فن

فيلم Trap: كيف يصبح رعب القتلة المتسلسلين ممتعاً

يتجدد الجدل حول المخرج الأمريكي شيامالان مع كل فيلم جديد له، وفي هذا العام Trap هو محط الجدل الجديد. ليس فيلماً استثنائياً أو ذكياً، لكنه جاذب ومسلٍّ.

future ملصق لفيلم «Trap 2024»

يرتبط اسم المخرج إم نايت شيامالان بفيلمه الأشهر «الحاسة السادسة - The Sixth Sense (1999)»، الفيلم الشهير بالتواءة حبكة لا تنقص متعة إعادة مشاهدته مراراً بعد معرفتها، وجوهر عائلي إنساني صادق يجعله فيلم رعب وإثارة ناجحاً بجانب كونه ميلودراما مؤثرة.

بين شيامالان والجمهور علاقة معقدة، يعتبره البعض ناجحاً بالصدفة بسبب الحاسة السادسة، أشهر أفلامه وأحد أكثر أفلام الرعب المعاصرة تأثيراً في الثقافة الجماهيرية، ويعتبره البعض مخرجاً ذا أسلوب خاص، مهما زادت رداءة أفلامه بالمعايير الموضوعية، فهو حتى يومنا هذا لا يتوقف عن صناعة الأفلام، سواء فشلت محاولاته أو نجحت ويمولها من ماله الخاص، ليس في قائمة أفلامه فيلم آخر بنجاح وتوافق الحاسة السادسة، بل يمتلك مجموعة من الأفلام الخلافية، لها كارهون مخلصون ومحبون مخلصون.

مع تكرار الفشل في شباك التذاكر وردود الأفعال النقدية المختلطة، يجدد شيامالان نفسه باستمرار مع الاحتفاظ بسماته، الناجح منها وغير ذلك. كوَّن المخرج الأمريكي من أصول هندية مع الوقت قاعدة متابعين مخلصين، ينتظرون أعماله، سواء نجحت جماهيرياً أم فشلت، فأصبحت سيرته منقسمة بين نظرة جماهيرية له باعتباره صاحب الحاسة السادسة وفي انتظار تكراره لذلك النجاح مجدداً، وآخرين يرون مسيرته كمسيرة مخرج مؤلف يصنع أفلاماً جماهيرية، لكنها لا يمكن موضعتها داخل الإطار العام للجماهيرية المعاصرة، يتجدد الجدل حول شيامالان مع كل فيلم جديد يخرجه، وفي هذا العام فيلم «فخ – Trap» هو محط الجدل الجديد.

بين الجودة والرداءة

يدور فيلم «فخ – Trap» حول حفل موسيقي ضخم لنجمة شهيرة تدعى ليدي ريفين (ساليكا نايت شيامالان)، يصاحب كوبر (جوش هارتنت) ابنته رايلي (أرييل دونيهيو) للحفل كونها من أكبر معجبات النجمة صغيرة السن، ثم يتضح أن الحدث كله فخ مصنوع للإيقاع بقاتل متسلسل عرفت جهات الشرطة أنه سيحضر يومها، يمضي كوبر وقته في الحفل يترقب، يراقب أفراد الأمن والشرطة والدعم السريع عند كل بوابة، كل مخرج محتمل وكل مدخل، ويعتمد على سذاجة الأفراد العاديين لمعرفة ماذا يحدث بالضبط، ويوقع بالموظفين ليحصل على بطاقات تسمح له بالدخول إلى الغرف المغلقة. من البداية وبدون حتى معرفة معلومة أن كوبر هو القاتل الجزار نرى ذلك في ترقبه وتساؤلاته وارتباكه، الذي يظهر لنا كمشاهدين، لكنه لا يظهر لمن حوله، فكل ما تراه شخصيات الفيلم هو أب رائع، شخص مهذب ومقدم للمساعدة، ويمتلك كل القيم والصفات الأمريكية الوطنية المحمودة، فهو يعمل في جهاز المطافئ وينتظر في الصفوف ليأتي لابنته بتذكرة في مكان جيد لترى فنانتها المفضلة، ثم ينتظر ليبتاعها قميصاً للحفلة كما يحاول جاهداً أن يجاري حماسها وتعبيرات جيلها اللغوية.

