«هنا يرقد شاعر، نبي، خارج عن القانون، مُنتحل، عسى أن يرتاح الجمهور المستبد»
— I'm Not There» 2007»
في عام 2007 قدم المُخرج الأمريكي تود هاينس Todd Haynes فيلمه «I'm Not There» والذي يدور حول سيرة المطرب والشاعر الأمريكي بوب ديلان. لكنها ليست سيرة ذاتية مروية بالنمط الكلاسيكي، إنما سيرة تحمل نكهة فيلليني!
بعد فيلمه «La Dolce Vita» عانى فيلليني أزمة ابداعية عبر عنها بزوال ملكات الساحر من عوالمه، ليصير فيلمه «8½» انعكاسًا لتلك الأزمة في صورة بطله المخرج غويدو الذي يفر من ثقل نجاحاته السابقة وضغوط فيلمه الجديد وتوقعات الجمهور منه، نحو اللاوعي بداخله، بحثًا عن إجابات حول الذات والإبداع، لتخرج النتيجة في صورة تداعيات لا واعية ساحرة وصادمة للجمهور ولفيلليني ذاته!
يعيد تود هاينس في فيلمه تجسيد مشهد 8½ الشهير حيث يُحلق ديلان في السماء مثل بطل فيلليني بينما قدمه مربوطة بقيد يُحاول أحدهم التحكم به وإعادته للأرض بحبل كما يتحكم بطائرة ورقية.
مشهد من فيلم «I'm Not There»
كانت حياة بوب ديلان الواقعية تكرارات صادمة لمأزق بطل 8½ ومخرجه، كلما ألفه الجمهور في قالب، حطمه وانكفأ على ذاته ليعيد بعدها اختراع نفسه في صورة جديدة، دورة كررها ألف مرة على مدار مسيرة جاوزت النصف قرن، ارتدى فيها أقنعة شتى، مُغني فولك حزين وشاعر احتجاجي وأيقونة للثقافة المُضادة، نجم للروك، مغني ريفي، مسيحي نال معموديته للتو بعد الضلال، ومُحتال وخارج عن القانون.
مسيرة خلفت وراءها أكثر من 500 أغنية، وجائزة نوبل مُهداة لشاعر منح كل تلك الأقنعة والأحلام التي تحملها، كلمات فريدة في أصالتها.
يستخدم المُحتجون كلماته وكذلك المسيحيون الورعون ومُطربي الروك والكونتري والفولك. لكن أحدًا لا يجرؤ على الادعاء بأن ديلان يخصه وحده. كلما حاولت فئة جذب الحبل ليتوقف ديلان عن الطيران ويعود لها مُنتميًا، ينقطع الحبل ويطير صاحبه بلا رجعة!
يُحول تود فيلمه إلى وثائقي ساخر وكاذب، يُجسد ديلان فيه ممثلين شتى، يعبروا عن مراحل مختلفة من عمره وشخوص مختلفة من أغانيه، لا تحضر تلك المراحل تباعًا إنما بالتوازي، ليصير بوب ديلان في فيلمه هو الكل واللا أحد. تتبقى أغنياته، ولا يتبقى من تشظي ذاته شيء، ليهمس لك في نهاية بحثك اليائس عنه: أنا لست هنا!
كان فيلم تود وفيًا لروح ديلان ومتوسلًا تداعيات فيلليني الحلمية الحُرة من التفسير والمُتحدية لكل محاولة لإكسابها منطق أو بنية، أملًا بأن يصير العمل في تمرده على قواعد السرد التقليدية أصدق محاولة لتجسيد تمرد ديلان على قوالبه، وربما ذلك كان مأزق الفيلم برُمته!
كان الجمهور قربانًا لرغبة تود في تجسيد بطله كما أراد، بات الفيلم أحجية ليست عصية على التفسير وحسب، إنما على الاستسلام لتداعياتها كما نستسلم للأحلام في سينما فيلليني.
