في عام 1997، أعلن هاياو ميازاكي المؤسس المشارك لاستوديو جيبلي والمخرج والمحرك الشهير اعتزاله صناعة الأفلام بعد صدور فيلم «الأميرة مونونوكي» Princess Mononoke، أحد أنجح أفلام الرسوم المتحركة في شباك التذاكر الياباني.
وفي عام 2001، أعلن هاياو ميازاكي اعتزاله صناعة الأفلام بعد صدور فيلمه الأشهر «المخطوفة بعيدًا» Spirited Away، مصرحًا بأنه ليس قادرًا على صناعة فيلم طويل آخر.
وفي عام 2013، أعلن هاياو ميازاكي اعتزاله الذي بدا نهائيًا بعد صدور فيلمه «الريح ترتفع» The Wind Rises، مصرحًا بأنه سوف يكون رجلًا عجوزًا أحمق إذا قال إنه قادر على صناعة فيلم جديد.
اعتاد جمهور ميازاكي عدم أخذ تصريحاته بجدية بعد تراجعه عنها في كل مرة. أصبح اعتزاله مزحة بين جمهور السينما، فهو رجل على قدر عبقريته قلِق للغاية، بالنسبة له صناعة فيلم هي عملية مضنية يتمنى الخلاص منها.
لكن بعد عرض «الريح ترتفع» الذي يمتاز بصيغة أقل سحرًا وخيالًا من كل أفلام مسيرته، كان من المقنع والمنطقي أن يكون فيلمه الأخير، فهو فيلم يسترجع أيام الحرب التي عاشها ميازاكي، كما أنه يتأمل علاقته بأبيه وبالفاشية وبطبيعة صناعة الأشياء، وارتباط الإبداع الكبير بالشر الكبير. بدا «الريح ترتفع» كمرثية ونهاية مرحلة ما وأصبح لسنوات هو الفيلم الأخير لميازاكي الذي وصل عمره لقبيل منتصف الثمانينيات.
لكن بعد عشر سنوات كاملة أعلن صناعته فيلما جديدا، في خطوة لم تفاجئ أحدًا. لكنه وعلى الرغم من تكرار السيناريو ذاته، فإنه فيلم نُظر إليه كمرثية جديدة مثلما استُقبل «الريح ترتفع»، مع إشارات أكثر لكونه فيلم وداع، إذ أعلن قبل ظهور أي لقطات مبدئية عن عنونته «كيف تعيش؟»، وهو عنوان رواية لجينزابورو يوشينو «كيفية العيش» التي اتخذها ميازاكي سمة لموضوعه عبر صيغ متعددة، كيف نعيش مع الطبيعة، مع الحرب، مع الفقد.
تقرّر عرض الفيلم دون إعلانات ترويجية، وتم تغيير اسمه من الطابع المجرد لـ«كيف تعيش»، إلى اسم أكثر سهولة للجمهور العالمي، وهو «الفتى ومالك الحزين» The Boy and The Heron. قبيل عرضه، صدر إعلان تجاري وشى بكون الفيلم يعود لجذور ميازاكي الواقعية السحرية؛ أجساد تتحلل عند لمسها، كائنات بيضاء ظريفة، كهوف تؤدي الى عوالم أخرى، وفي وسط كل شيء، طفل يتعلم كيف يعيش الحياة.
بعد عدة عروض في مهرجانات سينمائية، صدر الفيلم في دور العرض التجارية. وفي سابقة نادرة الحدوث، عرض في الشرق الأوسط وفي مصر. لاقى الفيلم استحسانًا نقديًا وجماهيريًا، ومالت معظم المقالات التي كتبت عنه للإشارة إلى أنه ليس أفضل أفلام ميازاكي، وحتى إنه يمكن اعتباره رحلة استعادية لمسيرته بأكملها، لكن مع اعتبار الفيلم هو فيلم الوداع نظرًا لسن ميازاكي وطبيعة الفيلم. فقد أصبح هذا مكونًا رئيسيًا في تلقيه وتحليله، وخرج من كونه مجرد فيلم آخر بعد اعتزال إلى كونه رسالة نهائية من مبدع خالد للأجيال من بعده، وأغنية وداعية لعالم ينهار ويحل محله عالم جديد.
كيف تعيش بعد الفقد
يسرد «الفتى ومالك الحزين» قصة ماهيتو، فتى في سن قبيل المراهقة ينتقل إلى منزل خالته التي تزوجها أباه بعد وفاة والدته في حريق مروع في مشفى أثناء الحرب العالمية الثانية. ماهيتو فتى هادئ يجد صعوبة في التأقلم مع حياته مع والدته الجديدة ومع إهمال أبيه إلا في ما يخص الأمور المادية.