مشهد من فيلم «Trap 2024»

مثل أفلام شيامالان السابقة فإن فيلم «فخ» يعتمد على الترقب كمحرك رئيسي، لكن عكس أفلامه السابقة لا يحوي عناصر أفلام الرعب، لا يوجد عنف مباشر أو مشاهد دموية ولا توجد عناصر ماورائية، بل يعتمد على كون رعب القتل المتسلسل هو الشكل الأكثر معاصرة للرعب اليومي، أن يتحرك مجرم جزار في وضح النهار بين الجموع في سلام يتحدث معهم ويتداخل في حيواتهم اليومية العابرة، فخ فيلم دقيق مشدود تماماً ليس به مجال للسيولة، يحجز شخصياته في مجموعة من الأماكن المغلقة المكتظة، ساحة لإقامة الحفلات أو منزل ريفي ذو قبو، ولا يدع لهم مكاناً للهروب، وعلى الرغم من ذلك البناء المحكم إلا أن كوبر دائماً ما يجد وسيلة لينسل خارج الحدود المصنوعة له، مكانياً ومجتمعياً.

دائماً ما يدمج شيامالان بين الجدية والهزل، الرداءة والجودة أحياناً بين أفلام وأخرى، وأحياناً في الفيلم الواحد نفسه، لكن في حالة فخ فإن هذا يحدث بشكل يكاد يكون منفصلاً في نصف الفيلم الأول عن نصفه الثاني، يقسم شيامالان فيلمه إلى فيلمين، يفرق بينهما مكان وقوع الأحداث، الأول في ساحة لإقامة لحفلات الثاني داخل منزل عائلي دافئ، يمكن وصف القسم الأول بالجودة السينمائية، فهو يتحرك بسلاسة بصرية وإيقاعية مثالية، ويتبنى غنى بصرياً تقنياً عن طريق التصوير على فيلم خام يديره المصور التايلاندي سايومبو موكديبروم، يناقض الشكل البالغ المعاصرة والرقمية للحفل الموسيقي، كما يبني تصميماً محكماً لتحرك مجموعة كبيرة من الأشخاص في مكان على اتساعه يمثل سجناً محكم الغلق، بجانب جودته كتابياً ببناء مواقف وأحداث تجعل توقع القادم شبه مستحيل لكنه محتمل جداً كذلك؛ لأن في أفلام شيامالان المشهورة بالتواءات الحبكة يمكن لأي شيء أن يحدث، كما يستدعي أداءات تمثيلية متميزة من بطله جوش هارتنت الذي ينشله الفيلم من نسيان لا يستحقه، والطفلة أريل دونيهيو التي تؤدي دور فتاة قبيل المراهقة مهووسة بنجمة بشكل كامل القابلية للتصديق.

بعد النصف الأول الذي يدور في الحفلة وفي أدوار المبنى المختلفة، ينتقل الفيلم إلى عالم كوبر الداخلي ومنه إلى عالم شيامالان كذلك، تتساقط الجدية والإحكام شيئاً فشيئاً ليصبح الفيلم أكثر ابتذالاً لكنه يصبح أكثر توتراً كذلك، وبدلاً من الغموض والتمهل يصبح أكثر ميلاً للكشف الحواري والسقوط في الصور النمطية عن القتلة المحترفين، لكن ذلك الميل نحو تكرار الأشكال والأنماط السينمائية يجعل الفيلم أكثر قرباً للتجربة الشيامالانية، صحيح أنه لا يغير أسلوب التمثيل من الالتزام الجدي إلى الغرابة التي عهد بها، لكنه يتيح له المجال ليكون أضخم وأكثر جنوناً، تتبدل ابتسامات هارتنت المختفية تحت قناع الطبيعية واللطف العائلي بضحكات شيطانية، وتتحول لغة جسده المحدودة إلى تحركات مفاجئة وغضب مرئي، يميل شيامالان إلى خصائصه القديمة فتصنع المصادفات الغرائبية أساسات العقد السينمائية، كأن تكون محققة البوليس شبيهة بوالدة القاتل المحترف مما يوقعه في فخ جديد يتعلق بذاكرته، تلك الخيارات الخرقاء هي ما يصنع أسلوبه، وتعرض المحاورة بين ما يعتبر جيداً وما يعتبر ساذجاً قدرة شيامالان على صنع الاثنين، كما تجعل فخ تجربة دائمة التجدد، سواء كان ذلك سلبياً أو إيجابياً.

