يرتبط التحليل والنقاش حول فيلم «المخدوعون» 1972 ومخرجه توفيق صالح على الدوام بالمحتوى السياسي، الجدل حول المنع والرحلة الشاقة لصناعة الفيلم مثل معظم أفلام مخرجه، للفيلم المبني على رواية «رجال في الشمس» 1963 لغسان كنفاني تاريخ من العقبات، عقبات حالت دون إنتاجه في مصر ثم عقبات أثناء محاولات تنفيذه في سوريا، ثم صعوبات في عرضه ومنعه رقابياً، تسمح طبيعة الفيلم والرواية السياسية بتحليلات أيديولوجية لا نهائية، فهو وأصله الأدبي أعمال عاجلة، ضرورية قبل أن تكون أعمالاً فنية أو جمالية، هي أعمال ذات أبعاد رمزية مباشرة، تدين وتشجب وتغضب، تحمل المسئوليات وتفكك الهزيمة وواقعها، لذلك يصعب التعامل معها كمكونات ذات أبعاد جمالية مجردة، ومن ثم يندر تناولها من ناحية أسلوبية أو شكلية، لغلبة الموضوع على التفاصيل التقنية، لكن الرواية أو الفيلم حتى وإن اُختير لهم تقشف أسلوبي فإن ذلك هو خيار جمالي في النهاية.
«المخدوعون» هو سادس أفلام توفيق صالح المخرج المصري الذي لم يصنع فيلماً في حياته دون معوقات، كل فيلم هو قصة من الصراعات الرقابية والفنية، واقتباسه رواية كنفاني يعد واحداً من أشهر تلك الصراعات، بعدما تعذرت صناعة الفيلم في مصر انتهى الأمر بإنتاجه تحت إشراف المؤسسة العامة للسينما في سوريا، للفيلم سمعة تتعلق بكونه من أوائل الأفلام التي تناولت أحداثاً متعلقة بالنكبة الفلسطينية وصولاً إلى المهرجانات والأعين خارج العالم العربي، عرض في مهرجان موسكو حيث حصل على جائزة فرعية للسلام وعرض في نصف شهر المخرجين في «كان»، وغيره من المهرجانات عربياً وعالمياً، لكنه لا يزال فيلماً يوصف بأنه «ممنوع»، بشكل رئيس بسبب تحويل صالح لكتابة كنفاني حول الخذلان العربي لفلسطين إلى صور، صور أرشيفية مُدينة بشكل مباشر لحكام وجوههم موثقة في شريط سينمائي، ناقلة الفيلم من طبيعته الروائية ليصبح أقرب لمونتاج حر يدمج التوثيق بالسرد الروائي لأهداف سياسية.
تدور أحداث «المخدوعون» حول ثلاثة رجال فلسطينيين من أعمار مختلفة، أبو القيس (محمد خير حلواني) رجل مسن ذهب إلى نهاية طريقه من دون تأمين مادي لحياته، وأسعد (بسام لطفي) شاب يائس من محاولات الحياة تحت الاحتلال الإسرائيلي ومحاولات الهروب الفاشلة، ومروان (صالح خلقي) ولد مراهق يضطر إلى السفر لكسب العيش بعد توقف أخيه عن إرسال الأموال لذويهم، يلتقي الثلاثة في البصرة في محاولات للذهاب إلى الكويت حيث الكسب السريع والعمل السهل، لكن طريق الخلاص تحفه مخاطر لا نهائية، مهربون محتالون وشمس حارقة وشرطة على الحدود وغيرها من مخاطرات.
مشهد من فيلم «المخدوعون» 1972
يلتقي الثلاثة مهرباً فلسطينياً يدعى أبو الخيزران (عبدالرحمن آل رشي)، وهو رجل ذو روح عدمية، يصوره الفيلم بشكل معقد فهو أحد أسباب معاناة الرجال الثلاثة لكنه لا يملك تجاههم نوايا سيئة في الوقت نفسه، كما أن له قصة هزيمته الخاصة إذ ترك القتال بعدما أصيب واتجه للعمل في التهريب وانتفى لديه كل هدف إلا الخلاص الفردي والتكسب من خلال ذلك، تتحرك الأحداث في الرحلة من البصرة إلى الكويت، حيث يضطر الثلاثة إلى المكوث في صهريج بالغ السخونة تصبح نجاتهم داخله مقامرة على الحياة نفسها.
