسم قبيلته لما يشيعه الاسم من احتقار بين العرب. فيقول: أنا من بني قريع، ويتجاوز جعفر أنف الناقة ويلغي ذكره. حتى نزل بساحتهم «الحطيئة» وأحسنوا ضيافته؛ فقال فيهم بيته الشهير: «هم الأنف والأذناب غيرهم *** ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا!» فصاروا يطاولون بذكر نسبهم ويجهرون به بعد استحياء وخجل.

وكان أهل نمير يملؤون أشداقهم باسم قبيلتهم في أنفة وعزة، حتى هجا جرير شاعرهم النميري في قصيدة سهر لها ليلاً، حتى وصل بيته الشهير: «فغض الطرف إنك من نمير*** فلا كعباً بلغت ولا كلاباً» فأطفأ سراجه وقال: قد أخزيتهم أبد الدهر! فأصبحوا كلما فخروا بنفسهم؛ عيرهم الخلق بذلك البيت.

من هنا يأتي التقاء الشعر والكرة، على رغم اختلاف الوسائط والطرائق والأزمنة. رفعت الكرة أيضاً ذكر أقوام وخفضت آخرين، سواء بالهوية الجماعية لأمة كاملة كالأوروجواي، التي بالكاد تجد لها مكاناً على خريطة العالم السياسية والاقتصادية ناهيك طبعاً عن الخريطة الجغرافية لكنها على خريطة كرة القدم العالمية أكبر من إنجلترا وأكبر من البرازيل في خريطة الكرة القارية. أو بفعل رجل واحد في أمة كاملة، كما يتبادر للذهن تلقائياً كلما ذكرت الأرجنتين؛ ذكر ميسي ومارادونا.

وأصبح للكرة على هذا الأساس ما يعادل تأثير الشعر العربي القديم، في الافتخار والشرف. فنجد في دراسة حديثة تتناول أثر الكرة على حس الانتماء ونزعة الوطنية؛ أن الألمان قد شعروا أنهم أكثر وطنية مع كل مباراة يكسبها المنتخب في بطولة يورو 2016. كما أن دراسةً أخرى أظهرتهم أكثر سعادة وفخراً وقت البطولة مقارنةً بما قبلها وما بعدها.

ولعل تلك الدراسات تكتسب شيئاً كثيراً من دلالتها، من تناولها لشعب ودولة يضرب بهما المثل في الجدية والصرامة، سواء على سبيل الترغيب أو التنفير. مما يعني أن كرة القدم وإن كانت لا تضع الطعام في فم الجوعى في البرازيل، كما لم يكن الشعر مغنياً في الغالب سوى بعض كتبته والمنتفعين به؛ إلا أن حقيقة تشابههما في الأثر المعنوي واضحة لا مراء فيها.

الحماسة: حيث كل شيء على المحك

جمع أبو تمام منتخبات من شعر العرب في الجاهلية، في ديوان واحد ضم 10 أقسام موزعة على 10 أبواب. إلا أنه عنونه بعنوان الباب الأول الذي يشغل نصف الديوان تقريباً: ديوان الحماسة. أورد أبو تمام في باب الحماسة ما ينضوي تحت لوائه كل شعر يمجد الإقدام والشجاعة، ويذم الجبن والتخاذل، ويحض على الصبر وملاقاة الموت بلا جذع، وينفر من الضعف والتهاون.

يبدو ذلك موافقاً لهوى جمهور كرة القدم ولاعبيها على حد سواء. فلا يطلب الجمهور من اللاعبين سوى الحماسة: أن يقدموا في موضع الإقدام وألا يجبنوا إن حمي الوطيس، ألا يهابوا خصمهم مهما كان، وألا يتوقفوا عن المحاولة حتى صافرة النهاية، وربما هذا بالضبط ما يريد اللاعبون لأنفسهم أن يوصفوا به.

عمل «جو تاونز» المحاضر في مجال البث الرياضي بجامعة كارديف متروبوليتان، منتجاً في قنوات كبيرة مثل «Sky Sports» و«BBC». في فترة عمله التي أشرف خلالها على إنتاج عديد من التغطيات الرياضية الكبرى في كرة القدم وغيرها؛ توصل لحقيقة مفادها أن التغطية الجيدة هي التي تبرز كل ما في اللحظة من مشاعر. ومن أجلها يجد المنتج نفسه يفتش في صفحات الأدب ومشاهد الأفلام، عن قصة عن لقطة عن سطر عن بيت شعر بصوت رخيم أو حماسي، يكبل المشاهد أمام التلفاز بلا حراك. وفي الأخير ينتصر الشعر، لماذا؟ «لأنه أفضل كلام في أفضل تقويم.» بحسب ما يرى الشاعر الإنجليزي صامويل تايلر كولريدج.