يصيغ ميازاكي القسم الأول من الفيلم بإيقاع هادئ ومقلق. هنالك خطر معلق في الهواء، ورائحة الموت تغطي كل شيء، تمضي الأيام ببطء ورتابة لا يحركها إلا زيارات غريبة لطائر مالك الحزين ضخم يتبع ماهيتو نحو نافذة منزله وحول الحديقة. وقبيل انتقال الفتى من عالمه العادي القاتم إلى عالم ملون كثيف الأحداث، يجد كتابًا تركته له والدته ليقرأه حينما يكبر، عنونته «كيف تعيش»، ومن هنا يبدأ تعلم كيفية العيش، في زمن الحرب والفوضى وانعدام المعنى.
تشرع الأحداث تتحرك كعادة أفلام ميازاكي نحو بوابة بين عالمين، زائر يأخذ البطل إلى الجانب الآخر الذي يظهر في هذا الفيلم بشكل حرفي كعالم موتى فعلي، ليس عالمًا مجازيًا يصعب تفسيره، بل هو عالم مقلوب لعالم ماهيتو الحالي، عالم مكتظ بكائنات متعددة تتآمر عليه أو تساعده. يبدأ انتقاله بعد اختطاف خالته من قبل الطائر الذي يتضح أنه رجل خيالي غرائبي، وبالتدريج يجتذبه إلى عالم متكامل يتزاحم به الأعداء والأصدقاء، ويتفتح الماضي أمامه لينير مستقبله بشكل أوضح.
يتحول الفيلم من سكونه الأول لحظة دخول ماهيتو للعالم تحت الأرضي إلى فوضى عارمة، مزدحمة بالأحداث والكائنات والمفاهيم. عالم يلقي به ميازاكي كل أفكاره البصرية والمجازية الممكنة دون تروٍّ أو اتزان. تخدم كل تلك الأفكار البصرية والسردية فكرة استئصال ماهيتو من عالم الحرب الأرضية إلى عدة حروب تحت أرضية تفتح أمامه مفاتيح لمحاولة الحياة مجددا بعد الفقد، وتخرجه من الصبا إلى النضج بعنف الحرب والموت، وهناك يقابل نسخا متعددة مما يعرفه في عالمه. في هذا العالم تكتسب الأحداث التي مر بها على الأرض معانٍ جديدة؛ يرى والدته في نسختها كطفلة في سنه، تتحكم في النيران التي أودت بحياتها لتساعد الكائنات الصغيرة لتولد في العالم العادي، يصبح عنصر الدمار مصدر قوة، وسبب الموت أداة للحياة.
يصيغ هاياو ميازاكي في فيلمه مئات الشخصيات والمجموعات المختلفة، طيور ضخمة تتحرك مثل جيش لها ملك يظهر بملابس ملكية من عصر النهضة، مجموعة من الكائنات اللطيفة التي يتضح أنها نطفات على وشك الحياة في العالم الآخر، وطيور تتغذى عليها لتأكلها. يعتمد توازن ذلك العالم على مجموعة من المكعبات الخشبية يتم ترتيبها وتتحكم في الاستقرار أو انهيار واضطراب كل شيء.
في تلك الرحلة الغرائبية التي تبدو وكأنها تمر على مجموعة متعددة من موتيفات ميازاكي (الأفكار المتكررة في أعماله) دون تركيز على تصميمات محددة أو مفاهيم واضحة، يتعلم ماهيتو طبيعة الفقد وتخطيه. يملأ العالم المتخم بالتفاصيل والأحداث حياته ليرى كل شيء من منظور آخر، كل ما يعرفه يجد انعكاسًا له، تخبره والدته الصغيرة أنها سوف تكون محظوظة أن تلده، ومع الوقت يمتلئ قلبه الفارغ، وربما حتى يتعلم الحياة مع البدائل، الاستقرار مع ما هو متاح وتعلم حبه، أن تحل خالته محل أمه، وأن يتخلص من مأساة الفقد ويجد مساحة لحب آخر.
