فن

فيكتور إيريس: العالم بقدم في الواقع وأخرى في الأحلام

المخرج الإسباني فيكتور إيريس يعود بأول عمل إخراجي منفرد منذ 30 عاماً -وخلال تلك العقود لم يصنع سوى فيلم واحد آخر- فما قصته؟ وما الجدل الذي أثير حوله؟

future المخرج الإسباني فيكتور إيريس

في النسخة الـ76 من مهرجان كان عام 2023 عرض للمخرج الإسباني فيكتور إيريس فيلم «Close Your Eyes» بعد انقطاع عن إخراج فيلم سينمائي طويل دام نحو 31 سنة. عرض الفيلم ضمن العروض الأولى في المهرجان، وكان ذلك عكس رغبة إيريس الذي عبر لاحقاً في رسالة نشرت صحفياً أن عدم إدراج فيلمه ضمن المسابقة الرسمية سبب له إحباطاً شديداً، وأنه كان يفضل في هذه الحالة استقبال أحد العروض القليلة التي جاءته من مهرجانات أخرى.

الخيبة والإحباط جوار التعاطي الكوني مع الفقد كفكرة واسعة في حياة البشر، أقطاب حاضرة في أفلام إيريس القليلة مقارنة بمدة عمله مخرجاً. بعد أول أفلامه «روح خلية النحل 1973» حظي فيكتور بحفاوة نقدية واسعة، ومع ذلك استغرق 10 سنوات لصدور فيلمه الثاني «الجنوب 1983» الذي أوقفه منتج الفيلم في الثلث الثاني من الفيلم، وظهر على الشاشة مستقطعاً منه نحو ساعة كتبت في السيناريو ولم تصور. نرى في مطلع «أغمض عينيك» عنوان «أحزان الملك» عن ملك إسباني يعيش في فرنسا يكلف محققاً خاصاً للعثور على ابنته التي تعيش في شنغهاي منذ صغرها، ومن ثم تبدأ حكاية أخرى يتضح خلالها أن أحزان الملك فيلم لم يكتمل. تحمل هذه التفصيلة صدىً واقعياً من حياة إيريس، ففي مطلع التسعينيات عمل على فيلم مشابه بنفس الأحداث، لكنه توقف فجأة بقرار من المنتج، وكان ذلك أحد أسباب انقطاعه عن إخراج فيلم طويل لمدة ثلاثة عقود.

خلال العمل على المقال، بدت لي هذه الحوادث الخارجية ذات مردود قوي في دواخل مادة المخرج الفيلمية، سواء في العلاقة بين ما هو شخصي منوط به وما هو سينمائي، وكذلك بين كل فيلم والآخر. ترتكز أفلام فيكتور على تعاط بطيء وخطي مع الزمن يتيح لها قابلية أن تكون ذات وحدة سينمائية لا تقرأ عبر الاستنباط واستجلاب دلائل لوجود علاقة داخلية بين الحكايات، بقدر ما تظهر هذه الوحدة على السطح متمثلة في امتدادات ومقاربات عابرة لخصوصية ظرفي الزمان والمكان.

بعيداً عن الزمن

تزامن صدور «روح خلية النحل» مع أواخر الحكم العسكري للجنرال الإسباني فرانشيسكو فرانكو، لذلك صدر الفيلم عن تجربة عايشت اضطراب الحرب، وخلال صناعة الفيلم كانت معاناة مع بعد الحرب في ذروتها، لذلك جاء مركزاً، بدلاً عن الصراع الوطني، على التبعات الداخلية لهذه الحرب.

الفيلم الذي فاز سنة صدوره بالجائزة الرئيسية في مهرجان سان سيباستيان لم يعكس صورة خارجية للحرب تنطلق من إدانة قوى الشر، بقدر ما حاول مساءلتها عبر تجهيل المتن الخارجي للحدث، المنطلق من مراوغة التدخل السلطوي في منع الفيلم، واللجوء إلى الهامش حيث تدور القصة في أعقاب الحرب الأهلية، وقت بحث الجنود الجمهوريين عن مأوى في الريف وجيش حكومة فرانكو الجديدة يتعقبهم.