باتت كابوس سردي مصمم بعناية لإيلام المتلقي ومحاكمته، لتصير أي محاولة للتماهي والفهم، استبدادًا فوريًا موجهًا لديلان وقالبًا جاهزًا لسجنه. ليترك الفيلم في إخفاقه الجمالي علامة استفهام هائلة ومتحدية: هل يمكن لفيلم أن يُجسد جوهر مبدع يولينا ظهره ويرفض تلصصنا عليه؟ رجل يرفض الانصياع لقالب، ولو كان قالب سرده؟
يجيب المخرج جيمس مانغولد على السؤال هذا العام بفيلم جديد عن ديلان، جرى التحضير له لخمسة أعوام كاملة، مُعنونًا إياه بـ«مجهول بالكامل» وهو عنوان يتشابه مع عنوان تود هاينس السابق، فبطل العملين لا يزال مُكتسيًا بمجهولية لا يروضها قالب.
لا يتمرد مانغولد على السرد الكلاسيكي لأفلام السيرة الذاتية مثل تود، لكنه يضع كل تحدياته على ورقة رهان واحدة، وهي أن خمس سنوات هي الأولى في مسيرة ديلان (1961-1965) ستكون أكثر من كافية لاختزال جوهر رجل جاوزت مسيرته نصف قرن!
نُدرك من البداية أن هذا ليس فيلمًا تأريخيًا لمسيرة ديلان أو توثيقًا تفصيليًا لحياته، لأن التوثيق فقط لمسيرة بهذا الحجم تحتاج لعشرة أفلام ولذلك اختار هاينز الصيغة الوثائقية ليسخر من أي قالب سردي يتتبع مسيرة ديلان ويحلم بسردها كاملة.
فيلم مانغولد هو عمل يبحث عن جوهر ديلان الكامن خلف تجلياته وأقنعته لا تاريخه وقصته، إيمانًا بأن فهم جوهر البطل بالاقتراب وملامسته، كافٍ وحده ليحررنا ويحررره من كل قالب أو محاولة لسجنه، لأن القوالب لا تُصنع بالأساس إلا من سوء الفهم وخوف الاقتراب.
يعتمد مانغولد في خلق محطات حكايته على الأغاني الموسيقية التي لا تظهر كجزء مُكمل للعمل، إنما باعتبارها أداة سرد أساسية، والطريقة الأكثر شعرية لتتبع الحكاية، ولذلك يمكن اعتبارها الطريقة الأمثل في هذا المقال لمقاربة الحكاية نقديًا.
«أكتب لك وودي غوثري، عن عالم جديد قادم
يبدو مريضًا، جائعًا، مُتعبًا… وممزق
عالم تبدو عليه أمارات الموت، رغم أنه بالكاد ولد»
يقوم الشاب ديلان في سن العشرين، بزيارة مغني الفولك وودي غوثري الذي يحتضر بمشفى في نيوجيرسي، بينما تتعرض أغنيته الشهيرة «This Land Is Your Land» للمحاكمة السياسية. ويقف المطرب بيت سيجر مستفزًا بها السلطات التقليدية وعازفًا إياها في قاعة المحكمة بوجه القضاة.
تلف الأغنية كل المدن الأمريكية في تنويع سوداوي عن أغنية «God Bless America» لارفينج برلين. يردد جوثري بالكلمات أن تلك الأرض خلقت للجميع ولكنها ليست مباركة من الرب إنما تقطع شرايينها لافتات عدم الاقتراب التي تجعلها مسورة ومحوطة لصالح الأغنياء بينما الفقراء عرايا خارجها.
تقوم موسيقى الفولك على نقد مؤسسات الدولة وسلطاتها، تنتمي للشعب وتستنطق همومه، مُحولة رحلة برية في المجاهل الأمريكية إلى مانيفستو ضد الفقر والكساد الذي ساد الولايات المتحدة في عشرينيات القرن الماضي.
يؤدي ديلان أغنية وفاء لغوثري وهو على سرير مرضه، تتحدث عن عالم جديد قادم هو أمريكا الستينيات، التي تحتاج موسيقى الفولك أكثر من أي وقت، حيث الخطر لم يعد كسادًا أو فقرًا وإنما مخاطر حرب فناء نووية ونظام فصل عنصري يوشك ضحاياه على الإنفجار.
