حينما تبدأ مقالاً بجملة «الحقيقة وراء» يتوقع القارئ عادة حكاية ملحمية تتكشف أسرارها، في سياقنا المصري صنعت قناة «ميلودي» التلفزيونية حملة إعلانية في بداية الألفية الثالثة عنوانها الرئيس هو السخرية من الحقيقة وراء كلاسيكيات السينما بصنع نسخة ساخرة من الحقيقة في كل مرة.
في فيلم المخرج الدنماركي الإيراني علي عباسي الذي يحمل اسم «the apprentice - المتدرب» والذي تم عرضه للمرة الأولى ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان كان في مايو 2024 يصبح الوعد كبيراً بكشف أسرار السنوات التي صنعت دونالد ترامب كما نعرفه اليوم.
الفيلم الذي تم إطلاقه قبل بضعة أشهر من انتخابات الرئاسة الأمريكية كان من المفترض أن يأتي كضربة مباغتة لترامب وأن يسهم بشكل ما في خسارته، لكن هذا لم يحدث، بل فاز ترامب بشكل كاسح.
هل قدم الفيلم أسرار حياة ترامب وخفاياها إذاً؟ وهل يمكن على رغم ذلك أن يكون سبباً في هذا الفوز الكاسح؟
يدور الفيلم بالأساس عن علاقة دونالد ترامب بمحاميه روي كوهين، الرجل الذي يبدأ دونالد علاقته به كمريد ومتدرب، ثم يسمح له كوهين -يقوم بدوره جيريمي سترونج- بدخول عالمه، يدله على ثغرات النظام، وكيف يمكن أن يستفيد منها، وكيف يستغلها عقب ذلك لصنع عشرات الآلاف، ثم الاستحواذ على فندق مهدم وتحويله إلى مشروع يدر عليه الملايين.
علاقة المريد والأب الروحي هنا تعد في البداية بالكثير، لكننا لا نتشبع بها، لا نشعر كمشاهدين على جانب كوهين بالتقدير الشديد أو الرهبة، ولا نشعر على جانب دونالد بالتشويق أو التطلع لحركته المقبلة، هكذا حينما يحدث التحول كالمعتاد ويصبح المريد نسخة من أبيه الروحي، أو يزيحه أو يخونه ليصبح أباً روحياً جديداً لا نشعر بالمفاجأة ولا تبقى هذه اللحظة طويلة في ذاكرتنا.
على جانب آخر فالتطور الأهم في الفيلم هو تطور شخصية دونالد، يقدم سباستيان ستان في البداية تجسيداً مميزاً ويبتعد عن محاولات التقليد السهلة لحركات اليد والشفاه التي نعرفها عن ترامب اليوم، يبدو وكأننا أمام شخصيتين، «دونالد» و«ترامب»، دونالد هو مجرد شاب طموح للغاية، وكلما وقع في خطيئة تحول قليلاً قليلاً لـ«ترامب».
حينما تم عرض الفيلم في كان سألت سباستيان ستان هذا السؤال بالتحديد، لأنه من الصعب أداء دور ترامب دور الوقوع في فخ تقليده على طريقة Saturday night Live، أجاب بأنه عندما قرأ السيناريو أدرك أنه لم يكن يعرف الكثير عن ترامب، وأن الشخص الذي يعرفه ربما يكون شخص أخر، حينها قرر أن يعود لفترة الأكاديمية الحربية في حياة ترامب ثم بدأ منها في تجسيد شخصيته.
يصنع ستان في عام 2024 تطوراً واضحاً على مستوى الأدوار، الممثل القادم من عالم مارفل وجد في المسابقة الرسمية في برلين وفاز بأفضل ممثل عن «رجل مختلف - a different man» ووجد بهذا الفيلم المهم في مسابقة كان الرسمية.
نعود للسؤال الذي طرحناه في البداية، هل نحن أمام الحقيقة أم أمام نسخة «ميلودي»، نسخة «وديع وتهامي باشا»، من الحقيقة؟
حتى الحقيقة يمكن أن تكون نسبية في السينما، والأهم دائماً ليس ما تحكيه ولكن كيف تحكيه، هنا يحكي علي عباس لنا أن ترامب رجل فاسد، يخون زوجته، ويغتصبها ويعتدي عليها بالضرب في أحد المشاهد، يصحب هذه المشاهد بالتحديد نمط تصوير تلفزيوني وكأننا في فيلم فيديو من السبعينيات أو بداية الثمانينيات، ويغلف هذا كله موسيقى ملحمية تخبرنا في تلك اللحظات أننا أمام رجل شرير.
يتضاءل التأثير بشكل عجيب لدينا كمشاهدين على رغم ذلك لأننا نشعر بأنه يتم تلقيننا، يتم التأكيد علينا بأن علينا أن نكره هذا الشخص، في حين يتم عرض الفيلم في اللحظة التي تورط فيها منافسه «جو بايدن» -في هذا الوقت- بتمويل حرب يراها مندوبو الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية جريمة حرب مكتملة الأركان.
في كان ووسط الصمت سألت المخرج «علي عباسي» عن هذا بالتحديد، هل يريد يوماً ما أن يصنع فيلماً أيضاً عن الجانب المظلم لجو بايدن أو «جينوسايد جو» كما يلقبه المتظاهرون ضده؟
أجاب عباسي بأنه يرى فيلمه عن النظام الأمريكي وخطاياه، ولهذا لا يعتقد أنه مضطر لصنع فيلم خاص عن كل عنصر من هذا النظام، إجابة ذكية لكن هل نحن بالفعل في فيلم عن النظام وليس ترامب؟
علي عباسي ومعضلة هوليوود
يملك عباسي المخرج الدنماركي من أصل إيراني أسلوباً سينمائياً خاصاً، الرجل الذي اشتهر بأفلام «عنكبوت مقدس - Holy spider» و«حدود - Border» يظهر هنا بشكل مغاير في فيلمه الهوليوودي الأول، أجد هنا نفسي مجبراً على التخوف من مصير هذا الأسلوب، تخوف مبني على ما حدث لعديد من المخرجين الفنيين الذين تحاول هوليوود اجتذابهم ولكن من خلال أفلام تفرض عليهم، ولو جزئياً، أسلوباً سينمائياً ضد كل ما صنعوه من قبل، أتذكر هنا كيف صنع «هاني أبو أسعد» فيلماً هوليوودياً حاول أن يكون ضخماً يصعب وضعه داخل عالمه السينمائي الذي يعتمد عادة على تفاصيل صغيرة.
هل يعني هذا كما كتب بعض النقاد أن عباسي باعتباره دنماركياً إيرانياً لا يحق له صنع فيلم في قلب السياسة الأمريكية؟ بالطبع لا، من حق عباسي أن يصنع ما يشاء، ومن حق رجل ملون من أصل إيراني -سيضطهده نظام ترامب غالباً وكل من يشبهه- أن يحذر منه، لكن ما نعنيه هنا أنه يجب أن يظل وفياً لأسلوبه السينمائي في صنع حكايات إنسانية من جانبه، تبتعد عن تصوير الحياة كأبيض وأسود.
السينما تصبح أكثر تأثيراً كلما اقتربت من الإنسان، دون تمجيد أو تصويره كشيطان، حتى لو كان هذا الإنسان هو دونالد ترامب.
لم يفز ترامب في النهاية في انتخابات 2024 طبقاً للعديد من الإحصائيات بسبب زيادة شعبيته، ولكن بسبب انهيار شعبية الطرف الآخر، لماذا؟ هذا موضوع يصلح تماماً لفيلم نتمنى أن نشاهده قريباً.