في قلب هذا المناخ الحاد يعتمد الفيلم على زمن هادئ يسحب بداخله هواجس الصدمة والانفصال، عبر إحالات رمزية مضمنة داخل الشخصيات. الطفلتان «آنا» (آنا تورنت) و«استيريا» (ترييسا جمبييرا) تعيشان مع الأب، من نفس جيل الحرب ويظهر بنصف حضور، علاقته مع الوالدة خاملة ولا يربطه بعالمه الراهن آنذاك سوى بعض المشاهد الحميمية مع أولاده، التي يغلب عليها هاجس الحديث عن الموت، ورؤيته لعمله في المنحل مؤطرة في رؤية جماعات النحل تتحرك عبر صخب داخلي يدفعها إلى الموت.

الطفلة آنا، فيلم «روح خلية النحل»

لا يطابق إيريس ظاهرياً مع مناخ الحرب سوى قشرة خارجية من الزمن، لكنه يضع مناخاً ما بعدها داخل المناخ الفيلمي بتقديم المكان مستكيناً ومتداعياً لا ينتمى إلى لحظته بل يحاول الهروب منها. يقدم الزمن السينمائي بشكل تقليلي عبر تطورات أولية تظهرها الكاميرا ثابتة لا تتحرك ونشاطها الأساسي قائم على خلق موازاة بين المكان الذي تجعله الألوان الهادئة يشير إلى التخييل والاقتراب من وجوه الشخصيات وتتبع أحاديثها التي تشبه الهمس، بينما المونتاج ينحى تجاه نفس الطابع التقليلي والمتقشف، إذ إن الانتقال من مشهد إلى آخر محدد في الإشارة لنقلة عمومية مثل النهار أو الليل الصباح في المدرسة أو منتصف النهار في منحل الوالد.

لا توجد نقلات سريعة لكن هناك وفرة زمنية تساوي بين أهمية حركة الشخصيات المحدودة وثبوتية المعالم المكانية التي توحي بشيء ما، فرغم مجهوليتها وقدمها تتخذ رمزاً إلى كونها تتحرك مجازياً، ليس في الخارج وحسب، بل تنفذ إلى داخل الشخصيات وتشارك في زلزلة كتيمة، تجعل سؤال الطفلة آنا عن الموت والروح شيئاً مقبولاً وبه ثقل الخروج عن حاجز مادية المكان.

يحظى فيلم «الجنوب» الذي صدر بعد سقوط نظام فرانكو ببراح بين في المكان الذي كان مقارباً في اللغة البصرية والطبيعة الريفية في الفيلم الأول، ومع ذلك ثمة اختلاف جوهري لدى شخصيات فيلم «الجنوب»، فهي تستطيع أن تتواصل مع محيطها، سواء في البيت أو في الخارج هناك حركة وهناك احتمالات لوجود الحب، لكن هاجس الحرب ينعكس في شخصية الأب «أوغسطين» (أوميرو أنتونوتي) المنغمس في واقعه الذاتي، يعاني من حبس في موقف خانق، ووسيلة تواصله الأكثر قرباً بينه وبين ابنته «استريلا» (سونسوليس ارانجورين) تظهر في المشاهد التي يعلمها اكتشاف أشياء ما ورائية، وهنا يصبح يقين وجود الأب ضمن هذا العالم موضع شك، فلا يمكننا التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مخترع أو متخيل.

بشكل جانبي، خلال حديث استريلا مع جدتها لأبيها تعرف أن والدها كان سجين حرب بينما والده كان ضمن جيش فرانكو، ننتقل مع هذه التفصيلة إلى موقف مغاير تجاه الأب، ففي النصف الأول من الفيلم يبدو منغمساً في ذاته بصورة أنانية، بينما في النصف الثاني يتحول غيابه الأبدي إلى شيء مبرر، باعتباره فقد جزءاً أصيلاً من وجوده لم يعد ممكناً أن يستعاد.

استريلا ووالدها، «فيلم الجنوب»

يستجيب فيلم «أغمض عينيك» إلى سلطة الزمن المعاصر، بحركته الأداتية وطابع السرعة المتفحش بكثافة، لكن هذه الحركة تدخل بين دفتي حدث متخيل خارج الزمن الحالي، نراه بنفس تقليد إيريس البصري الهادئ في أفلامه السابقة، وهو ما يجعل تناول زمن الفيلم (تحديداً في 2012) فاقداً للمركزية، لأنه يعود بالضرورة إلى زمن آخر وينطلق منه ليضع أسباباً لعدم اكتماله.

