فن

فيلم «وحشتيني Back To Alexandria»: مصر بعيون مغتربة

يعطينا فيلم «وحشتيني» الفرصة بصفتنا متلقين نعيش داخل مصر، لرؤية الممثلين المصريين والشوارع بعيون خارجية مغتربة، مع صبغة حنين سينمائية غامضة غير مفلترة

future ملصق فيلم «وحتشيني»

فيلم الطريق هو نوع فيلمي أمريكي بالأساس، يعتمد على طرق أمريكا الشاسعة وأطرافها المترامية بين كل ولاية وأخرى، بدأ في هوليوود منذ الخمسينيات لكن تمت دراسته وتحليله في السبعينيات مع تغير النظام الإنتاجي من الأستوديوهات إلى ما يعرف بهوليوود الجديدة، وهو نوع رجولي بطبيعته يضم رجلاً أو أكثر على طريق في وسيلة تنقل مثل السيارة أو الدراجة البخارية، هارباً وتاركاً وراءه شكلاً مجتمعياً لم يعد ينتمي إليه، ناظراً إلى طريق مفتوح لا نهاية له.

لفيلم الطريق مزاج وجودي وتدميري، فهو يدمر ما قبله وينفصل بطله على الطريق عن مجتمعه وقيمه القديمة، لكن مع ميل السينما لسيولة الأنواع في العقود الأخيرة وتغير دلالة وسائل النقل أصبح فيلم الطريق متعدداً جندرياً، كما أصبح سائلاً نوعياً وجغرافياً، لم يعد عنيفاً بشكل حصري ولم يعد يُعنى فقط بالهروب أو التحرك من المعروف إلى المجهول بل بالتحرك من المجهول إلى المعروف.

يمكن ضم فيلم «وحشتيني» (عودة إلى الإسكندرية Back to Alexandria) للمخرج السويسري من أصول مصرية تامر رجلي، لشكل معاصر من أفلام الطريق الخفيفة، التي يصل أبطالها إلى خلاص في النهاية بدلاً من مزيد من التيه.

عرض «وحشتيني» في مهرجان زيورخ بسويسرا، ثم عرضه العربي الأول كان في مهرجان البحر الأحمر، قبل أن ينتقل إلى القاهرة، ضمن عروض أيام القاهرة السينمائية في سينما زاوية، تم تصوير معظم مشاهده داخل مصر بين القاهرة والإسكندرية، في قصة على الطريق عن الاغتراب والعودة.

طريق العودة

تدور أحداث «وحشتيني» حول سو (نادين لبكي) طبيبة نفسية في مدينة سويسرية، تأتيها مكالمة من خالتها إنجي (منحة البطراوي) تستدعيها للعودة إلى مصر لزيارة والدتها فيروز (فاني أردان) التي أصيبت بجلطة مفاجئة، تأتي المكالمة محملة سو بالذنب والثقل، وتفعل رحلة جوية/برية بين قارتين وعدة مدن، طيران من سويسرا إلى القاهرة ثم رحلة طريق بين القاهرة والإسكندرية، بحثاً عن إجابات وخلاص من علاقة محورية لكنها مؤذية.

ينتمي «وحشتيني» إلى نوع فيلم الطريق، الذي يمثل طريقاً مختصراً لسرد حكايات التخلي عن الماضي أو العودة للذات، يلتزم رجلي بشكل حرفي ببناء فيلم الطريق بشكله المعاصر الخفيف، خاصة أفلام العودة إلى الديار لكنه يضيف عليه فكرة شبحية، يصبح الماضي شبحاً متجسداً، يضحك ويرقص ويغني، يغزل الفيلم قصة تقليدية وصيغة يمكن تتبعها في الأفلام البديلة الأمريكية والأوروبية التي تموضع بطل يمر بأزمة في بداية قصته ثم ينتهي به الأمر متصالحاً مع ماضيه أو على الأقل متقبله، في شكل يشبه تركيب الأفلام الكوميدية الرومانسية، لكن في صيغة تدمج بين الخفة الشكلية والثقل الموضوعي والنهايات السعيدة.

في «وحشتيني» تبدأ سو من التيه وتصل إلى التنوير، تبدأ بعيدة عن منزلها وعائلتها وينتهي بها الأمر أكثر إحاطة بماضيها التي هربت منه طيلة حياتها، في رحلة وداع لما كان وترحيب بإمكانيات مستقبلية لم تكن في الحسبان.

