عقب نجاحه الهوليوودي الكبير بعد بطولته لفيلم «أوبنهايمر» من إخراج كريستوفر نولان الذي فاز من خلاله بجائزة أوسكار أفضل ممثل في دور رئيسي في 2023، عاد كيليان ميرفي ليقدم دور البطولة في فيلم أيرلندي منخفض التكلفة هو «small things like these» أو «أشياء كهذه».
الفيلم الأحدث للمخرج البلجيكي تيم ميلانتس هو عن رواية بنفس الاسم للكاتبة الأيرلندية كلير كيجان.
تدور أحداث الفيلم المستوحاة من الواقع عن «الملاجئ المجدلية» التي أدارتها الراهبات من الكنيسة الكاثوليكية في أيرلندا والتي استمرت في العمل حتى نهاية التسعينيات.
ظاهرياً كانت هذه الملاجئ تؤوي النساء المنبوذات ممن تورطوا في علاقات جنسية خارج إطار الزواج. لكن عملياً كانت تلك النساء والفتيات يتعرضن لصنوف من التعذيب البدني والنفسي. كيف يستمر ميرفي في تقديم أدوار مميزة لكنها جميعاً تحمل نفس الصراع، وكيف يقدم هذا الفيلم حكاية يمكن وصفها بأنها «anti Christmas movie» أو مضادة لأفلام الكريسماس التقليدية؟
ملجأ مجدلي في دبلن في أوائل القرن العشرين
يبدو موضوع الفيلم من الوهلة الأولى شائكاً، فالملاجئ المجدلية تمت إدارتها بشكل مباشر من الكنيسة الكاثوليكية ومن خلال راهبات كاثوليكيات أسندت إليهن مهمة إعادة تأهيل فتيات تم تصنيفهن كمنبوذات من المجتمع في أيرلندا، في البداية تم إرسال النساء اللائي عملن في البغاء إلى هذه الملاجئ، لكن بمرور الوقت تم إرسال الكثير من الفتيات الصغيرات التي تشكك أهلهن في سلوكهن.
رواية الكاتبة الأيرلندية كلير كيجان تبدو تمثل حكاية مضادة لحكايات أفلام الكريسماس المعتادة، فبينما تعودنا على حكايات دافئة أسرية تحدث في فترة أعياد الميلاد تدور الحكاية هذه المرة في أجواء باردة وحزينة عن رجل يعمل في توصيل الفحم يكتشف بالصدفة ما يحدث من تعذيب للفتيات في أحد الملاجئ المجدلية في أيرلندا.
الرواية فازت بجائزة أوريل للكتابة السياسية في المملكة المتحدة وتم استقبالها بشكل إيجابي نقدياً وجماهيرياً رغم ما فيها من انتقاد لإحدى المؤسسات الكنسية.
الفيلم يمثل استمراراً لأدوار كيليان ميرفي التي تعتمد على الصراع الداخلي، فكما شاهدناه في «بيكي بلايندرز» كرئيس عصابة يصارع ذكرياته من الحرب العالمية الأولى، ثم تابعناه في «أوبنهايمر» وهو عالم يصارع شعوره بالذنب بسبب تطويره للقنبلة الذرية التي قتلت عشرات الآلاف في هيروشيما ونجازاكي، نراه هنا أيضاً رب أسرة من طبقة متوسطة يصارع شعوره بالمسئولية تجاه الفتيات التي يعلم ما يتعرضن له من تعذيب، وفي نفس الوقت يعاني من ذكريات فقده والدته التي لم تخبره عن هوية أبيه.
بين صبي أتت به أمه دون زواج ورب أسرة يحاول أن ينقذ فتيات صغيرات يتعرضن للتعذيب، يصبح الصراع على الشاشة داخلياً، نفسياً، وهو ما يجعل من أداءات كيليان ميرفي متشابهة بشكل كبير، بين الصمت والسكون ولحظات البكاء دون نحيب.
ربما لكل شخصية في أي عمل فني أو أدبي صراع داخلي، لكن يوازنه عادة وجود صراع خارجي يدور في عالمه، لكن شخصيات ميرفي التي ذكرناها هنا والتي صنعت شهرته التمثيلية بشكل كبير كلها تعاني في الأساس أمام ذكرياتها وتاريخها الشخصي، هكذا لو شاهدت بعد عدة سنين صورة لميرفي وهو جالس وحيداً، صامتاً وحزيناً، فغالباً لن يمكنك ذكر العمل التي تأتي الصورة منه.
صورة من العرض الخاص للفيلم في برلين
الفيلم الذي شارك في إنتاجه نجمان آخران من هوليوود هما مات ديمون وبين أفليك يمثل محاولة من كيليان ميرفي للموازنة بين أفلام ضخمة هوليوودية اشتهر من خلالها وإنتاجات أقل شهرة وتكلفة تدور في بلده الأم وتقدم قيمة على المستوى المجتمعي.
يتماشى هذا الأمر مع شخصية ميرفي كفنان يحاول قدر الإمكان الابتعاد عن أجواء هوليوود حيث يقيم مع عائلته حتى الآن في مدينة دبلن الأيرلندية. ويحاول قدر الإمكان المشاركة سياسياً ومجتمعياً في تغيير بلده، حيث يقوم بعديد من الأنشطة الخيرية لمساعدة المشردين كما يشارك في حملات تشجع الشباب على المشاركة السياسية الفعالة والتغيير السلمي.
الفيلم قد افتتح فعاليات مهرجان برلين السينمائي في فبراير الماضي وحصدت من خلاله الممثلة البريطانية الكبيرة ايميلي واتسون على جائزة أفضل أداء في دور مساعد. لكنه مع إتاحته الآن للمشاهدة في السينمات عالمياً ثم عبر الإنترنت يكتسب سياقاً مختلفاً لمشاهدة فيلم مختلف في نهاية العام تدور أحداثه بالأساس في وقت أعياد الكريسماس، حيث تتساقط الثلوج وتجتمع العائلات، وكما نحتاج لقصص دافئة ذات نهايات سعيدة.