فن

فيلم F1: عن فيلم يُجيد القيادة ويفشل في الوصول

بين عدسات IMAX ورايات الفورمولا... هل ما زال للفن مكان وسط هدير العلامات التجارية؟ سباقٌ بلا قلب، وبطلٌ لا يعود... فورمولا 1 التي خانت دراما الطريق.

future البوستر التشويقي لفيلم F1:

يعيش سوني هايز، بطل سباقات الفورمولا 1 السابق الذي يؤدي دوره براد بيت، فترةً قاتمة في حياته. تشير لقطات الماضي إلى مجده الغابر: شاب يافع، ذو شعر كثيف، يتصدّر المشهد كنجم ذهبي في عالم السرعة. لكن حادثًا مروّعًا قبل ثلاثين عامًا قلب حياته رأسًا على عقب – أنهى مسيرته المهنية، دمّر زيجاته، وتركه يتخبّط بين سلسلة من الهزائم الشخصية.

اليوم، يتنقّل سوني في شاحنته المتنقلة، يخوض سباقات ثانوية بلا بريق، حين لا يكون مشغولًا بالمقامرة أو قيادة سيارة أجرة. لكن بصيص الأمل يأتيه من صديقه القديم روبن (يؤدي دوره خافيير بارديم)، الذي يدير فريق فورمولا 1 متعثرًا. يمنحه روبن تذكرة سفر إلى إنجلترا، ويترجّاه أن يعود إلى المضمار، لينافس مجددًا في أعلى مستويات السباق.

يخبرنا المخرج «جوزيف كوزينسكي» أن الهدف المعلن لفيلم «فورمولا 1»، منذ البداية، كان إنتاج «أكثر أفلام السباقات أصالة وواقعية على الإطلاق». استعان بكاميرات IMAX صغيرة الحجم، جرى تطويرها لفيلم «Top Gun: Maverick 2022»، وثبّتها في قمرة قيادة سيارات الفورمولا 1 الحقيقية، ليمنح الجمهور تجربة غامرة داخل قلب السباق.

لكن السؤال الأهم ليس فقط كيف صُوِّر الفيلم، بل لماذا يبدو، رغم كل هذا الجهد البصري، وكأنه يفتقر إلى الحياة؟ لماذا لا يتحول هذا الإنجاز التقني إلى دراما تُثير شيئًا حقيقيًا فينا؟

فورمولا 1 بلا خطر: حين يصبح العمل الفني إعلانًا

يحمل الفيلم عنوانًا مباشرًا وصريحًا: «ف 1»، وكأنه لا يدّعي شيئًا سوى كونه استعراضًا بصريًا لسباق الفورمولا 1. وهو كذلك بالفعل؛ إذ لا يقدّم سوى سباقات مصممة بإتقان بصري ومونتاج مثير واهتمام بالتفاصيل الفنية للرياضة نفسها، دون أن يتجاوز هذا البريق السطحي إلى ما هو أعمق.

فالمشكلة لا تكمن في انعدام العمق البصري، بل في غياب العمق الدرامي. فشخصية البطل الاستثنائية – أو هكذا يُفترض – ليست سوى صورة نمطية لرجل يتقدّم في العمر، أقرب إلى «راعي بقر» يعيش وفق قوانينه الخاصة منه إلى رياضي محترف.

ورغم أن القصة تسير على الخط الكلاسيكي لرحلة العودة، فإن «سوني» لا يعود كما يجب؛ لا أزمة وجودية، لا ندم حقيقي، ولا صراع داخلي يُذكَر. رحلة خالية من التحوّل الحقيقي، لا تنقله إلا من «رجل عظيم مغرور قليلًا» إلى «رجل عظيم أقل غرورًا بقليل».

لكن المشكلة الأعمق تكمن في النظرة الأشمل التي يتبنّاها الفيلم تجاه رياضة «الفورمولا 1» نفسها. فكل ما يظهر على الشاشة – من الحلبات اللامعة، والسيارات المصممة بعناية، إلى الأزياء والشعارات – يخضع لمنطق ترويجي صارم.

وقد صُوِّر الفيلم بتعاون وثيق بين منصة «Apple» ومنظّمي البطولة، ممثَّلين بشركة «ليبرتي ميديا»، المالكة الحصرية لحقوق «الفورمولا 1» منذ عام 2017، إلى جانب مشاركة بطل العالم «لويس هاميلتون» كمنتج منفّذ ومستشار فني.

