فن

فيلم «أحلى الأوقات»: رحلة للهروب من الحياة العادية

ما السبب الذي جعل فيلم «أحلى الأوقات» يحتفظ بمكانه في القلوب والأذهان بعد 20 عاماً من عرضه كفيلم راحة يعيد الجمهور مشاهدته مراراً دون ملل؟

future مشهد من فيلم «أحلى الأوقات» - من اليمين، الفنانات: منة شلبي، هند صبري، وحنان ترك

تراكم بعض الأفلام جماهيرية ومكاناً في الثقافة الشعبية والوعي الجمعي بعد سنوات من العرض التلفزيوني والتكرار، تأخذ أشكالاً أخرى وتكوِّن حياة مستقلة عن صناعها وظروف عرضها ونواياها الأصلية.

أتاحت العروض التلفزيونوية في سنوات ما قبل منصات العرض بالطلب والاشتراكات الشهرية نوعاً من التحديد على طبيعة المشاهدات، حفنة من الأفلام تعرض مراراً، بعضها يُمل منها وبعضها تصبح أفلاماً مريحة تتواجد في خلفية الحياة، فتثبت موسيقاها في الآذان وجملها الحوارية في الأذهان، يصعب الآن تكوين ذلك التراكم نظراً لسرعة التغيير والمحتوى دائم التجدد والوضع العام من الخيارات المفرطة من بلدان عدة.

أحد الأفلام التي طورت حياة لذاتها خارج التوقعات هو فيلم «أحلى الأوقات»، من كتابة وإخراج هالة خليل، يمكن مقارنة استمراريته وكونه كلاسيكية معاصرة بأفلام من بطولات نسائية أخرى، مثل «حب البنات» المعروض في العام نفسه 2004، لكن بفارق رئيسي هو أن الأخير ينظر له باعتباره متعة مخجلة Guilty Pleasure، هو فيلم مرح وقابل للتكرار، لكن يصعب أن ينظر له باعتباره منتجاً فنياً يعبر عن وقته وسياقه المجتمعي.

في حين أن «أحلى الأوقات» يجمع عدة مكونات للمتعة المخجلة، فهو فيلم ليس بالضخم أو الثوري، فيلم بسيط نسائي يمكن وصفه بـChick Flick كما اصطلح على تسمية الأفلام الموجهة لجمهور من النساء بشكل تهكمي تقليلي، يسهل تكراره عشرات المرات لسهولة استيعابه واستهلاكه، لكنه يملك داخله سمات فنية وإخراجية مميزة، ويمكن وضعه داخل سياقه المجتمعي فيما يخص حيوات ثلاث نساء من طبقات مختلفة في أحد أعوام منتصف الألفية.

البحث عن الذات

يمكن اعتبار كل القصص بشكل أو بآخر رحلات للبحث، سواء احتوت القصة - أياً كان وسيطها - رحلة انتقال أو سفر بشكل حرفي أو كانت رحلة داخلية في النفس للبحث عن الذات أو عن قيمة ما مادية أو معنوية، تأخذ بعض الأفلام شكلاً أكثر وضوحاً في تصوير رحلات البحث تلك، ويصبح الداخلي خارجياً عن طريق وضع الأبطال في رحلة سفر على غرار الأوديسا، الرحلة الأشهر في القصص الإنساني، من شكل الرحلة المجازي وُلِد نوع «فيلم الطريق - Road Film»، الذي يمكن وصفه بالنوع الأمريكي نظراً لبروزه هناك في الطرق المترامية بين الولايات، وطبيعة التحركات على الدراجات البخارية وعربات النقل الصغيرة.

فيلم «الطريق» هو صيغة سينمائية احتل مساحتها الرجال لفترة طويلة، فالسفر في ذاته هو ممارسة رجالية قديماً، مع الوقت انشق من النوع نوع متفرع لأفلام الطريق النسائية التي أشهرها فيلم «ثيلما ولويز - Thelma And Louise» الذي يعمل كرحلة في سيارة لبطلتيه عبر الولايات المتحدة بجانب كونها رحلة انتقام نسوية من مجموعة من الرجال المغتصبين، بعد ثيلما ولويز أصبح فيلم الطريق بلا جنس، وازداد عدد أفلام الطريق النسائية، التي تجمع بين الرحلة الحرفية من مدينة لأخرى والرحلة المجازية للبحث عن الذات.