فاني أردان ونادين لبكي في «وحشتيني» 2024

على عكس أفلام الطريق الأمريكية التي يهرب بها البطل من ضغوط مجتمعية في سيارة أو دراجة بخارية على طريق مجهول وغالباً ما يمارس أو يتعرض للعنف، أفلام الطريق المعاصرة تميل لأن يسير البطل هنا البطلة نحو مصير غير مرغوب به، لكنه يأتي بنتائج إيجابية، هو طريق بلا حرية أو اختيار بل طريق اضطراري، تذهب سو في طريق عبر قارتين لمواجهة نفسها في سياق اختارت الهروب منه، ومدن وشخصيات تحاول نسيانها، تمثل كل من سويسرا ومصر عناصر مجردة بالفيلم دون دلالة تاريخية أو سياسية، خاصة سويسرا التي لا تظهر في نطاقات مفتوحة بل محدودة جداً في مساحات مغلقة، في حين تصبح مصر مساحة طريق داخلي يمكن لمن يعرفها تخمين شكلها السياسي والاجتماعي الحالي، لكنها داخل الفيلم تعمل مساحة لاستكشاف الأشباح والعودة إلى الماضي والطفولة بشكل داخلي، غير معني بالمكان بشكل رئيسي بل بصورة مجردة عنه.

عودة للاغتراب

يكمن ماضي سو المعقد في علاقتها المرتبكة مع والدتها فيروز، التي حتى مع معرفتها أنها في أواخر أيامها على الأرض إلا أنها تهاب مقابلتها، تتذكر كل عقدة صغيرة تسببت بها وكل ما فعلته لتبني الشخصية التي أصبحت عليها أثناء نضوجها، فقد بنت شخصيتها بصفتها امرأة بمقاومة ما نشأت عليه في طفولتها، تحتل فيروز معظم إطارات الفيلم وتصبح رفيق طريق سو، مثل شبح حي يطاردها ويخرجها إجبارياً من اغترابها، يصيغ رجلي شخصية الأم باعتبارها عنصراً استعراضياً، سيدة أرستقراطية ذات سمات شكلية وطبائعية محددة وكأنها بطلة مسلسل ميلودرامي أو مسرح غنائي، امرأة جميلة تبدو عليها ملامح التقدم في العمر لكنها بالغة الاهتمام بكل تفصيلة ظاهرية، وهو ما يمكن مقارنته برسم شخصية سو شكلياً، يرسخ الفيلم لاغتراب سو عن بيئتها وتاريخها من البداية ويعين لوجودها في مدينة طفولتها عدة سمات شكلية.

مشهد من «وحشتيني» 2024

سو غريبة عن والدتها وغريبة عن مدينتها، يصور الفيلم غرابتها عن محيطها بالسيارة الوردية الكلاسيكية التي تقودها من القاهرة إلى الإسكندرية وداخل شوارع الإسكندرية، متميزة عن كل سيارة تقليدية حولها. كما يفصلها عن ماضيها بارتدائها ملابس عمل رسمية رجالية مثل البدلات من اللون الواحد، ثم بعودتها إلى بيئتها الأرستقراطية في الزمالك تحاول استعادة ما سلب منها وهي طفلة بارتداء فستان عتيق منفوش، منعتها أمها من ارتداء شبيهه عندما كانت طفلة، وهو ما يستدعي واحدة من عقد الفيلم الرئيسية وهي سخط الأم على قدر كون ابنتها بنتاً وليست ولداً يحب أمه ويتبعها في كل شيء.

في لقاء معه أجراه جوشوا بوجتان، يتحدث تامر رجلي عن الأمومة في فيلمه قائلاً أنه استدعاها من علاقة والدته بوالدتها إضافة إلى علاقته هو بوالدته، وهي علاقة حب/كره معقدة يمثلها بصرياً بشبح الأم وشبح آخر لطفل تمنت أن تلده، ولد صغير بديل لابنتها التي تحبها وتغار منها وتحاول السيطرة عليها، يموه الفيلم فاصلاً جندرياً بتسكين الدور لفتاة صغيرة (إيفا مونتي) بشعر قصير في دور الصبي، في تصور خيالي لما كانت عليه سو في طفولتها أو ما تمنته لها أمها، وهو ما يضفي على الفيلم سيولة تأويلية وطابعاً غرائبياً كوميدياً.