كل ذلك يجعل من الفيلم أقرب إلى إعلان فاخر منه إلى عمل نقدي أو إنساني عن رياضة تُعَدّ من الأخطر عالميًا، حيث يغامر السائقون بحياتهم في كل سباق. فرغم الحضور الكاريزمي لـ«براد بيت»، والإخراج المتقن لـ«جوزيف كوسينسكي»، والتقنيات التصويرية المذهلة، يظل «ف 1» أسيرًا لرغبة شديدة في تقديم صورة إعلانية ناعمة، بلا روح، حرصًا على عدم إغضاب أحد: لا صُنّاع الرياضة، ولا جمهورها، ولا حتى أبطالها.

وهكذا، ينتهي الفيلم كما بدأ: صاخبًا، سريعًا، ومبهرًا بصريًا، لكنه بلا تأثير حقيقي. قد تخرج مبهورًا بالكاميرا داخل السيارات، بالألوان، بالسرعة، لكنك لن تتذكّر شيئًا مما شعرتَ به. يستهلك «ف 1» مشاهديه بسرعة، مثل سيارة لا تتوقف، لكنها أيضًا لا تذهب إلى أي مكان.

الميلودراما الذكورية: فورمولا الهيمنة

في لقاء تلفزيوني أجرته المذيعة سيلينا سكوت على قناة «BBC»، سُئل بطل العالم في الفورمولا 1 آلان بروست، الملقب بالبروفيسور، عن سبب غياب النساء عن المشاركة في هذه الرياضة، فأجاب: «النساء غير قادرات على المنافسة».

رغم إعلان «الفورمولا 1» رسميًا أنه لا يوجد أي عائق يمنع النساء من المشاركة في البطولة، ورغم التاريخ الطويل لمشاركة النساء في سباقات الكارتينج وسباقات السيارات، والعدد المتزايد من المهندسات، وسائقات الاختبار، والمشرفات، إلا أن حضورهن في «الفورمولا 1» ظلّ محدودًا للغاية. وقد شهدت السنوات الأخيرة تغيرًا ملحوظًا في توجهات البطولة، حيث بدأت إدارة «الفورمولا 1» بإعادة النظر في كيفية تمثيل النساء داخل هذا المجال. تجلّى ذلك بوضوح عام 2018، حين قررت إيقاف استخدام «فتيات الرايات» (Grid Girls) خلال مراسم السباق، واستبدالهن بأطفال من المشاركين في سباقات الناشئين، في محاولة لإضفاء طابع أكثر شمولًا وتمثيلًا للواقع.

اللافت أن فيلم «F1» بدلاً من مواكبة هذه التحوّلات أو مساءلتها، يعيد إنتاج الثقافة الذكورية ذاتها دون أي تفكيك نقدي. يكتفي الفيلم بتلميع صورة البطولة من الخارج، متجاهلًا التمييز الكامن في تمثيلها، بل يُعيد تكريس هذه التحيزات بشكل غير واعٍ. ففي مفارقة صارخة، يُقدّم الفيلم الشخصية النسائية البطلة – «كيت ماكينا» (كيري كوندون)، وهي مهندسة بارعة وخبيرة في الديناميكا الهوائية وأول مديرة فنية لفريق سباقات – لكنها تُصوَّر بوصفها غير قادرة على تطوير السيارة أو إثبات كفاءتها إلا بعد تدخل البطل الذكوري.

يدور أداؤها الوظيفي بأكمله ضمن مدار ثقته وتوجيهاته، مما يرسّخ فكرة أن المرأة، حتى في مجالها المهني، لا تكتمل إلا عبر الرجل. هكذا، يُعيد الفيلم إنتاج الذكورية التي تحصر النساء في أدوار داعمة، بينما تُمنح البطولة، والوكالة، والانتصار، للرجل وحده، دون منافسة تُذكَر.

هل يمكن للعلامات التجارية أن تُنتج أعمالًا فنية؟

في أحد مشاهد فيلم «E.T. the Extra-Terrestrial 1982»، يُبعثر الطفل «إيليوت» قطع حلوى من شوكولاتة Reese’s Pieces على الأرض، ليقود الكائن الفضائي نحوه بخطوات مترددة. لم يكن هذا مجرد مشهد مؤثر في بناء العلاقة بين الطفل والمخلوق الغريب، بل لحظة فارقة أعادت تعريف العلاقة بين السينما والعلامات التجارية.