فيلم «أحلى الأوقات» هو من أفلام الطريق المصرية المعدودة، وخاصة النسائية منها. يعمل «أحلى الأوقات» كرحلة متعددة المكونات لامرأة تدعى سلمى (حنان ترك) تعيش حياة متوقفة تقريباً بعد وفاة والدتها واضطرارها للبقاء في منزل كبير مع زوج والدتها (سامي العدل) الذي تجمعها به علاقة باردة، ويتضح أن ذلك السكون يجري من فترة حتى قبل الحدث الأول في الفيلم، وهو حدث الوفاة، تعيش سلمى في طبقة جديدة غير طبقة طفولتها منذ تزوجت والدتها طبيباً ثرياً، انتقلت من شبرا إلى المعادي وقطعت علاقتها بالماضي تماماً، بالأصدقاء بالطعام وبالشوارع بناءً على رغبة لوالدتها في قطع تلك الصلات، ربما للتخلص من ذكرى زوجها السابق ووالد ابنتها الذي تخلى عنهما لعلاقاته المتعددة.

تبدأ رحلة سلمى المعدة سلفاً مع بداية الفيلم ووصول الخطاب الأول لمنزلها يحوي شريط كاسيت لمجموعة متنوعة من أغاني محمد منير، ثم الخطاب الثاني المتضمن صورة لها مع صديقاتها من العالم الآخر، عالم مدرستها في شبرا وحياتها السابقة.

مشهد من فيلم «أحلى الأوقات»

يخوض الفيلم رحلته الأولى كفيلم طريق داخل المدينة نفسها من حي لآخر، ومن طبقة إلى أخرى، ومن الحاضر للماضي، يؤطر تلك الرحلة وجود سلمى في سيارتها معظم الوقت، تستمع لشرائط الكاسيت وتتنقل في مساحة آمنة إلى ماضيها وطبقتها الأصلية، تنسلخ سلمى من عزلتها بمقابلة أشخاص من حياة نسيتها، يعيشون حياتهم القديمة دون تحولات كبرى، بالطبع مع وجود بعض الصور النمطية عن حيوية المناطق الشعبية مقابل جمود المناطق الثرية.

من خلال الرحلة الأولى تبدأ حياة سلمى في الامتلاء، تستعيد نفسها وتتعرف عليها شيئاً فشيئاً، ومن خلال رحلتها هي في البحث عن الذات تتغير حيوات صديقاتها السابقات، كذلك يسرية (هند صبري) التي تعيش زواجاً راكداً، وضحى (منة شلبي) التي توقظ حلمها بالتمثيل بعدما ارتضت التخلي عنه من أجل خطيبها الغيور.

يأخذ الفيلم طابع فيلم «الطريق» بشكل أوضح قرب نهايته، عندما تقرر الصديقات الثلاث القيام برحلة من القاهرة للإسكندرية، من مدينة لمدينة بحثاً عن والد سلمى البيولوجي، وفي أثناء الرحلة تعرقلهن معوقات مثل تعطل السيارة ونشوء الخلافات بين الثلاثة، وتبادل اتهامات الصديقتين لسلمى التي تبحث عن حيوية الحياة باستغلال صديقاتها من طبقة اجتماعية أقل حظاً، لكن مع كل تلك التفصيلات الدقيقة لديناميكة العلاقة بين ثلاث نساء من طبقات اجتماعية وثقافية متعددة لا يفقد الفيلم خفته التي اكتسب منها سمعته كـ فيلم راحة - Comfort Film، مهما علت وتضخمت الخلافات يصل الثلاثة لتفاهم ما، تساعد كل منهن الأخرى في معرفة ذاتها أكثر والتوصل إلى حلول حياتية تحرك الركود وتصنع مساومة مرضية حتى إن لم تكن مثالية.

مشهد من فيلم «أحلى الأوقات» 2004

النظرة الأنثوية

يحتفظ «أحلى الأوقات» بمكانه كفيلم راحة يعيده مشاهدوه مراراً، خاصة من النساء لأسباب عدة، منها خفته والتراكم الذي جعل من بعض اقتباساته جزءاً متصلاً باللغة الدارجة، كذلك استخدام شريط الصوت الذي يدمج بين أغنيات محمد منير النوستالجية مع موسيقى تصويرية أصلية ناعمة من خالد حماد، تمتزج مع صور الكاميرا الـ 8 مللي التي تستدعي ذكريات ربما لم يختبرها بعض المشاهدين من أجيال وأعمار مختلفة، لكنها أصبحت علامات بصرية راسخة للحنين، خاصة الحنين للحظات الزائلة الموثقة بشكل حصري على وسيط يصعب نقله مثل كاميرات الفيلم.

