حينَ تتحرّر اليدان من قيود الطاعة العَمياء، قد لا تَعرفان في البداية ماذا تصنعان بالحرية.
هذا ما عايشته «تيتا»، بطلة رواية «كالماء للشوكولاتة» للكاتبة المكسيكية لاورا إسكيبيل.
بين جدران البيت الذي أثقلته التقاليد، وُلدت تيتا في عائلة تؤمن بأن الابنة الصغرى مقيّدة بواجب مقدّس: ألا تتزوج، وأن تبقى لرعاية والدتها حتى وفاتها. كانت هذه القاعدة الصارمة أشبه بقيد حديدي التفّ حول روح تيتا، يحدّها عنِ الحلم، عنِ الحب، وحتى عنِ الحياة.
لم تكن «تيتا» راضية عن قدرها. وكان قدْر كبير من الشكوك والقلق يتوارد إلى ذهنها. فهي ترغب، مثلًا، في أن تعرف من الذي بدأ ذلك التقليد العائلي.
في قلب هذا الصراع، وجدت تيتا نفسها ممزقة بين واجب فرضته الأعراف، وحبّ ملأ قلبها دون إذن. أوشكت أن تستسلم لدورِها، أن تُخضع مشاعرها لرغبات والدتها، ولكن للحبّ طريقته الخاصة في التمرُّد. جاءها بيدرو، ليوقظ ما كان خَاملًا داخلها، ويُثير الأسئلة الكبرى التي لم تَجرؤ يومًا على طرحها: ماذا عن حقها في الاختيار؟ في العيش؟
رواية «كالماء للشوكولاتة» ليست مجرد حكاية عن الحب المستحيل، بل هي استعارة عميقة عن الصراع الأزلي بين التَقاليد ورغبة الإنسان في التحرر.
وبين وصفات الطعام التي تتخلل صفحات الرواية، والتي تحمل مشاعر تيتا وتترجمها إلى نكهاتٍ وألوان، يتجلى البعد السحري لهذه القصة.
فَهل يكفي الحبّ لمواجهة الإرث الثقيل؟ أم أنه أضعف من الوقوف وحده أمام قيود الماضي؟ تترك الإجابة بين سطورِ الرواية، وبين قرارات البطلة التي تتأرجح بين الخضوع والتمرد، بين الواجب والرغبة.
«برؤية يديها متحررتين الآن من أوامر أمها لم تعد تعرف ماذا تطلب منهما أن تفعلاه»
ليس كل موهبة هبةً لصاحبها، أحيانًا تكون الموهبة عبئًا ثقيلًا، تتحول إلى قدرٍ لا فرار منه. هكذا كانت موهبة تيتا، التي لامست الطبخ بيدين مليئتين بالمشاعر، وحولته من فعلٍ يومي إلى وسيلة لنقل الأحاسيس التي يعجز القلب عن البوح بها.
تخيل.. أن تتذوّق قطعة كعكٍ معدة بعناية، وفجأة يجتاحك شعور بالبكاء لا تعرف مصدره، ولا تملك أمامه إلا أن تستسلم. هذا ما حدث لمن تذوق طعام تيتا.
فالطبخ بالنسبة لها لم يكن مجرد مزجٍ للمكونات، بل كان انعكاسًا لحالتها النفسية. مشاعر الحزن، الحب، الغضب، أو الشوق، كلها تتسلل بخفة إلى الطعام الذي تعده، لتصبح كل لقمة تجربة شعورية مكثفة، يعيشها من يأكل كما لو كانت أحاسيسه الخاصة.
لقد ولدت بموهبة جعلتها مميزة، لكنها في الوقت ذاته كانت سيفًا ذا حدّين. فكلما امتلأ قلبها بمشاعر مكبوتة، سواء كانت ألمًا من قيود التقاليد، أو حبًا مكبوتًا تجاه بيدرو، انعكست تلك الأحاسيس على أطباقها، لتنتشر كعدوى عَاطفية بين من حولها. طعامها لم يكن يملأ المعدة فقط، بل كان يثقل القلوب بما تحمله هي من ألم أو فرح، تاركًا أثرًا لا يُمحى.
