فن

فيلم «رسائل الشيخ دراز»: رجل الأزهر من مصر إلى فرنسا

لا تتمتع الوثائقيات المصرية عادة باهتمام جماهيري أو إنتاجي، لكن الشيخ دراز انتشر عن طريق الترشيح الشفهي من شخص لآخر ومن شخص لمجموعة وهكذا، فما السبب؟

future ملصق فيلم «رسائل الشيخ دراز» 2024

ضمن فعاليات أيام القاهرة السينمائية عرض فيلم «رسائل الشيخ دراز» للمخرجة ماجي مرجان، ولم يكن أشهر الأفلام المعروضة لكنه أصبح من أكثر الأفلام تداولاً ضمن البرنامج على مواقع التواصل الاجتماعي، تداولت عنه، كتابات وآراء مستدعية عنصر التوثيق نفسه وخطاب الفيلم وخياراته، لا تتمتع الوثائقيات المصرية عادة باهتمام جماهيري أو إنتاجي، لكن الشيخ دراز انتشر عن طريق الترشيح الشفهي من شخص لآخر ومن شخص لمجموعة وهكذا، خصوصاً مع تبنيه رسالة واضحة بها دعوة لنشر شكل تدين إسلامي أكثر تسامحاً واتساع أفق على المستوى الظاهري والأخلاقي، وبسبب أجوائه العائلية الدافئة، فهو وثائقي يتعامل مع  الأرشيف الموثق من منطلق حميمي وليس جافاً أو تاريخياً، يستدعي «رسائل الشيخ دراز» النظر للوثائق الشخصية كمادة للاستكشاف العائلي للجذور وملء فجوات التاريخ الشخصي.

يدور «رسائل الشيخ دراز» بحسب عنوانه عن رسائل وأرشيف الشيخ محمد عبدالله دراز العالم والكاتب الأزهري الشهير الذي عرف بكتاباته المجددة لمنظومة الأخلاق القرآنية ورؤيته المنفتحة للدين الإسلامي.

يبدأ الفيلم بتوضيح أنه في بدايات القرن الـ20 أرسلت الحكومة المصرية بعثات تعليمية إلى فرنسا، كان أحد المستفيدين بها هو محمد عبدالله دراز، العنصر الرئيسي للفيلم الذي ستعمل معلومة سفره وتعليمه في باريس وتحديداً السوربون تيمة محورية في بناء شخصيته، يتحرك الفيلم من خلال الرسائل الخاصة إلى مناطق أكثر عمومية من حياة العالم، ومن خلال التناول الذاتي ينتقل إلى تناول عام يخلق خطاباً ورسالة واضحين للفيلم وليس مجرد تداع حر لشهادات العائلة عن رب أسرة ذي تأثير كبير على من عايشه ومن لم يره قط، لكن صورة منسقة عن شكل محدد محمود للشخصية الإسلامية ولرجال العائلات الكبيرة.

بدأت فكرة البحث في أرشيف الشيخ دراز من خلال مصادفة جمعت المخرجة ماجي مرجان أثناء تصوير فيلمها الأول «عشم» 2012 بنهى الخولي حفيدة ابنة الشيخ التي قامت بدور تمثيلي به، لاحظت ماجي الصور القديمة والأوراق في منزل نهى فتفتحت في ذهنها فكرة صناعة فيلم يبحث في رسائل الشيخ وتاريخه الشخصي والعائلي.

في مشاهد الفيلم الأولى تجمع نهى الخولي أوراق الشيخ دراز الذي لم يلقَ ورقة أو يتخلص من قصاصة قط على طاولة تغطيها الرسائل والمخطوطات واليوميات، تلتقط منها أمثلة تقرأها للكاميرا، بينما يقرأ صوت راوٍ احترافي (صدقي صخر) مقاطع من رسائل مرسلة لأفراد الأسرة في فترات زمنية متفرقة، تجمع نهى، التي نرى الفيلم من خلالها قبل أن يتحول لشخصيات وموضوعات أخرى، أفراداً من أجيال مختلفة لعائلة دراز، أحفاداً يدرسون أو يعملون في الخارج نراهم عبر شاشات الكمبيوتر وأولاداً وأنسباء نراهم في محافظات مصرية مختلفة، الكل يدلي بتجربته الشخصية المباشرة أو السماعية عن الرجل الذي جمع بين كونه عالماً جليلاً ورب عائلة رفيقاً حنوناً، استطاع أن يجعل 10 أولاد خمسة من كل نوع على علاقة جيدة في حياته ومماته، مما انعكس على أجيال متلاحقة للعائلة نفسها.