استعادة إم نايت شيامالان

يرتبط الجدل حول الأفلام القاسمة نقدياً مثل أفلام شيامالان بنظرية المؤلف، تعنى «نظرية المؤلف - Auteur Theory» وربما شكل معين من السينيفيليا بإعادة الاعتبار لما هو ليس فنياً بالشكل التقليدي، أو بما يبدو تجارياً، سهلاً، شعبياً على السطح لكن يحمل في داخله مكونات الذاتي والفني، انطبق ذلك على المخرج البريطاني الشهير ألفريد هيتشكوك في كتابات مخرجي وكاتبي الموجة الفرنسية الجديدة في نهاية الخمسينيات، كتب فرانسوا تروفو عن هيتشكوك باعتباره مؤلفاً لأفلامه، فناناً ذا وجهة نظر وسمات متكررة يمكن استخلاصها من مشاهدة أفلامه بدقة، لم يحتج هيتشكوك لاعتراف الفرنسيين به أو لإعادة الاعتبار لسينماه، فهو مخرج ذو شهرة ونجاح واسعين، أثرت أفلامه في كل ما جاء بعده، سواء انتمت للنوع نفسه أو لا، لكن ما فعلته كتابات تروفو وبعده أندرو ساريس وغيرهما هو إعادة النظر للمخرج باعتباره فناناً يسيطر على عمله، وهي رؤية خلافية وإشكالية بالطبع، وجابهها الكثيرون بعد ذلك كون الأفلام عملية موسعة ومعقدة من التشابكات والأفراد والجهات الإنتاجية، لكنها وضعت هيتشكوك مثلاً إلى الأبد في مصاف مختلف من الفنانين، فيذكر اسمه بجانب جودا وأنطونيوني وبيرجمان، دون النظر إلى فوارق في شكل الأفلام الجماهيرية والفنية.

تستمر تلك النظرة غير المقللة للشكل الجماهيري وربما الشكل غير الجدي للأفلام حتى الآن بشكل متفاوت، لم تعد نظرية المؤلف هي الحاكم الأول حينما يأتي الأمر للسينما، لكنها مؤثرة بشكل لا يمكن تجاهله، يصعب حتى على من لا يصدق بها ألا يجمع مجموعة سمات لمخرج واحد في أفلامه، أو أن يشير للفيلم باسم مخرجه، انبثق في النقد المعاصر من نظرية المؤلف نظرية حرة أخرى تدعى «المؤلف الوقح أو الرديء - Vulgar Auteursim» وهي محاولة لإيجاد فنيات مقصودة فى أفلام مخرجين ارتبطوا بأفلام تجارية يمكن وصفها باللافنية، المثير للاهتمام أن حركة استعادة إم نايت شيامالان تشبه تلك التي حدثت لهيتشكوك، فهو كمخرج رعب وإثارة لطالما قورن بهيتشكوك، من حيث استخدام تقنيات بناء الإثارة مثل سماع الصوت خارج الصورة قبل أن يظهر لنا مصدره، أو معرفة المشاهد بوقوع الكارثة قبل أن يعرف البطل، لكن الفارق الأساسي هو أن تلك الاستعادة لم تصبح هي الشكل الرئيسي لتلقي شيامالان، بشكل جماهيري يُرى شيامالان باعتباره مخرجاً ضل طريقه وكاتباً غرائبياً يتعمد الرداءة، وفي نفس فئته في الرعب المعاصر يعتبر مخرجين مؤلفين مثل آري أستر وروجر إيجرز مستقبل مخرجي الرعب الفني.