من الخارج بنظرة عامة على قشرة الرواية والفيلم المقتبس عنها، فإننا أمام حكاية عن الخذلان وعن التجاهل التام للمعاناة، تهمة موجهة بشكل صارم للبلدان المجاورة لفلسطين، لشكل محدد من القومية العربية، في الوقت نفسه فإن صناعة فيلم مثل هذا قوبلت بالخذلان، بالنبذ والمنع على الرغم من إمكانية قراءته بسيولة وحرية أكبر من كونه مجازاً عن التخاذل «العربي»، فإن كلاً من الدول التي تجنبت التورط مع الفيلم ومخرجه، اختارت طريقاً آمناً ومكرراً في تهميش التناول المباشر للقضايا الإشكالية، في «المخدوعون» الأعداء كثر، هم الاحتلال نفسه والحكام العرب المجاورون والمهربون المخادعون، لكن العدو الأول بطل عنوان الرواية «رجال في الشمس»، يصارع الرجال الثلاثة ضد عنصرين: الطبيعة الصحراوية وأشعة شمس أغسطس التي لا ترحم، والرجال الذين يستغلونهم في كل خطوة من أول رجال الاحتلال نفسه حتى ما ترتب عليه من إخفاقات سلطوية عربية على نطاق أوسع، وعلى نطاق محدود الرجال المهربون الذين يسلعون الحياة البشرية من أجل الكسب والذين يمكن اعتبارهم ضحايا الاحتلال كذلك.
يقع «المخدوعون» في مساحة تمثيلية Representational وإنتاجية غرائبية، يعمل الفيلم في حقيقة وجوده المجردة مجازاً متكاملاً، إذا ملنا نحو تفسيره بشكل رمزي، فهو حالة من التعاضد العربي في فيلم عن الخيانة العربية، كما أن ذلك التعاضد سرعان ما يتحول إلى تخلٍ عندما يتضح أن محتوى الفيلم إشكالي من الناحية السياسية بإدانته المباشرة للسلطات العربية، «المخدوعون» هو فيلم عن ثلاثة لاجئين ومهرب فلسطينيين، تقع أحداثه ويتم تصويره في البصرة العراق، بإنتاج وممثلين سوريين وفلسطينيين وإخراج مصري.
مشهد من فيلم «المخدوعون»
لدى كنفاني في «رجال في الشمس» روح واجمة مظلمة تماماً لا ترى النور أو الأمل، يصعب تصور أن تذهب روايته لأي مكان غير الموت، ينظر للهزيمة باعتبارها هزيمة فقط، دون محاولة للخروج منها أو تصور مستقبل بديل، بالتبعية يصنع توفيق صالح امتداداً لتلك الرؤية أسلوبياً وموضوعياً، يظهر «المخدوعون» مثل «رجال في الشمس» فيلماً عن الموت، ليس بشكله المجرد لكن في سياق بالغ التحديد، فهو عن موت اللاجئ، عن حتمية الموت، إذا لم يكن في معركة أو غارة فسيكون على الطريق، إذا لم يكن برصاصة جندي محتل أو مستوطن فسيكون بعناصر الطبيعة نفسها، بحرارة الشمس وسخونة الرمال، تصبح رحلة الخلاص رحلة إلى الموت.
يصور كنفاني قسوة العناصر الطبيعية وعنفها على لسان شخصياته التي تلعن الحرارة وتلعن القدر وتتساءل حتى عن وجود إله يخلص عباده من المعاناة، في «المخدوعون» ينتقي صالح بعضاً من الجمل التي تذكر على ألسنة الشخصيات لكن لا يعتمد بالكامل على الرواية الذاتية ويعتمد بشكل أكبر على سرد عليم ينظر إلى الأحداث تحته، في سيولة سينمائية نادرة في الأفلام التي تتسم بالمباشرة السياسية، يعتمد صالح على تداع بصري وسردي، تتداخل الأزمنة بشكل اعتباري من دون تصميم بنائي يشبه المشاهد الاسترجاعية Flashback، بل إن الاستعادة تحدث وكأن كل شخصية تفترش ذاكرتها أمامنا وتتحرك للأمام وإلى الخلف داخل الزمن بحرية، في شكل يجعل تأثير حرارة الشمس أكثر قسوة، فالفيلم كله يعمل وكأنه نوبة هلوسة لمجموعة أناس يمضون الساعات الأخيرة في حيواتهم.