مشهد من فيلم «رسائل الشيخ دراز» 2024

«رسائل الشيخ دراز» هو فيلم عن العائلة من العائلة، لكنه يتبنى شكلاً غير معتاد من صناعة الوثائقيات المعاصرة خصوصاً تلك التي تتناول الأرشيف العائلي أو الشخصي، وهو أن الراوي والمرشد لنا داخل الفيلم ليس مخرجة الفيلم بل شخصية داخله، يصبح الفيلم فيلماً ذاتياً لكن ليس من عيون ذاتية مباشرة بل بديلة، تخبرنا نهى الخولي أنها سوف تحكي عن جدها، في هذه الحالة تصبح عيوننا داخل الفيلم بجانب كونها أحد العناصر التي تقوم ماجي مرجان بإجراء مقابلات معها، يتخذ الفيلم صيغة كلاسيكية من المقابلات المباشرة والرؤوس المتكلمة حيث تجمع الشهادات لتكون صورة شخصية عن عنصر الوثائقي، وينقسم الفيلم إلى مقابلات عائلية ومقابلات عامة.

يعتمد «رسائل الشيخ دراز» على الشكل التفاعلي Participatory للفيلم الوثائقي بحسب تصنيف الباحث السينمائي بيل نيكولز، يعتمد الفيلم التفاعلي على تجميع أصوات الشهود لتكوين صورة موضوعية عن شخصية أو موضوع ما، وأحياناً ما يظهر صوت المحاور أو الصانع أو يصبح مراقباً يتلقى الأجوبة والاستنتاجات كما في «رسائل الشيخ دراز»، فهو فيلم مخلص لكلمات الشهود الذي اختارهم يعتمد عليهم وعلى رؤيتهم بوصفهم شهوداً أوليين مباشرين على حياة خاصة لشخصية عامة.

في النوع التفاعلي يصبح صانع الأفلام باحثاً أو عاملاً اجتماعياً يستجوب عناصره أو يستفزهم ويخرج منهم أو يستكشف من خلالهم معلومات وتصورات ذاتية، في رسائل الشيخ نحن لا نرى التفاعل بشكل فعال أو نسمع أسئلة بعينها بل يتم اختزال واستبعاد التفاعل على الشاشة لصالح تجميع مقتطفات من تأملات شخصية لأفراد العائلة وشخصيات أخرى عامة تستخدم لتعزيز السردية الرئيسية المتعلقة بالأسرة المثالية، وهو ما يمكن تصور حدوثه عندما تكون الأسرة هي الصانع وهي الموضوع لكنه في الوقت نفسه يجعل الفيلم دون عائد معرفي أو استكشافي، بل يصبح استعراضاً محدوداً للمادة الأرشيفية وتجميعاً لشهادات تصب جميعها لصالح الخطاب المحدد للفيلم.

الشيخ محمد عبد الله دراز

تتحول صيغة الفيلم من استكشاف أرشيف ملموس ومقروء منظم في حافظات وملفات ومحاورة الشخصيات، إلى رحلة اقتفاء أثر يتولاها اثنان من أبناء الشيخ: محسن وسامي اللذان يذهبان في رحلة حج لاقتفاء أثر أبيهما في منزله في فرنسا وفي صحن جامعة السوربون وشوارع باريسية عرفوها صغاراً، يتحدث الرجلان بمزيج من الفرنسية الجيدة والعربية غير المتأثرة بتنوع النشأة وازدواج الثقافة، يمتد الاقتفاء من الخارج في فرنسا وهي مرحلة دراسة ومعيشة محمد دراز وأولاده أثناء الحرب العالمية الثانية، إلى الداخل في مكان النشأة في محلة دياي قرب كفر الشيخ مسقط رأس الشيخ، يطرح الفيلم تلك النقاط الجغرافية من النشأة للدراسة حتى مدافن العائلة كنقاط لتقفي الأثر وإعادة التعارف وتركيب الحياة من الولادة للممات، وتساعد الرحلات المكانية في استدعاء الذكريات الشخصية للأبناء والأحفاد واختبارها للمرة الأولى للأجيال التي لم تعاصره أبداً.

يقدم الفيلم الأشخاص كما هم من دون تدخلات خارجية أو تفاعلية من مخرجته، التي تمثل شخصية إضافية خفية، لكن بذلك الطرح الذي يبدو موضوعياً يتكون خطاب ما، وليس مجرد نظم للذكريات والتصورات وفحص الأرشيف والخطابات، خطاب عن الشكل المثالي للأسرة الأزهرية أو ما يجب أن تكون عليه، خصوصاً في ما يخص أكواد الثياب الإسلامية الأكثر حرية أو أسلوب الحياة المعاصرة دون التطرق لأي سياقات سياسية أو اجتماعية واضحة، ودون التطرق للامتيازات الطبقية التي تخص تلك العائلة وحدها دون غيرها.