كيف تعيش النهاية
تعاملت معظم الآراء النقدية التي تبعت صدور الفيلم من منطلق أنه تحفة ميازاكي الأخيرة، وأنه وداعه الشخصي لنا، بل ووصيته لنا كجيل سيتبعه بعد مماته. يمكن بالطبع استخلاص ذلك عضويًا من داخل الفيلم. في أحد المشاهد يجالس جد ماهيتو حفيده ويسلمه راية العالم الجديد، يخبره أنه المسؤول الآن عن توازن العالم، عن ترتيب المجسمات بالشكل الصحيح ويودعه حتى إشعار آخر. لحظات مثل تلك يسهل تأويلها بكوننا نحن الصبي وميازاكي هو إله عالم الخيال القديم المتهاوي، يسلم مفاتيح العالم لجيل آخر وعالم جديد بخليط من الأمل والأسى لانتهاء عصر ذهبي للرسوم المتحركة، وطبيعة تعاطٍ مع الفن والحياة ربما لن تتكرر.
هناك مجاز آخر في المشهد ذاته، إذ يودع ميازاكي شريكه في ستوديو جيبلي ومعلمه وصديقه، المخرج إيساو تاكاهاتا الذي ودع العالم في عام 2018، وترك له ولنا الكثير من الجمال والإرشاد في كيفية عيش الحياة.
تجعل تلك العاطفية الشديدة والحب الذي يكنه السينمائيون ومحبو الأفلام لميازاكي حتى فوضوية فيلمه وعدم تحدد وجهته، بل وكونه ليس من أفضل أفلامه، مساحة للتحليل بل ورسالة خفية للوداع. في زخم العالم تحت الأرضي الجديد وانتهائه، يمكن رؤية ميازاكي يودع كل مخلوقاته ورسومه ويابان ما بعد الحرب. فبعد كل الفوضى والصخب، ينتهي الفيلم بهدوء وكأن شيئًا لم يكن. ليست هناك دروس كبرى أو نهايات سعيدة، ولكن إحساس مختلط بأن كل شيء دون معنى، ينبغي فقط أن نتعلم العيش مع الألم وحتمية النهاية.
جزء من كون الفتى ومالك الحزين جزء من سردية عن النهاية هو أسلوب الرسوم المتحركة الذي احتفظ به ميازاكي بعند وعنف مواجهًا ضغوط التحول للرسم الرقمي والرسوم ثلاثية الأبعاد؛ لكنه لا يبدو أبدًا خارجا عن الزمن. يظهر الفيلم نوستالجيا بالطبع لأفلام الاستوديو من نهاية التسعينيات، لكن لا توجد لحظة تجعل الفيلم يحتاج إلى «تحديث» أو تخطي ومجاراة للزمن، هو كما هو لأن ذلك وسيطه، ذلك التداخل والسيولة التي تتحرك بها الشخصيات بحرية خيالية، لكنها قابلة للتصديق في الوقت نفسه، يصعب تحقيقها في صيغة ثلاثية الأبعاد أو مفرطة الواقعية. لا يزال ميازاكي متمسكًا بتلك الشعرة الرفيعة بين الواقعي والسحري، كما أنه يستخدم وسيطه مثلما تستخدم السينما الممثلين الحقيقين، لا يوجد عنه بديل آخر، الشكل والرؤية السردية لا ينفصلان.
يتسم الفيلم بتعقيد سردي وبصري لا يحقق مبتغاه بشكل مستمر، لكن ذلك التعقيد واجترار بصريات ماضية، بل والحيرة في تحديد مستوى الفيلم فنيًا، يترك محبو عالم ميازاكي يرغبون في المزيد، وربما يشتت من يزورنه حديثًا، فهو فيلم دون ثيمة واضحة أو شخصيات أيقونية حتى الصبي البطل يبدو وكأنه وعاء فارغ يمكن ملأه بأي صبي آخر. تلك المقومات تجعل «الفتى ومالك الحزين» مساحة واسعة للتأويل وإدراج الرؤى والمشاعر الذاتية، فهو استعراض ضخم لكل الخيال الممكن وكل الحكايات الممكنة، مصغر للحياة ونموذج مضخم في الوقت ذاته، يطرح سؤال كيف نعيش ولا يجيب عليه.
وعلى الرغم من علامات النهاية داخل نسيج الفيلم أو في التحليلات المحيطة به، فإن ميازاكي لا يزال يعمل، يضع أفكارا جديدة لأفلام قادمة، ويخرج فيلما قصيرا لمتحف استوديو جيبلي.
سواء كان «الفتى ومالك الحزين» هو أغنية وداع أو إنذار كاذب، فإنه تجربة غرائبية أشبه بحلم غائم تظن أنك تعلمت منه درسا ما، لكن تمضي الحياة بعده كما كانت بذكرى غامضة لعالم غرائبي.