بعد مدخل من مشهد طويل ننتقل من فيلم لم يكتمل مطلع التسعينيات إلى أصداء هذا الانقطاع. يعيش السينمائي ميجيل (مانولو سولو) على هامش إحدى المدن جوار الشاطئ يسحب وراءه خيبة عدم اكتمال تصوير الفيلم بسبب اختفاء غاردييل (خوسيه كرونادو) صديقه المقرب وممثل أساسي في الفيلم.

يقول فيكتور إيريس، إنه يحاول صنع أفلام «ضد الزمن»، وأفلامه تطالعنا على تفصيلات هذه الرغبة، فالزمن في الأفلام الثلاثة يعتمد على الهروب من لحظته ويجعل قراءته ممكنة عبر استعارة زمن آخر، حتى تتموضع الحكاية في مناخ يجردها من وفرة التوثيق المباشر، وبهذا تصبح المادة الفيلمية عامة وقادرة على مخاطبة الآخر على أساس المشترك الشعوري.

مسيرة متعددة لوجود واحد

«في بلد كان، خصوصاً في الأربعينيات، معزولاً جداً عن بقية العالم وموسوماً بالحرب الأهلية أعطتني الأفلام إمكانية غير عادية لأكون مواطناً عالمياً».

— فيكتور إيريس

تدور أفلام إيريس حول هواجس متماثلة تجاه مسيرتنا الهامشية مع الحياة، ويحمل المكان جزءاً من هذا الامتداد عبر الأفلام. تتخذ قاعة السينما صفة الكشف في روح خلية النحل، في مطلع الفيلم تأتي سيارة إلى البلدة، تحمل معها نسخة خام من فيلم «فرانكشتاين 1931»، يجتمع الأطفال حول أمين غرفة العرض ليسألوا عن الفيلم الجديد، فيعدهم بفيلم استثنائي. قاعة العرض الصغيرة هي المكان الوحيد في الفيلم الذي يجمع الجيران معاً. يأتي الأطفال بكراسيهم الصغيرة ويصطف الجمع كبار وصغار أمام حائط العرض ليتحول فعل المشاهدة إلى نشاط تكوين جسد اجتماعي. في «الجنوب» تأخذ السينما نفس صفة الكشف، من خلال توظيف حكائي محدود، حينما تتلصص استريلا على والدها وتدخل وراءه قاعة السينما لتكتشف هوية عشيقته.

يتناول «أغمض عينيك» حيزاً أكثر سعة لجمالية السينما، في تعاطينا معها هروباً من الواقع أو حينما نحاول استعادته عبرها. هناك وفرة في استخدام مختلف مفردات الفيلم ونشاطاته، وباعتبار أن حكاية الفيلم ترتكز على آخر قديم لم يكتمل، نرى أنه بشكل ما احتفاء بالسينما في إطار عمومي، بما يشمل ذلك من آلات تصوير والعثرات في العمل السينمائي، وفي النهاية يستعيد إيريس غرامه بأن تكون ذروة الكشف منوطة بقاعة السينما، فبعد أن نشارك ميجيل رحلة بحث شاقة عن صديقه الذي اختفى سنوات طويلة وظهر في أحد ملاجئ الراهبات يصبح العثور وهمياً، إذ لا يتذكر غاردييل أي شيء من حياته، يعرف فقط البحر والموانئ والتدخين والعمل اليدوي. لا تفلح محاولات خوليو في أن يتذكره صديقه، لكنه يتسلح بالسينما التي تبدو بمثابة ذاكرة بديلة في هذه الحالة ليضع جسر تواصل معه.

ملصق دعائي لفيلم «أغمض عينيك»

على مستوى الشخصيات، ثمة شك متكرر حول يقينية وجودها وتعاطيها مع محيطها، يمكن اعتبار مسار الشخصيات الرئيسية في الأفلام الثلاثة مسيرة متتابعة عمرياً، فالطفلة آنا في «روح خلية النحل» تظهر على مسافة من الأشياء تمتلئ باغتراب يجعل بينها وبين الواقع فجوة تزداد مع الزمن السينمائي، لديها شجاعة التطلع، تنظر في بئر عميقة، تجري مع أختها إلى أطراف البلدة بحثاً عن «الروح» داخل بيت قديم، تخاف هيبة البيت المهجور وتعيدها الرغبة في النفاذ إلى ما وراء ظاهر الأشياء، محيطها ينفذ خلالها بقوة ويترك أثراً يجعلنا نتساءل معها عن ماهيتها. المشهد الأخير يجعل وجود آنا حالة ملتبسة بهيئتها الملائكية في إطار بصري مفارق للواقع، تتبين خلاله مهارة إيريس وحدسه القوي في تضمين أسئلة كبرى تحتاج إلى وعي وخبرة في حياة طفلة، أول ما تختبره هو رهبة السؤال عن ذاتها، درجة أنها تتحرك تجاه الفناء، وكأنها تريد أن تصبح فضاء سماوياً يسع العالم.