يحتفظ الفيلم بمكانه في القلوب والأذهان، كذلك بسبب قلة أفلام الصداقات النسائية المروية بعيون النساء، هنالك أفلام عديدة تحكي عن صداقات نسائية مثل «بنات وسط البلد» وأحلام هند وكاميليا» لمحمد خان، وعلى الرغم من رقة وشعبية تلك الأفلام فإنها لا تخلو من نظرة غير نسائية تتخطى تفاصيل عادية لصالح تفاصيل أكثر إثارية.

تميز نظرة «أحلى الأوقات» نزعة متمهلة وبطيئة تتخلل أحداث رحلة الفيلم المتسارعة، يظهر ذلك من مشهد بدايته الذي يصور نجوى (مها أبو عوف) والدة سلمى في يوم عادي وهادئ دون كلام تقريباً تقرأ الجريدة، تتجول في منزلها، تحتسي الشاي، وفي النهاية تفقد شالها للهواء ليستقر على شجرة، فتراقبه الكاميرا للحظات بعدما تسقط نجوى في محاولة استرداده، تتكرر تلك اللحظات المتمهلة مراراً في تفحص للمساحات الداخلية التي غالباً ما تحتلها النساء وتصبح مع الوقت بجانب اللقطات الأكثر شهرة وصخباً، مثل مشاهد الغناء في الشارع أو الخلافات الزوجية العنيفة، أجزاءً من نسيج سينمائي يموضع حكايات عادية غير إثارية أو مشهدية لثلاث نساء في لحظات مفصلية من حيواتهن، دون محاولات لخلق ميلودراما بكائية من الخيانات أو العلاقات المتشابكة.

يلتزم «أحلى الأوقات» من بدايته لنهايته بخلق وضع حكائي يستدعي الحنين أثناء مشاهدته وبعد عشرين عاماً من المشاهدة الأولى.

يتعامل «أحلى الأوقات» كذلك مع مفهوم العائلة البديلة أو المختارة، كل واحدة من الشخصيات الرئيسية تهرب من عالم عائلتها الأصلية بشكل أو بآخر لكي تجد العزاء في عائلة بديلة متمثلة في مجموعة الأصدقاء، باستدعاء ماضٍ لم يعد هو الحياة الحقيقية بل شذرات منها، لتشارك كل منهن في أسرة مختارة بالكامل دون اضطرار أو داعٍ لتأدية الأدوار المقبولة مجتمعياً لهن كأفراد من أسر تقليدية أو كنساء تقليديات بشكل ما، تتفاوت بينهن المخاطرة عندما يذهبن لرحلات طريق، يسرية تخاطر بخسارة زواجها، وضحى تخاطر بخلخلة علاقتها بأهلها وخطيبها، بينما تتمتع سلمى ببعض امتيازات الوحدة بجانب امتيازات الطبقة، فهي التي تمتلك السيارة والقرار، تفتح تلك الأسرة المختلقة أفقاً لحيوات مختلفة وخيارات أكثر سعة ذاتياً ومكانياً، ولأن الفيلم يلتزم بكونه فيلماً بسيطاً ذا نهاية سعيدة، فإن مشاهدة تلك الأسرة وهي تتكون تمثل ملاذاً خارجياً لمن يتعامل مع المشاهدة كمكان لتصور حيوات مختلفة، في أطر عادية دون أحداث كبرى، فقط إمكانية الهروب من المحددات المجتمعية والواجبات المنزلية.

يحتفظ فيلم «أحلى الأوقات» بعد عشرين عاماً من عرضه في نهايات مارس 2004 بمكان ضمن مجموعة من الأفلام التي يلجأ إليها الكثيرون والكثيرات للصحبة وللاطمئنان، وربما الحنين لماضٍ ليس حقيقياً، يفتح المساحة لتصور الهروب المؤقت من الحياة العادية لحياة أخرى داخل العوالم الفيلمية أو خارجها.

# سينما # مراجعات سينمائية

فيلم «أبو زعبل 89»: عن مصر التي نعرفها
فيلم «The Apprentice»: الحقيقة وراء دونالد ترامب
الهوى سلطان: أن يصنع الزمن مأزقاً رومانسياً

فن