الفولك عالم وليد، جاءت لحظته ولكن بطله جوثري يحتضر، ولذلك لا بد من ميلاد جديد لأصواته وهو ماتمثله موهبة ديلان الشابة.
يترك ديلان أغنيته تتحدث عن الفولك، بينما بعد انتهائه منه يكتفي بإخبار جوثري أنه جاء ليأخذ منه قبس الإلهام. ليكمل مسيرة تنتظره هو وحده لإتمامها.
يُخبر ديلان عرابه مطرب الفولك بيت سيجر، أنه يعزف الفولك لأنها تتحداه ليستنطق كلماتها، لكنه لا يؤسر لها إنما يحب كل جونرات الموسيقى الأخرى، بينما يخبر حبيبته أنه اختار الفولك لأنها أغاني تُكتب بحيث تصمد أمام الزمن، أغاني تمنح صاحبها الخلود وهو ما يتمناه.
مشهد من فيلم «A Complete Unknown»
يبدو ديلان كرجل يختار الفولك ليس فقط عن إيمان بقضاياها وإنما لأنها الصوت المناسب ليتجلى عبره في زمنه، لكي يخرج من طور عاديته للأسطورة الخالدة، يبدو كل من حوله أكثر إيمانًا منه بجدوى الفولك سياسيًا، بيت سيجر والمطربة جوان بياز وجوثري نفسه، لكنه وإن كان أقلهم إيمانًا فهو للمفارقة أكثرهم موهبة. وكل ما يحتاجه أن يرث من جيل الفولك الحالي قبس الإلهام ويقودهم بموهبته لآفاق لن يصلوا إليها بمفردهم أبدًا.
يتأثر المخرج مانغولد بشدة بفيلم «Amadeus» الذي صنعه أستاذه ومعلمه بجامعة كولومبيا ميلوش فورمان، يبدو ديلان متألقًا مثل موزارت، تطغى موهبته على إيمانه، ولكن كل من حوله لا يقاتلوه مثل ساليري، إنما يستسلموا منذ البداية لطوفان موهبته الجارف الذي لا يمكن مواكبته حتى وإن سبقوه في الشهرة والحضور. يعيروه كلماتهم ليغنيها هو ويستعيروا كلماته ليرددوها في أغنياتهم.
يهاجم ديلان المطربة جوان بياز التي تسبقه في الشهرة والإيمان بالثقافة المُضادة، يخبرها أن إيماناتها أشد موثوقية منه لكن كلمات أشعارها رقيقة لا تحمل الغضب الكافي، لا أحد يقاتل السلطة بأشعار عن طيور النورس وغروب الشمس.
مشهد آخر من فيلم «A Complete Unknown»
لذلك تستسلم لأشعاره ولمحبته عندما تجده في ذروة أزمة الصواريخ الكوبية ولجوء الأمريكيين للملاجئ خوفًا من الغبار النووي يعزف بهدوء أغنية «Masters Of War» التي يتحدى فيها مطرب فولك في حانة منسية كل قادة العالم ومهندسي الحروب ويقف بجيتاره على قبورهم.
يشدد مانغولد منذ البداية على فردانية ديلان التي تبدو أكبر من قضايا زمنه ومن الفولك، رجل يبحث عن قالب ليتمظهر عبره، لكنه في لحظة قادمة سوف يتجاوزه حتمًا.
يبرز مانغولد تلك الفردانية أكثر في أداء تيموثي شالاميت الذي يتجنب بمهارة تقليد ديلان ومُحاكاته الحرفية، يستخدم مانغولد خبرته التي جمعها من فيلمه الأيقوني «Walk The Line» والذي اضطر فيه لترويض موهبة خواكين فينيكس مُخبرًا إياه أنه يجسد دور المطرب جوني كاش لكنه ليس جوني كاش. وهي النصيحة ذاتها التي قدمها لشالاميت ليظهر لنا أداءًا مُتفردًا، يقتبس من ديلان ولا يتحول لطائر محاكي له.