المناخ المتأمل حول الذات والهوية يتراجع قليلاً في فيلم الجنوب لصالح تضييق الحكاية في إطار العلاقة بين استريلا ووالدها، لكنه يعود متمركزاً في «أغمض عينيك» من خلال غاردييل الذي يشبه والد استريلا في انغماسه حول ذاته من ناحية، ولديه تجربة مشابهة لـ آنا في إطار السؤال عن الذات والهوية، إضافة إلى سؤال الذاكرة الذي يشغل النصف الثاني من الفيلم.

يعثر ميجيل على صديقه (كانا سجيني حرب في شبابهما) لكن الأخير لا يتذكر شيئاً أو ربما لا يريد أن يتذكر، لأن ذلك كان دافع غيابه الأساسي لسنوات طويلة، أن يتخلص من ذاته ومن عمله ممثلاً، يتخلص من كل شيء ويبدأ بروح جديدة تحتمى بمساحة عنيفة في الانزواء.

يضع إيريس صورة متجاوزة لأحادية الاشتباك مع الذاكرة، يطرح سؤالاً قادراً على تفجير علاقتنا بالزمن، هل ذاكرة الآخرين تعنيهم وحدهم؟ وحينما نختبر مشاعر مختلفة، ونترك شيئاً منا لدى الآخر، في ذاكرة الآخر، ومن ثم يفقدها، هل يفقد شيئاً يعنيه فقط أم يعنينا لدرجة تجعلنا نفقد شيئاً من ذواتنا ومن فكرة شعورنا بالوجود؟

لهذا يأتي بحث ميجيل العنيد لخلق أي مساحة من التواصل مع صديقه شيئاً مفهوماً، خصوصاً أنه سينمائي يسحب وراءه لعنة فيلم لم ينتهِ، ووثيقة وجود الفيلم في الذاكرة هي صديقه غاردييل، لذلك جاء الرجاء الأخير في وصل هذه العلاقة مرة ثانية، من خلال المجاز الملجأ الأثير لإيريس في نهايات أفلامه. نرى في النهاية غاردييل يشاهد نفسه في الفيلم العالق، لا نحصل على يقين ما، بقدر ما يتولد شيء من الأمل في أن يتذكر هذا الرجل على الأقل شيء من هذه المشاهد المعدودة.

أفلمة الذاكرة والأحلام

حينما تتمركز الاستعارة الزمنية وقراءة الأحداث عبر زمن آخر يصبح تحديد هذا «الآخر» مساحة شائكة، وفي حالة أفلام إيريس يمثل تكرار الانتقال الزمني فخاً لأنه يرتكز على ثنائية الجمع بين الشخصي والعام، تحت إطار صورة شعرية خالصة تنطلق من الهدوء الذي يحوي تصدعاً داخلياً، ومن ثَم يمكن للمادة الفيلمية في هذه الحالة أن تتحول إلى مرثية للذات تقوم على التباكي. ماذا يفيد المشاهد في اشتباك مع أحزان ذاتية منتهية تنتمي فقط إلى صاحبها؟

مشهد من فيلم «أغلق عينيك»

في كتاب «شاعرية أحلام اليقظة» يتناول غاستون باشلار صورة مجهلة من الأحلام، فما نسميه أحلام يقظة ونصبغها بالاستهلاك يسميه الكاتب «التأملات الشاردة» التي تتمثل في الخواطر الوامضة في الأوقات العادية، ونحن منفردون أو حتى خلال إجراء حوار مع الآخرين، وتصبح هذه التأملات في حالتها القصوى حينما تستدعى لذاتها، لأنها تستقل عن حيثيات الواقع وتطلعاته وتكون بلا أمل.

تختلف التأملات الشاردة عن أحلام الليل، الأخيرة تعبر عن مخاوفنا العميقة وعن الحيز المجهل القاسي بداخلنا، بينما الأولى ابنة الوقوف بقدم داخل الوعي وأخرى خارجه، وهذا ما يعطيها قدراً من الاستقلالية، لأنها تنطلق من الوعي، تحدق به ثم تذهب به بعيداً إلى براح الشرود.

