رقعة مربعة مقسمة بالتساوي إلى مربعات بلونين مختلفين. وفوقها فريقان يتكون كل منهما من 16 قطعة، ولكل قطعة قواعد محددة حول كيفية تحركها. تلك الرقعة ما هي إلا ساحة معركة حيث يتصادم جيشان من خلال تبادل اللاعبين الحركات حتى يتم إجبار أحد الملوك على وضع لا يستطيع فيه تجنب الأسر في ما يعرف بـ«كش ملك»، هل تشعر أن كل هذا يشبه بشكل أو بآخر كرة القدم؟
حسناً دعنا نعرف الشطرنج بشكل آخر ربما يكون قريباً من كرة القدم؛ خصمان يلعبان ضد بعضهما البعض، ولكل منهما لاعبون في مواقع محددة لديهم أدوار محددة، ويحاولون المناورة فوق أرض الملعب من خلال خطط تعتمد على إمكانات اللاعبين وتختلف طبقاً لخطط المنافس، عندما يهاجم أحد الفريقين، يجب على الفريق الآخر الدفاع والعكس، ما رأيك الآن؟
يعتقد عدد من أهم مدربي العالم أن الشطرنج من أهم الوسائل المفيدة بشكل واضح في المساعدة على تطوير تكتيكات كرة القدم، بينما وقع عدد لا بأس به من اللاعبين في غرام الشطرنج، لكن يبدو أن العلاقة أعمق من التشابه السطحي بين اللعبتين حتى إننا يمكننا القول صراحة إن كرة القدم ما هي إلا شطرنج متحرك!
دوماً ما ينظر لكرة القدم على أنها لعبة عنيفة لذا يبدو ربطها بالشطرنج مفاجئاً بعض الشيء، لذا دعنا نتناول الأمر بشكل مبسط، ولنبدأ بحديث شخص درس اللعبتين بشكل مفصل.
بدأ مدرب تشيلسي الحالي الإيطالي إنزو ماريسكا دراسة الشطرنج في نهاية مسيرته كلاعب، هذا لأنه كان على يقين بأن تعلم أساسيات الشطرنج من شأنه أن يعده جيداً لمجال التدريب. لم يكتف ماريسكا بدراسة اللعبة فحسب بل قدم أطروحة دراسية في مدرسة التدريب التابعة للاتحاد الإيطالي لكرة القدم عن كيفية ارتباط دفاع «نيمزو-هندي» الذي يستخدمه كل بطل عالمي في الشطرنج بفريق مانشستر سيتي تحت قيادة بيب جوارديولا.
حسناً يبدو الرجل مؤهلاً للحديث بشكل أعمق عن التشابه بين الشطرنج وكرة القدم؛ يؤمن ماريسكا أن رقعة الشطرنج تشبه ملعب كرة القدم الذي يمكن تقسيمه إلى ثلاث قنوات: قناة مركزية واثنتان خارجيتان.
وفي كرة القدم كما في الشطرنج، يمكن أن تكون القناة المركزية أكثر إثارة للاهتمام لأنها الأسرع والأكثر مباشرة نحو المرمى أو الملك، لذا يؤمن إنزو السيطرة على الوسط أمر أساسي إما بشكل مباشر من خلال لاعبي خط الوسط الكلاسيكيين أو بشكل غير مباشر من خلال استخدام الظهيرين تماماً مثل حركة الأحصنة في الشطرنج، لذا فبناء اللعب من خلال الوسط يجعل الملعب مفتوحاً مثل رقعة الشطرنج، وتصبح زوايا الهجوم متعددة.
يبدو أن التشابه ليس سطحياً إذن، دعنا الآن ننتقل إلى جوانب أكثر وضوحاً بين اللعبتين.
في كتابه «كرة القدم والشطرنج: التكتيكات والاستراتيجية والجمال» يشير آدم ويلز إلى مزيد من أوجه التشابه الجوهرية، إذ يعتقد ويلز أن اللعبتين تعتمدان بشكل أساسي على استخدام المساحة بشكل فعال والحصول على التوقيت المناسب لكسر دفاع الخصم مع منعه من كسر دفاعك.
كما أنه هناك عدداً قليلاً جداً من القواعد المقيدة؛ فلا توجد أنظمة تسجيل معقدة أو إجراءات لعب يجب اتباعها، كل ما عليك هو الاستيلاء على القطع أو تسجيل الأهداف أثناء البقاء داخل حدود اللوحة أو الملعب.
مدرب برشلونة السابق كيكي ستين واحد من أفضل لاعبي كرة القدم في لعبة الشطرنج وطبقاً لحديثه السابق مع «الماركا» حول الأمر، فهو يعتقد أنه في الشطرنج يمكنك أن تكون لاعباً هجومياً لكنك تحتاج أياً في نفس الوقت إلى التحكم في كل ما يحدث في معسكرك، دون ترك أي قطع دون مراقبة، يحدث نفس الشيء في كرة القدم عندما يكون لديك فريق منسق، إذ يتواصل جميع اللاعبين بشكل متزامن للفوز بالمباراة.