مشهد آخر من نفس الفيلم «A Complete Unknown»
لأن ديلان الذي يظهر أمامنا هو رجلًا عاريًا من أسطورته، الجميع يؤسر لها أما نحن ننفذ لجوهره، ونرى ما يحاول الجميع تجنب رؤيته وما يحاول ديلان نفسه أحيانًا تجنب رؤيته، أنه رجل مخلص لفردانيته من اللحظة الأولى، لا للانتماء لسردية أو لون موسيقي بعينه، مثل نبي في لحظة بعينها سوف يهجر قومه والرسالة، نحو خلاصه هو الفردي.
«قيل لي ذات مرة أنني أحببت امرأةً
أعطيتها قلبي، لكنها أرادت روحي»
تتجلى فردانية ديلان وهلعه من القوالب في غريزة الحب وعلاقاته العاطفية، التي تمثل له غريزة تملُّك قاسية، تفرد فخاخ قيودها في صورة عناق ووصال.
عندما يقع في حب سيلفي روسو (والتي تمثل ظل لحبيبة ديلان الحقيقية Suze Rotolo) تُخبره حبيبته أنها تحبه لكنها تواعد رجلًا مجهولًا بالكامل، لا يُخبرها شيئًا عن ماضيه، ولا تعرف حتى اسمه الحقيقي (روبرت زيمرمان) إلا بالمصادفة.
يخبرها أنه رجل ذاته بالكامل مُسخرة للمستقبل، لا للماضي، الذي يختار منه وحسب ما يساهم في صنع أسطورته، يقدم لها تعريفه الجديد، أنه: الفتى القادم في عالم الفولك والذي باعت إسطواناته ألف نسخة، تعريف فني لا مكان فيه لحبيبته.
الممثل الأمريكي تيموثي شالامي والممثلة الأمريكية إيل فانينغ من فيلم «A Complete Unknown»
تخبره حبيبته أن طبيعة الحب هو أن يجد المرء نفسه بعد تيه، ويُخبرها عن نظرته للذات باعتبارها صيرورة لا تتوقف عن التحولات، لا أحد يجد نفسه، لأنه لا يوجد كنز بداخلنا ينتظرنا لإيجاده، إنما على المرء إعادة خلق ذاته باستمرار لينجو، لذلك يبدو الحب له كسجن، والحبيبة قدر لا فكاك منه بتحول جديد، التحول يحتاج خفة والحب ثقل يدفعه للبقاء في مكانه.
تنتهي كل مشاهد ديلان الحميمية مع حبيباته بجلوسه وحده إما على الفراش أو على مقعد، مُحتضنًا جيتاره بدلًا من امرأته، التي تظل دومًا على مبعدة منه، في إشارة لاقترانه بفنه أكثر من أي شريكة.
الممثل الأمريكي تيموثي شالاميت من فيلم «A Complete Unknown»
في إحدى المشاهد يحتل مقدمة الكادر بعد المضاجعة بينما تقف خلفه جوان بياز، تبدو صغيرة رغم أنها تفوقه في الشهرة والمكانة الفنية، لا يظهر منها أمامه إلا انعكاسها في المرآة بينما يوليها ظهره. هذا مكان الحب في عالم ديلان انعكاس باهت لحقيقة خلفه تمنحه فقط إلهامًا لفنه لا أكثر.
يبدو انخراطه بأحد المشاهد في الغناء بجوار بياز على خشبة المسرح واستسلامه الجارف للموسيقى معها، مشهدًا أكثر حميمية من المضاجعة التي قاما بها سابقًا، تحتل معه الكادر ولا تُطرد منه، لأنها تحضر هنا كشريك ومُساند لفنه لا لقلبه. وهي مساحة يمكن تشاركها معه.
الممثلة الأمريكية مونيكا باربارو بجانب الممثل الأمريكي تيموثي شالاميت من فيلم «A Complete Unknown»
تُخبره حبيبته سيلفي أنه يُشبه رجل السيرك الذي يوازن طبقًا متمردًا على عصاه، يبدو موهوبًا وساحرًا في عيون الجميع، لكن الفتاة في عالمه هي الطبق، مفعول منصاع لنزوة فنه.