مساحة التأمل الشارد تبلور النشاط البطيء في أفلام إيريس الذي كتب روح خلية النحل رفقة أنخيل سانتوس بناء على ذكرياتهما الخاصة، هناك مشاهد مأخوذة من سيرة طفولتهما، مثل دروس التشريح في المدرسة، حوارات الوالد مع الطفلتين في الغابة عن الفطر السام، وكذلك ألعاب الطفولة، وفي «أغمض عينيك»، يتشابه ميجيل مع إيريس في العلاقة المضطربة والمتداعية أحياناً مع السينما التي تشاهد فجوة بين الرغبة والإنتاج. تحال هذه الذكريات إلى حكاية تتعمد إنكار الذاتية وتهرب من التأطير في توثيق الأحداث العامة لكل مرحلة، هناك وازع قوي في أن تكون الحكاية مؤطرة في زمن مفعم بالحلم ذات فضاء واسع من التأويل.

تظهر قصدية هذه اللغة البصرية في التغيرات التي طرأت على الفيلم، تم تغيير أسلوب حكي التعليق الصوتي «فويس أوفر» من خلال آنا التي كانت ستفتتح الفيلم بالحديث عن ذكرياتها وهي طفلة، كذلك تم حذف مشاهد تشير إلى مدافع مهجورة وأحذية جنود ممزقة في القرية، بينما مطلع الأفلام عادة ما يشهد تأسيساً لمناخ خيالي، مثل الحكايات الشفاهية التي تبدأ بـ كان ياما كان، منطلق من أساس أدبي.

في كتاب «سينما الشعر» ينقل الناقد عبد الكريم قادري عن بازوليني تنظيره لـ«لغة السينما» التي تفتقد إلى أساس شرعي وخبرة معيشية مثل الأدب. اللغة في الأدب تخلق رموزاً تسهل خلق تصورات لدى المتلقي، بينما الوسيط الصوري في السينما هو أقل حضور في التلقي البشري، لذلك فإن الكاتب، بحسب بازوليني يخلق حالة جمالية، بينما السينمائي يؤسس للغة ندرك الجماليات البصرية ونشتبك مع الحكاية عبرها.

يبين الانتقال الزمني الطويل في فيلم «أغمض عينيك» أن التأسيس البصري للغة سينمائية تقوم على البطء والتدفق في أفلام إيريس ليس نشاطاً ذا نزعة هروبية منغلقة على ذاتها، أو تهرب من الواقع لصعوبة مواكبة الصورة لكثافة الحركة في الزمن الحديث، ثمة داع مركزي في هذه الشعرية، وهو أن تستبدل محدودية الواقع بانطلاق الحلم وتراهن على القدرة في تكوين مشتركات تأملية وشعورية تجعل الهم البشري تجاه الموت، الذاكرة، إشكالية الهوية، مسألة عمومية معنية بالفرد على اختلاف مكانه، ولأجل أن تحتفظ هذه الصورة بقدر ضروري من الوضوح، فإن الأفلام حينما ترى على خط زمني متتابع، نرى الهواجس ذاتها، عرضت عبر مراحل ثلاث أساسية، الطفولة في روح خلية النحل والشباب في الجنوب والكهولة في «أغمض عينيك».

تضفي الأحلام على ما تتناوله حرية ما، لا نعرف هل هي أكبر من محدودية الواقع أم حاكميته حالياً تنزعها منا. هذه الحرية قادرة على أن تجعل الأشياء تتحرك من محيطنا إلى داخلنا، بدلاً من أن تحوم حولنا دون استيعاب حقيقي، تعيد لأبسط الأحداث قيمتها، واحتمالية أن تترك أثراً حقيقياً يجعل لحكاياتنا الشخصية معنى منوطاً بالعالم أكثر من كونه محدوداً فيناً، وهذا تحديداً ما حاول فيكتور إيريس أن ينطلق منه في أفلامه، مع الحفاظ على الخوف مما يمكن أن ينتج من ألم حقيقي، وصدمة لا يمكن شفاؤها أبداً.

# سينما # السينما العالمية # أفلام أجنبية # السينما الإسبانية

فيلم «دخل الربيع يضحك»: موسيقى الحياة اليومية
My Favourite Cake: الحياة كعكة ساخنة في انتظار رفقة
فيلم «أبو زعبل 89»: عن مصر التي نعرفها

فن