منازل مسكونة

«وحشتيني» هو رحلة في قلب أرستقراطية مصرية موشكة على الانقراض، شكل تقليدي من تراكم الثروة الجيلية وآخر الأجيال التي تعيش عليها، تقع الأحداث الداخلية في فيلات الزمالك التي ربما تمر بها أثناء سيرك وتتساءل عمن يسكنها أو ما إذا كانت مهجورة، في «وحشتيني» يسكنها أشباح أحياء وشخصيات من أزمنة متداعية، سيدة تتحلى بالمجوهرات ومستحضرات التجميل داخل المنزل وتستغل خادمها في تنفيذ كل أوامرها، تعيش بشكل فاره لكنه مكدس وقذر وكأنها في مكان غير مسكون منذ سنوات، ومع انتقال سو في رحلتها من حي الزمالك إلى حي راق آخر في الإسكندرية نرى فيلا أخرى شاسعة المساحة يسكنها أشباح الماضي الكامنة في الممتلكات القديمة المحملة بذكريات أشخاص لم يعودوا كما كانوا.

مشهد من فيلم «وحشتيني» 2024

في ذلك السياق الاجتماعي يحاول الفيلم صياغة تصور عن الطبقات والطبقية المصرية، في سياق طبقة تبدو وكأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة بقيم محتضرة وتصورات غير واقعية عن العالم خارج المنازل الملكية، يظهر الفيلم طبقة عائلة سو بأنها مجموعة من النساء الفارهات (العقارب) كما تسميهن، متمسكات بشكل محدد من الحياة منفصل عن شكل الحياة خارج أسوار منازلهن وحدائقها، فتصبح سو هي الوريثة المتمردة على إرثها الطبقي والعنصري، بشكل يمكن أن يصيب الفيلم بسذاجة وتبسيط لتوازنات شكل الطبقات في مصر في بعض الأحيان.

تتمرد سو بل تهرب من والدتها التي آذتها طيلة حياتها، بشكل رئيسي بمنعها من حب حياتها إدريس ابن حارس عمارة الأسرة لأسباب طبقية بسبب عمله، وعنصرية بسبب لون بشرته، تستمر فكرة انفصال سو عن طبقتها في تواصلها السلس مع سائق تاكسي تلقاه فور وصولها مصر، وهو ما تعلق عليه شبح فيروز بأنها لطالما كانت جيدة في التواصل مع الطبقات العاملة، بينما نرى سو في بداية الفيلم في إطار منغلق طبقياً في دولة أوروبية تدلل على تفوقها الطبقي بشكل أكثر معاصرة من نساء عائلتها لكنه لا يختلف عنهن كثيراً.

يزيد الفيلم من طابعه الاغترابي استخدامه لهجين من الألسنة واللغات والجنسيات، يتداخل عنواناه الفرنسي الذي يصبح إنجليزياً حسب مكان العرض: «Retour En Alexandrie» مع عنوانه العربي «وحشتيني»، الذي يملك طابعاً أكثر رومانسية ومباشرة من إقرار العودة، كما تتنوع اللغات المتحدثة به من مصرية منكسرة وفرنسية وإنجليزية، منطوقة من ممثلين من لبنان (نادين لبكي) وفرنسا (فاني أردان) ومصر: حازم إيهاب وإنعام سالوسة ومنحة البطراوي وبعض ضيوف الشرف مثل سلوى عثمان وليلى عز العرب، ذلك التداخل الثقافي غير الدقيق وغير الممثل لشخصياته يجعل الفيلم يقع في مساحة تعبيرية اغترابية، فهو هجين ثقافياً ولغوياً وأبطاله كذلك.

يعطينا «وحشتيني» الفرصة بصفتنا متلقين نعيش داخل مصر أو نعرفها، لرؤية الممثلين المصريين في أدوار صغيرة لكنها أكثر حرية وطبيعية مما يعرض عليهم عادة في داخل السياق الإنتاجي المصري، إلى جانب رؤية الشوارع المصرية بعيون خارجية مغتربة لكنها مع ذلك أكثر داخلية وأقرب لشوارع القاهرة والإسكندرية بشكلها الحالي من دون تدخلات خارجية، مستدعية حنيناً سينمائياً غامضاً لرؤية الشارع بشكل غير مفلتر على الشاشة حتى لو من عيون غريبة ربما تكون حتى استشراقية، كما يضيف الفيلم صبغة حنين مباشر عن طريق استخدام أغنيات مثل أهواك لعبد الحليم حافظ، التي تستمر على شريط الصوت بينما تعرض الصورة رحلة تاكسي في شوارع القاهرة المزدحمة، صانعة أيقونوغرافيا مصرية متعارف عليها تحوي تضاداً بين شكل المعيشة المضني وطبيعتها الفنية الرومانسية.

# سينما # فن

بين الحزن والانتظار: فيروزية المشرق ومشرقية فيروز
فيلم «أبو زعبل 89»: عن مصر التي نعرفها
فيلم «The Apprentice»: الحقيقة وراء دونالد ترامب

فن