لا يدافع ديلان عن نفسه أبدًا، يعترف لحبيباته أنه أحمق، لكنه يخبرنا بالحقيقة في أغنيته «Dont Think Twice»، عن رجل كلما أحب امرأة ومنحها قلبه، تطالب بروحه، يريد ديلان عاطفة قد تزول يومًا وتريد حبيباته امتلاك روحه وتلك استحالة لرجل تكمن نجاته في الترحال خارج أي قفص امتلاك.
لا يحول مانغولد سيرة ديلان إلى دراما عاطفية قائمة على الوصال والهجر والخيانة، لا يعترف ديلان أبدًا بضعفه في كل مرة يختار طموحه بدلًا من الحب، يكتفي مانغولد بمشاهد شعرية يتسرب فيها هذا الضعف مثل عودته متعبًا في ليلة إلى سيلفي بعد شهور من انفصالهما ليشكو لها من قيود الشهرة وأنه تحرر من حبها لكنه ليس حرًا، إنما جمهوره يمتلكه.
لا يعتذر ديلان لسيلفي أبدًا ولا يشرح ذاته لها كما تمنت دومًا، لكنه يشرح حقيقته على المسرح عندما يغني.
عن امرأة تنتظر رجلًا محبًا وحاميًا، يلتقطها كلما سقطت، يجمع الزهور ويحضر كلما أرادته، يرسم ديلان صورة شعرية له في مخيال سيلفي ثم يحطمها قائلًا: «هذا لست أنا»
تبكي سيلفي وتقرر الخروج من عالمه في تلك اللحظة. ولا يمنحنا مانغولد سوى مشهد وداع حزين لمتحابان يفصلهما قفص حديدي، كليهما من عالمين مختلفين.
يلعب مانغولد ببراعة على تقديم بورتريه إنساني لرجل حقيقي، يمتلك كبرياءًا وجنوحًا للخفاء يصعب معه أن نستنطقه ونحاكمه، لا نفض مجهولية ديلان ولا تنجح حبيباته في ذلك، لكننا نبحث في فنه عن طريقة لأنسنته، فتظهر أشعاره لتحول كل مايبدو قاسيًا، لمحنة شعرية لرجل، يبحث عن حريته من الحب ذاته، الحرية التي سوف يهدي لها أغنيته الأخيرة.
«أنت خفي الآن، لا أسرار لديك لتكتمها
بما يشعرك ذلك؟
أن تكون بمفردك تمامًا، لا لافتة ترشدك لمنزلك
مجهول بالكامل، مثل حجر يتدحرج على الطريق»
يهجر ديلان حبيباته ومعلميه لأجل فنه، لكنه لا يزال مقيدًا بجمهوره، الذي كثيرًا ما يظهر في فيلم مانغولد بطابع عدائي وحصاري، عداء يصل لذروته عندما تمد معجبة يدها لخلع عويناته السوداء، في اعتداء سافر على المجهولية التي يلتحف بها، يشبه ديلان نفسه بحصان يحمل على ظهره عبء توقعات الآخرين.
يدرك ديلان أنه إذا أراد كتابة أغنية عن الحرية الحقة فلا بد أن يتحرر من توقعات جمهوره ذاته ويصنع ما يريد، وفي هذا مخاطرة بأن يفقد مكانته وكل ما وصل له يومًا، ويعود مجهولًا من جديد، ولكن في لحظة بعينها تبدو تلك المجهولية مُحررة، لأنه لو عاد لها، عندها فقط يمكنه إعادة اختراع نفسه من جديد. عليه فقط أن يجد لحظة فيلليني التي يُمزق فيها البطل الحبل الذي يشده نحو الأرض ويطير، وكانت تلك اللحظة هي 25 يوليو 1965.
يُقرر ديلان أن يعزف أغنيته الجديدة «Like A Rolling Stone» في قلب مهرجان نيوبورت الذي يقدس موسيقى الفولك وفرادتها، ولكنه سوف يعزفها على أنغام الإليكتريك وموسيقى الروك أند رول، فيما سيعتبره محبي الفولك خيانة أبدية من أسطورتهم. مثل نبي يهجر قومه ويتحدث بلسان الشيطان، والشيطان وقتها كان البيتلز والثقافة الجماهيرية التي يرقص مراهقيها على تلك النغمات.