يقتبس صالح النص الأصلي بشكل لصيق يسير بمحاذاة كلماتها جنباً إلى جنب، لكن الوسيط نفسه يعطيه مساحة أكبر لاستكشاف إيماءات لا تنتج إلا عن طريق النظر، يصنع الفيلم علاقة حميمية بين أبطاله الثلاثة كل من عمر وخلفية مختلفة، كل واحد له قصة دعته لذلك الهروب وكل واحد منهم سوف يفقد حياته في مرحلة مختلفة وكأنهم إذا نظرنا للرواية باعتبارها تخيلاً رمزياً يمثلون فرداً واحداً يعيش خيارات عدة، لكن الفيلم يظهرهم أشخاصاً حيويين تربطهم بشكل متماسك تجربة جسدية واحدة، تتمثل بشكل بصري في مشاهد خروجهم من الخزان للراحة ثلاثة أجساد رجولية هزيلة لا ترتدي شيئاً عدا ما يغطي عوراتها في حالة تامة من الهشاشة والتفهم المشترك، يستند كل منهم على الآخر في شكل يبني تكويناً وتصميماً بصرياً جمالياً بالغ الرقة والحزن في انتظار الذهاب للجحيم مجدداً.
مشهد في فيلم «المخدوعون»
يعتمد الفيلم خلق بيئة بصرية غير وظيفية، لا تضيف بشكل مباشر لتسلسل الأحداث، يلتقط مدير التصوير بهجت حيدر غصون الأشجار والزيتون وأشعة الشمس، يتمهل أثناء نظره إلى البيئة المحيطة، في لقطات واسعة تتضاءل بجانبها مصائر البشر، تبدو الطبيعة ناعمة وقاسية، باعثة على الموت والحياة في الوقت نفسه، تميل «رجال في الشمس» إلى حواري من الرواية وصفها كثيرون بأنها سيناريو جاهز لفيلم سينمائي، حتى إن كنفاني كتب الحوار وشارك في السيناريو الفيلمي، لكن فيلم توفيق صالح لا يسلك بالضبط الإطار الحواري الجاهز، بل يصبغه بشكل أكثر ملاءمة للوسيط السينمائي، بشعرية بصرية تسمح للصور أن تحتل مساحة مجردة من الأحداث.
تتمحور كثير من المقارنات بين رواية كنفاني وفيلم صالح حول تغيير رئيس ومحوري، وهو تغيير حدث النهاية وسؤال أبو الخيزران المليء بالحسرة: «لماذا لم يدقوا جدران الخزان» وهي الجملة التي يتكرر صداها حتى تنتهي صفحات الرواية، يحوي السؤال ندم الشخصية الذاتي كما يحوي تساؤلاً حقيقياً حول إمكانية تغيير القدر، هو لوم مبطن للهاربين الثلاثة، يستبدل توفيق تلك الصيغة الكلامية للحيرة بصيغة وخيار سردي آخر، نسمع ونرى بأعيننا دقات خافتة مرهقة داخل جدران الخزان بينما يحتجز موظفو المكتب الكويتي أبو الخيزران ويحاصرونه بأسئلة شخصية عديمة الفائدة، يطرح توفيق شكلاً بديلاً للخذلان، وهو محاولة النداء دون رد، يمحي بذلك التساؤل ويضع مكانه جواباً، نعرفه نحن ولا يعي بحدوثه أبو الخيزران، يجعل الفيلم من المشاهدين شهوداً على محاولات المقاومة، ويستبدل ما سماه البعض إدانة كنفاني للاجئين بنظرة أكثر تعاطفاً معهم ربما تطورت مع مرور الوقت بين الرواية والفيلم.
«المخدوعون» هو تجربة سينمائية ابنة وقتها لكنها بلا وقت، يعمل كوثيقة من الماضي يمكن إسقاطها على الحاضر بشكل أكثر آنية وأكثر رسمية كذلك، العمل في التهريب نفسه عمل يائس، فالخطر على المهرب ليس معدوماً، أن تنقل أجساداً من بلد لآخر مقابل أموال هو صنيعة استعمارية مستمرة لعقود، في وقتنا الحالي يمكن رؤية ذلك بشكل أكثر نظامية، فالمهربون ليسوا بدورهم ضحايا للاحتلال والنظام التراتبي الذي لم يترك لهم خياراً بل هم جزء من الأنظمة نفسها.