ماذا يستفيد مدرب كرة القدم من الشطرنج إذاً؟
هنا يجب علينا أن نعود لماريسكا، إذ يؤمن الإيطالي أن المهارات الأهم التي يستفيد بها المدير الفني هي اكتساب البراعة في ابتكار التكتيكات والاستراتيجيات، وتحسين الجانب الإبداعي، ناهيك عن الطريقة التي تسهل بها الشطرنج عملية التركيز. كما أضاف إنزو أن الشطرنج يعلمك كيفية التحكم في الإثارة الأولية عندما ترى شيئاً جيداً، ويدربك على التفكير بموضوعية عندما ترى نفسك في خطر وهي أمور غاية في الأهمية في كرة القدم.
ماريسكا ليس المدرب الوحيد الذي يمتلك مثل تلك القناعة، فبيب جوارديولا بعد مغادرته برشلونة عام 2012 قرر قضاء إجازته في نيويورك حيث التقى كاسباروف أحد أهم الأسماء التي لعبت الشطرنج في التاريخ، كما درس أيضاً أساليب لاعب الشطرنج المصنف الأول عالمياً ماجنوس كارلسن.
أوضح جوارديولا في كتاب «Pep Confidential» الذي تناول موسم بيب الأول في بايرن ميونيخ، أنه استفاد كثيراً من حديث كارلسن خصوصاً في ما يخص بعض التضحيات في بداية اللعبة طالما أنه يعرف قوته في المراحل اللاحقة، لقد شغله هذا كثيراً وجعله يتعلم كيف يمكنني تطبيقه على كرة القدم.
ربما نتفق الآن حول تشابه اللعبتين ومدى الاستفادة التي يحصل عليها مدرب كرة القدم من الشطرنج لكن هناك نقطة جوهرية لا يمكن إهمالها أبداً، أن اللاعبين مهما كانت قدرة المدربين على التحكم بهم، هم ليسوا قطع شطرنج أبداً!
يستطيع لاعب الشطرنج أن يضع خطة ويعمل على تنفيذها في حين لا يقلق إلا بشأن خصمه فقط، بينما يضطر مدرب كرة القدم إلى الاعتماد على 11 لاعباً بإمكانات مختلفة واستيعاب مختلف لما يُؤمرون به.
الفارق الواضح هنا أن لاعبي كرة القدم يتمتعون بالوعي، في حين لا تتمتع قطع الشطرنج بهذا الوعي ورغم هذا لا يزال الشطرنج مفيداً لأنه وببساطة يمكنه من زيادة الوعي للاعبين أنفسهم.
يعتقد لاعب وسط برشلونة الجديد داني أولمو أن الشطرنج يمكن أن يساعده في استغلال المساحات، وطبقاً لحديث أولمو نفسه فبفضل الشطرنج يحاول دوماً التفكير في كل حركة على أرض الملعب، وليس فقط التحرك تجاه الكرة، بل يحاول دائماً إيجاد أفضل الحلول عندما تكون الكرة بحوزته وعندما لا تكون بحوزته أيضاً، سواء بالنسبة لي أو لزملائه في الفريق، لخلق مساحة للاعبين الآخرين أو حتى لنفسه.
اعترف محمد صلاح من قبل أنه يلعب الشطرنج بشكل مكثف، وقد حصل على تصنيف يقارب 1400 نقطة وهو معدل أكثر من المتوسط بكثير، بل ويتمنى مقابلة النرويجي الذي تعلم منه بيب شخصياً، رغم معرفته بنتيجة المباراة مسبقاً.
«ألعب الشطرنج بشكل جيد، لست ماجنوس بالطبع لكنني جيد. لا أحد لديه فرصة مع عندما يقابل ماجنوس، لكنني آمل أن نلعب يوماً ما».
محمد صلاح ليس اللاعب الوحيد المُغرم بالشطرنج في عالم كرة القدم، فلاعبون مثل هاري كين وأنتوني جوردون وألكسندر أرنولد طالما تحدثوا عن حبهم الشطرنج، حتى إن الأخير لاعب كارلسن بالفعل وهزم بعد 17 حركة في مباراة استمرت خمس دقائق.
حسناً يمكننا الآن أن نقول إن كرة القدم هي شطرنج متحرك، غير أن اللاعبين في كرة القدم لديهم من الوعي الذي يجعل اللعبة أكثر جمالاً وأكثر صعوبة أيضاً، فقط تخيل لو أن اللاعبين أجمعهم مع المدربين درسوا الشطرنج خلال لعبهم لكرة القدم!