في مشهد أثار سخرية الجميع، تتقاطع طائرة مسيرة مع مروحية عسكرية في نقطة واحدة، رغم أنه من المفترض أن تجوب المروحية السماءَ بحثاً عن تلك المسيرة ومن ثَم إسقاطها. بعد عدة دقائق يتضح أن هدف المسيرة التي أطلقت من لبنان، وفق الإعلام الإسرائيلي، هو استهداف منزل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في قيساريا.
طائرة بدون طيار تابعة لحزب الله تحلق فوق مروحية إسرائيلية قبل أن تضرب مقر إقامة بنيامين نتنياهو في مدينة قيساريا صباح اليوم
فرضت الرقابة العسكرية الإسرائيلية حظراً للنشر على الخبر، وعلقت الصحف الإسرائيلية بسخرية قائلة: «الرقابة العسكرية تحظر خبر استهداف منزل نتنياهو في قيساريا، رغم أن الجميع يعرف ذلك». لكن ما يتجاهله الإعلام الإسرائيلي أن قيساريا ليست مدينة نتنياهو، وأن ما يقيم فيه نتنياهو، وغيره من المستوطنين في قيساريا، لا يعدو كونه منزلاً مسروقاً على أرض دُفع أهلها للتهجير والخروج منها رغماً عنهم.
فكما يقول بيني موريس، في كتابه مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، إن طرد سكان قرية قيساريا بدأ في 12 يناير عام 1948، ثم استمر النزوح على مدى أكثر من شهر. وحين استعجل الإسرائيليون إخلاء القرية أرسلوا وحدة من البلماخ لطرد مَن تبقى من السكان. والبلماخ منظمة صهيونية عسكرية، تعني جند العاصفة، لعبت دوراً مهماً في إقامة إسرائيل، ولاحقاً أدمجها بن جوريون ضمن قوات جيش الاحتلال الذي تأسس عام 1948.
كان عدد سكان قيساريا في تلك اللحظة (12 يناير عام 1948)، قرابة 1200 نسمة، وصمد في القرية قرابة 20 رجلاً رفضوا الخروج من منازلهم. لكن في أواخر فبراير 1948 قامت وحدة البلماخ بنسف بيوت السكان على من فيها. يوضح موريس أنه في لحظات قليلة نسف الجنود الإسرائيليون قرابة 24 منزلاً، ولم يبقَ حينها في القرية سوى 6 بيوت فقط، ولم يهدمها الجنود بسبب نفاد الذخيرة فحسب، لا عطفاً على السكان، ولا احتراماً لآدمية من فيها.
روى مؤرخون إسرائيليون عن تلك اللحظة التي هُجِّر فيها سكان قيساريا قائلين إنهم شاهدوا السكان ينزحون، ويجرُّون حوائجهم بعد طردهم، لكن كانت رءوسهم مرفوعة. ووصف آخرون النازحين بأنهم كانوا مرفوعي الهامة رغم أنهم يخرجون من بيوتهم مطرودين.
قيساريا دائماً مدينة عنيدة، حتى في لحظات الفتح الإسلامي لفلسطين، كانت آخر مدينة دخلها المسلمون؛ فقد كانت تأتيها الإمدادات من الروم مباشرة، فتأخرت سيطرة المسلمين عليها. تقع قيساريا على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وتبعد 37 كيلومتراً إلى الجنوب الغربي من حيفا، وترتفع قرابة 25 متراً عن سطح البحر.
حالياً، يحدها من الشمال جسر الزرقاء، ومن الشمال الشرقي كبارة وبنيامينا، التي شهدت هي الأخرى حادثاً نوعياً استهدف فيه حزب الله بالطائرات المسيرة قاعدة تدريبية تابعة لجيش الاحتلال، ومن الشرق خربة البرج وبرديس حنة، ومن الجنوب أراضي الخضيرة وعرب الضميري وعرب الفقرا وحفتسي با.
تدعى المدينة في أصلها بمدينة قيصرية، فقد سماها بانيها الأصلي، هيرودس الكبير، أو الأدومي، «سيزاريا – Caesarea»، ينسبها بذلك الاسم إلى سيده، الإمبراطور الروماني أغسطس قيصر.
كان في المدينة مسرح روماني وحلبة سباق والعديد من الأسوار العالية، كعادة المدن التي بُنيت في العصر الروماني. وحين دخلها المسلمون بنوا فيها مسجداً. وحين حدثت الخلافات بين عبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير، تمكن الروم من احتلال عسقلان وقيساريا مرة أخرى. لكن حين أعادها عبد الملك بن مروان لحوزته، بنى فيها مسجدين.
كانت قيساريا، طوال تاريخها، شاهدة على الصراع الدائر في العالم؛ فقد كانت مطمعاً لكل القوى؛ حيث احتلها الصليبيون عام 1101 ميلادياً، لكن استردها صلاح الدين الأيوبي عام 1187 ميلادياً. فعادت حملة صليبية جديدة يقف على رأسها ملك الإنجليز ريتشارد، المعروف بقلب الأسد، واحتلوا المدينة عام 1191 ميلادياً. وبمجرد أن دخلوا المدينة نهبوها. ولاحقاً بنوا فيها مرفأً، وجعلوها مقراً لرئيس الأساقفة، ليفرضوا عليها سلطة دينية وعسكرية معاً. ثم أخيراً دخلها السلطان المملوكي الظاهر بيبرس عام 1265 ميلادياً.