فبعد عرض الفيلم، ارتفعت مبيعات الحلوى بنسبة 65٪ خلال أسابيع قليلة، رغم أن المشهد لم يُقدَّم كإعلان مباشر أو ترويجي صريح. اللافت أن شركة M&M’s كانت قد رفضت التعاون مع فريق العمل، فذهبت الفرصة إلى شركة هيرشي (Hershey)، التي استفادت من هذا الظهور السينمائي دون أن تُخِلّ بالطبيعة الفنية للفيلم أو تتدخل في سياقه.

ومن خلال مشهد لا تتجاوز مدته ثوانٍ، فُتح باب جديد أمام تحالفات السينما والبراندات، حيث لم تعد العلامة التجارية مجرد خلفية، بل أصبحت جزءًا من السرد ذاته. لم يكن الترويج صريحًا أو مباشرًا، بل مدمجًا بعناية داخل لحظة عاطفية، مما عزّز تأثيره في وعي المشاهد. ومن هنا، بدأت موجة جديدة من الإنتاج السينمائي الذي يسعى إلى «تحويل المنتجات إلى نجوم» وبناء ولاء عاطفي للعلامة التجارية نفسها.

في عام 2023، قدّمت المخرجة «غريتا غيرويغ» (Greta Gerwig) فيلم «باربي» (Barbie)، مستندة إلى واحدة من أشهر الدمى التجارية في العالم، لكنها لم تكتفِ بتقديم عمل ترويجي للدمية، بل صاغت قصة مختلفة تمزج بين النقد النسوي، والسخرية الذاتية، وإعادة التفكير في رمزية الدمية نفسها. فرغم أن الفيلم إنتاج من شركة «ماتيل»، صاحبة العلامة التجارية، إلا أنه لم يتردد في نقد صورة باربي التقليدية، والسخرية من مجلس إدارة الشركة المكوّن بالكامل من رجال.

بهذا، تحوّل الفيلم من أداة ترويج أسهمت في رفع مبيعات الشركة إلى مساحة فنية وفكرية وثقافية. لكن التجربة، في الوقت ذاته، تُحيلنا إلى قلب التوتر الدائم بين الفن كتعبير حر، والعلامة التجارية ككيان يسعى للربح وبناء الولاء. فهل يمكن للعلامة التجارية أن تنتج فنًا حقيقيًا؟ أم أن الفن يبقى دومًا رهينة لوظائفها الترويجية؟

في المقابل، يقدّم فيلم «ف 1» مثالًا مغايرًا. فعلى الرغم من كونه مُرخّصًا من قِبل علامة تجارية كبرى، وامتلاكه ميزانية ضخمة وإنتاجًا عالي الجودة، إلا أنه يظل أقرب إلى الترويج المباشر منه إلى التعبير الفني. وعلى عكس أفلام سباقات السرعة السابقة مثل «Rush 2013»، و«Senna 2010»، و«Ford v Ferrari 2019»، التي تناولت السباقات من منظور إنساني ودرامي أو حتى تاريخي، يتجنّب «فورمولا 1» الغوص في تعقيدات الرياضة أو تفكيك أسطورتها.

نحن لا نُشاهد سباقًا بقدر ما نُشاهد احتفالًا بصناعة السباق كفانتازيا بصرية وعاطفية، تهدف إلى جذب مشاهد جديد، وتكريس صورة الفورمولا 1 كمنتج سينمائي. لقد أصبحت العلامة التجارية هنا هي البطل غير المُعلن للفيلم. لم تعد مجرد خلفية للسرد، بل تمركزت في قلبه: الألوان، السرعة، الشعارات، التقنية، والهيبة. ورغم أن الإخراج البصري مبهر، يبقى السؤال معلّقًا: هل نشاهد فيلمًا؟ أم إعلانًا طويل الأمد؟

# فن # سينما # سينما عالمية

زياد رحباني لي وللجميع: لست أدرى!
ثورة يوليو والسينما السياسية
هندسة الخوف: مأساة الإنسان الخاضع

فن