يستخدم الفيلم أدواته الرئيسية: الأرشيف والمقابلات لإيصال رسالته بأكثر الصور أمناً، فهو بورتريه لرجل عائلة من خلال تجميع قطع أحجية بشهادات أفراد عائلته وسيرته المستمرة، وهو في الوقت ذاته بورتريه تاريخي يدمج الأرشيف الشخصي بالأرشيف العام، تذكر من ضمن المعلومات العامة علاقة الشيخ بالسلطة في نطاق عابر من خلال عرض الضباط الأحرار عليه منصب إدارة مشيخة الأزهر ورفضه لأنه يرفض التحكمات المباشرة، وفي إشارة أخرى لاعتراضه على حذف بعض محتوى تسجيلاته لإذاعة القرآن الكريم، ويظهر في نقطة أخرى إهداؤه أحد كتبه للملك فاروق، يرسم الفيلم صورة محبة وبالطبع صادقة لعائلة عن عنصر مؤثر بها، لكن دون أن يدلف بأي شكل إلى أي تناقضات أو تعقيدات سواء بشكل شخصي أو تاريخي.

يستدعي الفيلم للشهادة أو للمقابلة شخصيات من خارج العائلة منها أساتذة ودارسون جامعيون استفادوا بشكل كبير من كتابات الشيخ دراز، أو شخصيات لها تاريخ من محاولات التجديد الديني مثل إبراهيم عيسى أو في شكل أكثر محافظة أسامة الأزهري، يطرح الفيلم تلك الشهادات كمقابل ضد شيء غير مسمى، يمكن الإحالة له بالجماعات المتطرفة، أو بالإسلام الأكثر جموداً، وعلى الرغم من سياسية هذا الطرح ودلالته المثيرة للجدل التي يمكن أن تخرج الفيلم من شكله العائلي الطيب، فإنه يبتعد عن توضيح الدلالات تماماً، فلا يضع وجهتين للنظر في محاورة، بل يكتفي بجعل اللقاءات شهادات حب في رجل يتخطى تأثيره الدراسات الدينية الأكاديمية.

يتسلل خطاب الفيلم بنشر شكل أكثر تسامحاً عن الإسلام والدراسة الأزهرية بطروحات مثل تقبل الشيخ للغرب وعلاقته التكاملية مع الثقافة الغربية والأوروبية، مما يحيد أشكال مقاومته في ثورات مثل 1919 أو ينفي أي تعقيدات داخلية تتعلق بالاستعمار والعلاقة معه.

يعد الفيلم من بدايته باستكشاف موسع للأرشيف الشخصي من رسائل ويوميات لكنه في النهاية يستخدم محتوى محدوداً جداً يخدم الخطاب الرئيسي، بوضع عائلة الشيخ كمثال العائلة الأزهرية أو العائلة الإسلامية، المحدد جداً طبقياً: دراسة فرانكفونية وتعليم يعلي من الثقافة والفن والتفتح، ذلك الشكل العاطفي من رواية السيرة أو التفاعل العائلي يجعل مجهودات الفيلم الاستقصائية تمر دون اكتشافات، بل تدور حول ما هو معروف سلفاً وغير مختبئ لكي يتم نفض الغبار عنه.

ينجح الفيلم في تجميع فروع متعددة من شجرة عائلة مترامية الأطراف في مجهود مخلص ومحب لرد الجميل لرجل اهتم بنقل أسرته طبقياً وتعليمياً من بلد إلى أخرى «نقل أسرة كاملة من تسعة أولاد وزوجة من مصر إلى فرنسا»، مما وضع الأجيال المقبلة في مستوى ثقافي واجتماعي متميز، كما أن خفة الشخصيات التي تتصرف على طبيعتها بأريحية واضحة أمام الكاميرا، وأفعال لم الشمل وإعادة الاكتشاف تضفي دفئاً صادقاً على الفيلم، لكن تلك الخفة تحديداً بجانب سيطرة أفراد العائلة على النصيب الأكبر من الشهادات في الفيلم هي ما تجعله فيلماً آمناً ولطيفاً ومحافظاً، على الرغم من طبيعة الشيخ المتفتحة غير التقليدية، بينما على مستوى الاستقصاء أو رسم صورة تاريخية غير عائلية فإن الفيلم لا يخدش السطح أو يتعمق إلى داخل أي نواح معقدة بشكل عام أو خاص.

# فن # سينما # السينما المصرية

بين الحزن والانتظار: فيروزية المشرق ومشرقية فيروز
فيلم «أبو زعبل 89»: عن مصر التي نعرفها
فيلم «The Apprentice»: الحقيقة وراء دونالد ترامب

فن