لم تنَل المدينة حظاً من الاهتمام العمراني إلا في أواخر القرن التاسع عشر. في تلك الحقبة استوطنها فريق من الشركس، وبعدهم فريق آخر من البوسنة والهرسك. وحين وصلها البوسنيون بدءُوا في تشييد منازلهم فيها على الإطار الأوروبي، مستخدمين الحجارة من البيوت المهدمة.
بهزيمة الأتراك عام 1918، واحتلال بريطانيا لفلسطين، تراجعت مكانة جميع العرب والمسلمين في المدينة، كما ألغى الإنجليز السلطة التي تدير قيساريا كمدينة مستقلة، ونقلوا تبعيتها إلى حيفا. ومع التضييق والتهميش، وانتشار الملاريا، باع عدد من مهاجري البوسنة والهرسك والأتراك أراضيهم إلى شركة بيكا.
وبيكا هي شركة صهيونية اشترت الأراضي من الراحلين، وقامت بتأجيرها للعرب المتبقين في المنطقة ليزرعوها. وهي خليفة جمعية الاستعمار اليهودي، وأسسها جيمس روتشيلد، وانتقلت جميع أموالها بعد وفاته إلى الحكومة الإسرائيلية، ومن أموال هذه الشركة بُني الكنيست الإسرائيلي بهيئته الحالية.
يعود المؤرخ الإسرائيلي، بيني موريس، في كتابه مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين إلى إقرار حقيقة مهمة، أن قيساريا كانت أول مدينة ساحلية يُطرَد سكانها. لكن هذا الطرد لم يكن عشوائياً؛ فقد كان الأمر منظماً ووفق مخطط سابق لضمان السيطرة على الساحل كله، وجعله منطقة خاصة بأثرياء إسرائيل وشخصياتها المهمة، وإخلاء المنطقة الشاطئية الواصلة بين حيفا وتل أبيب.
على أنقاض قيساريا أقيمت مستعمرة أور عكيفا عام 1951، وضُم بعض من أراضيها إلى مستعمرة سدوت يام المجاورة للقرية والمقامة عام 1940 على أراضي خربة أبو طنطورة (جنوب قيساريا). أسس تلك المستعمرات يهود مهاجرون من دول أوروبا الوسطى عام 1940.
يقوم اقتصاد تلك المنطقة حالياً على الأسماك؛ حيث يعمل قسم كبير من سكانها في الصيد، وبها ثلاجات ضخمة لحفظ الأسماك، وحوض لبناء الزوارق الكبيرة للصيد، ومحطة أسماك تابعة للحكومة الإسرائيلية، ومدرسة بحرية. وفي السنوات الأخيرة قامت فرق إيطالية وأمريكية وإسرائيلية بإجراء تغييرات كبيرة في المدينة، ما حوَّلها إلى منطقة سياحية، وتحولت معظم المنازل الباقية إلى مطاعم.
حوَّل الاحتلال مسجد المدينة إلى بار ومكان لبيع وتناول المشروبات الكحولية. وتمنع شركة تطوير قيساريا المسئولة عن المكان، المسلمين من إقامة الصلاة حتى بمحاذاة المكان، أو في محيطه بأي شكل، وتتعامل معه كصرح تاريخي تسيطر عليه.
كذلك لم يُرفَع الأذان في مسجد قيساريا الأموي المغلق منذ عام 1948 إلا مرة واحدة عام 1993، بعدما نظمت مؤسسة الأقصى صلاة جمعة فيه كان خطيبها رئيس الحركة الإسلامية رائد صلاح، وكانت تلك هي المرة الأولى والأخيرة؛ حيث سارعت شركة تطوير قيساريا بإغلاق المكان في وجه من يطلب الصلاة فيه، وباتت تجري تفتيشاً دقيقاً للراغبين في الدخول إليه.
تحاول سلطة الاحتلال طمس هوية المدينة العربية والإسلامية، وتصر على تحويلها إلى قلب آخر لإسرائيل، كونها منطقة هادئة نسبياً مقارنة بالمدن الكبرى مثل تل أبيب أو القدس، ما يوفر بيئة مناسبة للخصوصية بالنسبة لرجالات الدولة والشخصيات المهمة، كما أن الرمزية التاريخية التي تحملها المدينة والممتدة إلى العصور الرومانية تضفي على المدينة جاذبية ثقافية، وتمنح إسرائيل عمراً افتراضياً أكبر من عمر تأسيسها الحقيقي.
تضم قيساريا حالياً مجمعات صناعية وتقنية مهمة، مثل: قيساريا بارك الذي يحتوي على شركات تكنولوجيا متقدمة وصناعات متنوعة. تلك البنية التحتية الاقتصادية ترفع أهمية المدينة على مستوى التطوير الصناعي والاقتصادي، لكنها في الوقت نفسه تجعل من المدينة خاصرة مؤلمة إذا جرى استهدافها في الحروب الدائرة بين إسرائيل ومحيطها العربي والإسلامي. وهو أمر يدفع إسرائيل إلى رفع ميزانية الدفاع عن المدينة ضد صواريخ محور المقاومة، خاصة أن تلك الاستهدافات صارت خارج التوقعات، وتعدت الخطوط الحمراء السابقة للصراع.
إن المدينة التي عايشت تغيُّر الحضارات وتبدُّل الأزمان يبدو أنها توشك أن تشهد حلقة مختلفة من الصراع العربي-الإسرائيلي، حلقة لا تتبع قواعد الاشتباك القديمة، ولا يعرف أحد شكل قواعد اشتباكها الجديدة، ولا تعرف قيساريا كيف سيكون مصيرها ولا دورها في هذه المرحلة الجديدة.