كان كل شيء على المحك بالنسبة لإيرلندا في تصفيات كأس العالم 2018، بمباراة مصيرية أمام الدنمارك ولا بديل عن الفوز. وقتها أنتجت قناة «RTE» الإيرلندية مقطعاً ترويجياً، بصوت الممثل الإيرلندي الشهير «بريندان جليسون» وهو يقرأ بصوت حماسي قصيدة الشاعر الويلزي ديلان توماس «لا تسر وديعاً في ذلك الليل الجميل – Do Not Go Gentle Into That Good Night»، وهي نفسها القصيدة التي استخدمت في أحد أكثر المشاهد تأثيراً في فيلم «Interstellar».

العماني خليل البلوشي أحد المعلقين العرب الذين أتقنوا إسقاط شعر الحماسة على شخوص بعض اللاعبين. وقد اشتهر باستدعائه الدائم لشعر عنترة بن شداد؛ حتى أصبحت بعض أبياته تنسب له ممن لا صلة لهم بالشعر.

أشهر استشهاداته ما قاله في حق محمد صلاح: «حصاني كان دلال المنايا *** فخاض غبارها وشرى وباعا»، وفي مدح كريم بنزيما استعار أبياتاً أخرى لعنترة أيضاً، «وإذا سطا خاف الأنام جميعهم *** من بأسه والليث عند عيانه»، وعلى لسان لوكا مودريتش أورد بيت عنترة الشهير: «سلي الفوارس يخبروك بهمتي *** ومواقفي في الحرب حين أطاها».

ديوان العالم وعنوان الأدب

ترك الشعر العربي بصمة كبيرة في مجال التعليق الكروي بكافة مدراسه. وإن كان ثمة فروق جوهرية بين المدرستين العربية والإنجليزية في التعليق سنتعرض لها لاحقاً، إلا أن إطلاق الأثر لا مبالغة فيه. يشير الفيلسوف الفرنسي الشهير غوستاف لوبون في كتابه «الحضارة العربية» إلى أن أوروبا استعارت من العرب فن السجع، وتأثرت أدبياتهم الإسبانية والفرنسية بموشحات العصر الأندلسي.

في دراسة نشرت في المجلة المصرية لدراسات اللغة الإنجليزية وآدابها عام 2022، قارنت بين الطبيعة اللغوية لمدرستي التعليق العربية والإنجليزية؛ أبدت المدرسة الإنجليزية ميلاً واضحاً للاستخدام الخبري للغة في التعليق أو ما يعرف بـLocutionary Speech. في حين أن المدرسة العربية تميل لاستخدام اللغة استخداماً إنشائياً يعرف بـIllocutionary Speech  والاعتماد على أساليب الأمر والنداء والاستفهام والتعجب، وهي متأثرة في كل ذلك باللغة العربية الفصحى والشعر العربي القديم. وعلى رغم اختلاف الطريقة واللغة بين المدرستين؛ فإن الدراسة تقترح أنهما ينهلان من منبع تركيبات لغوية كروية واحد.

يجعل ذلك الأمر، التعليق الخالد لـ بيتر دروري، المعلق الإنجليزي الأشهر في الوقت الحالي، على هدف روما القاتل في مرمى برشلونة في ربع نهائي دوري أبطال أوروبا موسم 2017/2018:

«روما تنهض من الأنقاض. مانولاس الإله الإغريقي في روما. ها هو الغيب ينشر أمام أعيننا. ما كان هذا ليحدث! ولا يمكن أن يحدث! لكنه حدث.»

يخرج من المشكاة ذاتها، التي خرج منها تعليق جنرال التعليق المصري مدحت شلبي، قبل مباراة بنين ونيجيريا:

«فارد جناحي وطاير ** مش لاقي صياد يتجاب

فجأة لمحت بعيني ** على الشجر سنجاب

النسر قال كلمته ** الليلة فوز مطلوب

هنزل عليك أصطادك ** سامحني يا سنجوب»

# رياضة # كرة قدم # أدب # شعر # التعليق الرياضي

جوارديولا يمدح خصومه: هكذا أصبحت التيكي تاكا مذهباً
بين الحزن والانتظار: فيروزية المشرق ومشرقية فيروز
الخسارة كنز: هل تجعلك الهزيمة خفيف الظل؟

رياضة