الرواية جاءت في اثني عشر فصلًا، كلّ فصل منها يَبدأ بوصفة مكسيكية أصيلة، تأخذ القارئ في رحلة بين المطبخ والوجدان. فالوصفات ليست مُجرد تعليمات للطهي، بل هي استعارات لأحداثِ الحياة، هي وسيلة الكاتبة لإخبارنا أن الطعام ليس طعامًا فقط، بل لغةٌ عالمية للتعبير عن المشاعر الأكثر عمقًا.
كما تتوالى الفصول في العام، تمضي أحداث الرواية في اثني عشر فصلًا، كل فصل منها يحمل نكهة خاصة، حيث يقترن كل شهر بوصفة طعام مكسيكية وأحداث تعيد تشكيل حياة بطلتها تيتا. وبين الأطباق التي تحضرها، والقصص التي تعيشها، يجد القارئ نفسه في حالةٍ من الحيرة الزمنية؛ إذ تذوب الحدود بين الماضي والحاضر، فلا تعلم إن كان عامًا قد مرّ، أم أكثر بكثير.
لكن السحر الحقيقي لا يكمن فقط في الحكاية ذاتها، بل أيضًا في اللغة التي كتبت بها.
لا أعلم إن كانت النصوص الأصلية تحمل هذا القدر من الإتقان والذكاءِ في السرد، أم أن الفضل يعود للمترجم الكبير صالح علماني، الذي استطاع أن ينقل إلينا جمال اللغة وتألقها.
بين جمالية السرد وغرائبية الأحداث، لا يجد الملل طريقه إلى القارئ، فالرواية تمازجت بانسيابية بين الواقعية السحرية والدرامية، دون أن تفقد قدرتها على الإدهاش.
في جوهرها، الرواية ليست مجرد قصة فتاة محكومة بالبقاء في المطبخ، بل هي رحلة عجيبة تتجاوز ذلك لتروي تاريخًا حيًا للطعام المكسيكي، وتنسج حوله خرافات وأساطير تثير الدهشة. إنها عمل أدبي يمزج الواقع بالسحر، ويحول الحياة اليومية إلى تجربة غامضة، وغير مألوفة.
لكن كما للطعام مذاقاتٌ متباينة، كذلك كانت التجربة القرائية. فبينما قدمت الرواية متعة فريدة وأصيلة، جاءت نهايتها بالنسبة لي مخيبة للآمال، وكأنها لم تستطع أن تحمل ذلك التوهج حتى اللحظة الأخيرة. هذا الإحباط جعلني أحذف نجمة من تقييمي، رغم أن العمل ككل يستحق أن يدرج ضمن روائع الأدب اللاتيني.
«كالماء للشوكولاتة» ليست مجرد رواية عن الطبخ أو الحب، بل هي تأمل عميق في تأثير الموهبة على صاحبها، وكيف يمكن لشيءٍ يفترض أنه نعمة أن يتحول إلى لعنة، تربط الإنسان بالعالم حوله بطرقٍ تتجاوز الفهم. وفي حالة تيتا، كان الطبخ نافذتها إلى الحرية، ولكنه أيضًا كان سببًا في معاناتها حين أصبح القلب هو المكون الأساسي لكل وجبة أعدتها.
في النهاية، هي رحلة ساحرة في أعماق النفس البشرية، تمزج بين الحواس والعواطف، حيث يتداخل الحب بالعادات، والحرية بالمسؤولية، لكنها كأي رحلة، قد تترك في النفس أثرًا مختلفًا لكل قارئ، في سردٍ شاعري يحمل بعض الحلاوة وبعض المرارة.