الرعب المرتفع

يصنع شيامالان أفلاماً ذات طبقات متعددة، لكنه لا يغفل سطحها لصالح مجازاتها الباطنة أو البحث عما وراء النص، عكس رواد سينما الرعب الحاليين خاصة ما يطلق عليه «الرعب المرتفع - Elevated Horror»، لا ينحو شيامالان نحو الغموض أو الفنية المفرطة بل يحتفظ بشكل لعوب وخفيف، وربما حتى يكون طفولياً، لكنه يخاطب غريزة تتعلق بالتوجس والقلق بشكل مباشر، لكنه قلق آمن؛ لأنه ذو روح دعابة خفية لا تأخذ نفسها بالجدية الكاملة، كما يجعل أفلامه رحلات سينمائية ممتعة حتى ولو كانت خرقاء بشكل كامل، آخر ما يمكن أن تتصف بها هو الملل، فإذا كان هدف الرعب المرتفع الأساسي هو إثارة التساؤلات، فإن التساؤلات في أفلام شيامالان تبدأ بعد نهاية الفيلم، بعدما تنتهي الإثارة.

جوش هارتنيت في «Trap 2024»

يمكن النظر للطبقات تحت سطح فيلم مثل فخ دون أن يكون الفيلم عن شيء ما، فهو عن محاصرة ومطاردة مجرم بشكل رئيسي، وجعل تلك المطاردة مسلية ومقلقة لأقصى حد ممكن، لكن على مستويات أخرى هو عن هوس الأفراد المعاصرين بالقتلة المتسلسلين، وطبيعتهم ودوافعهم، وعن شكل العائلة الأمريكية المثالية، لا يضيف الفيلم أي تحليلات جديدة لموضوعات مكرر حد الموت، لا عن ثقافة الشهرة - في الفيلم الشهرة تعمل بدون أي جوانب مظلمة - ولا عن انتشار القتلة المتسلسلين في الثقافة الأمريكية، لكنه لا يخلق الشكل التبريري المعتاد للشخصية، يظهر كوبر كاريزماتياً، وسيماً، مصاباً طبعاً بوسواس قهري يتعلق بالنظافة، ومتذبذب العلاقة بوالدته، لديه قدرات غرائبية على الهروب والتملص ومسح كل أثر لجرائمه، لكنه ليس شخصية مثيرة للتعاطف، هو شخصية مثيرة للدراسة أو للتأمل، كما أنه شخصية ممتعة للمشاهدة، فهو ليس شخصاً سيكوباتياً بالكامل، لكنه قادر بشكل كامل على الفصل بين حياته العائلية والعملية.

يثير ذلك تساؤلات عن طبيعة دور رب الأسرة كما يحمل طبقات «فوقية – Meta» متعلقة بحياة شيامالان نفسه وخياراته داخل الفيلم، فلقد صنع فيلماً عن أب مخلص جداً لسعادة ابنته دون نفاق أو كذب، كونه قاتلاً متسلسلاً ذلك أمر جانبي، إنه مجرد شيء يفعله، هواية سرية مثل المخدرات أو المقامرة، هي فعل يشعره بسلام تجاه حياته اليومية ويفرغ به ظلامه، وفي واقع الأمر يصنع شيامالان فيلماً عن ابنته، حفلة غنائية ضخمة بطلتها ساليكا نايت شيامالان، تغني وترقص وتستعرض أزياءها وعزفها، بل إنها تنقذ شاباً من جريمة قتل فقط عن طريق تأثيرها على جمهورها على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو خيار ساذج بالطبع لكنه مناسب لطبيعة الفيلم الميلودرامية العائلية.

«فخ Trap» ليس فيلماً استثنائياً أو حتى ذكياً، لكنه فيلم جاذب ومسلٍّ من بدايته حتى نهايته، بشكل بدائي كلاسيكي يندر مشاهدته في دور العرض في الوقت الحالي، يستعيد جزءاً بسيطاً من الشكل الهروبي للسينما بمزيج من الإثارة النفسية والرعب والعلاقات العائلية واللامنطقية التي تجعل الأفلام مختلفة عن الحياة خارجها، وربما مماثلة لها في بعض الأحيان.

# سينما # سينما عالمية # فن # القاتل المأجور في مواجهة القاتل المتسلسل

بين الحزن والانتظار: فيروزية المشرق ومشرقية فيروز
فيلم «أبو زعبل 89»: عن مصر التي نعرفها
فيلم «The Apprentice»: الحقيقة وراء دونالد ترامب

فن