يبدأ فيلم «A Complete Unknown» بمطرب الفولك بيت سيجر وهو يقف بشجاعة ليعزف أغنية فولك أمام قضاة ومؤسسات تراه مجدفًا ومهينًا للديمقراطية الأمريكية، وينتهي الفيلم ببيت سيجر وهو يرتدي زي القضاة ويُحاكم ديلان لأنه قرر الإخلاص لفنه أكثر من الإخلاص للفولك وقضاياها.
يدرك ديلان أن الفولك تتمرد على كل مؤسسات السلطة لكنها في خضم ذلك تؤسس ذاتها كسلطة جديدة طاغية على أفرادها وهذا ما لا يحتمله أبدًا.
في فيلم «I'm Not There» يصور تود هاينس تلك اللحظة الصادمة التي غيرت مجرى الموسيقى للأبد في نيوبورت بشكل هزلي، فيظهر ديلان وفرقته وهم يستلون الرشاشات ويحصدوا الجمهور برصاصاتهم. وهو تصور على هزليته يُحاكي صدمة الجمهور المُحب للفولك يومها بفتاهم المحبوب وهو يتمرد على الجونرة وينسلخ منها.
مشهد في فيلم «I'm Not There»
يقدم مانغولد في المقابل مشهدًا شعريًا، يُصر فيه ديلان على مواصلة الغناء رغم محاولات قطع التيار الكهربي وصيحات الجمهور المستهجنة، يتعالى صوته بنبوءة مصيره، عاد البطل مجهولًا من جديد مثل حجر يتدحرج على الطريق لا يعرف وجهته لكنه نال حريته الأخيرة، حرية التمرد على جمهوره ذاته.
عندما تواجهه جوان بياز بعد الحفل تخبره: «لقد فزت بوب، تحررت منا ومن حماقاتنا».
لا تبدو بياز مثل مطربة فولك جريحة لخروج أشد أصوات الجونرة موهبة من فلك الموسيقى التي تحبها والقضايا التي تُخلص لها محلقًا نحو فردانيته، إنما يحمل صوتها حسدًا خفيًا لرجل لا يحتاج صوته لقضية ينتمي لها أو دوجما تقيده.
ينهي مانغولد فيلمه كما بدأه، يزور ديلان جوثري في المشفى، لا يطلب قبس الإلهام تلك المرة، إنما يطلب الانعتاق من إله منحه مباركته وعليه أن يمنحه حريته، يخرج ديلان بينما يراقبه جوثري وهو يمتطي دراجته البخارية ويختفي في الأفق، في تلك اللحظة حلق ديلان في السماء مثلما تمنى بطل فيلليني.
الممثل الأمريكي تيموثي شالاميت من مشهد في فيلم «A Complete Unknown»
يقدم مانغولد رهانًا شعريًا ناجحًا على خمس سنوات فقط من حياة ديلان، باعتبارها كافية لتُخبرنا عن بقية حياته، لا تعدو سنوات ديلان التالية أن تكون عود أبدي لتلك الدورة، أغنية عن الانتماء وأغنية عن الحب، وأغنية أخيرة يتمرد فيها على القوالب التي صنعها ويصطنع حرية ومجهولية جديدة، يتجه معها لإعادة خلق جديد.
لا يهتم مانغولد بتوثيق المسيرة إنما جوهرها، ولا يهتم بمُحاكمة ديلان إنما بالاقتراب منه بفضول فني، لا نجمع أحجيته إلا بانعكاسه في عيون الآخرين، من أذاهم ومن تمنوا أن يكونوا مثله، وبقية الأحجية يُكملها فنه وأغنياته، يبدو ديلان في النهاية رغم مجهوليته الكاملة مُلهمًا ومفهومًا أخيرًا. باعتباره رجل قالبه المثالي هو طائرة ورقية تطير بلا كوابح ولا حبال، نكتفي برؤيتها ونُلهم بالآفاق التي لا يصل لها أحد إلا بتفضيل الاستسلام لأجنحته على دفء ورتابة الأعشاش.