غداً تبدأ الرحلة الحقيقية يا أبوالحجاج فلا تردني منها خائباً، أقف في رحابك مثلما وقف الأستاذ جمال سابقاً، فلتنصرني مثلما نصرته وتؤيدني عند الله حتى يفتح على الفتح المبين.
لا يعرف نادر كم من الوقت مر عليه واقفاً أمام ضريح أبوالحجاج الأقصري، إلا أنه آفاق على نظرات السائحين المدهوشة من هذا الذي يتمتم في خشوع، لكنه لم يأبه بتلك النظرات التي لا تعلم أنه غداً ينتقل من رحاب أبوالحجاج إلى رحاب كبير عائلته: الأستاذ جمال علام، رئيس الاتحاد المصري لكرة القدم.
يؤمن نادر بأن الأستاذ جمال شق طريقه ببركة الحجاج في البداية ثم بنظافة يده التي كانت سلاحه الوحيد في حروب اتحاد الكرة الضروس، يعرف نادر كيف أن التعامل في أروقة العمل الإداري لكرة القدم المصرية أمر شاق، فنادر نفسه يعمل في مديرية الأقصر الرياضية وغداً سيلتحق بالرجل الذي يحاول جاهداً أن يستنسخ مسيرته.
قد تعتقد أن الطريق كان ممهداً أمام نادر نظراً لقرابته للمسؤول الأول عن كرة القدم في مصر، لكن في الحقيقة لم يتلق نادر أي وساطة خلال رحلته القصيرة، التي ستأخذ منحنى جديداً تماماً في الغد.
هذا هو نادر بطل قصتنا، أما السطور القادمة فهي نسخة من أوراق لمذكرة صغيرة يحملها نادر على الدوام ويدون داخلها يومياته البسيطة.
لم أتخيل أن بركة سيدي أبوالحجاج ستحل من اليوم الأول بهذه الصورة! مذ تحسست طريقي إلى مكتبي القابع في غرفة السكرتارية مترجماً خاصاً برئيس الاتحاد، وأنا لم أحرك ساكناً، منتظراً أن أقابل الأستاذ جمال بعد اجتماع اتحاد الكرة الذي بدأ في الصباح الباكر ولم ينتهِ حتى انتصف النهار.
لكنني مثل البقية سمعت الصوت يتصاعد بصورة غاضبة من غرفة الاجتماعات، بدأت التحرك بخطوات بطيئة نحو الغرفة وما إن سمعت صوت أحد الأعضاء يصرخ في الرئيس: لقد سافرت في رحلات المنتخبات جميعها، بل وتقرر السفر ممثلاً عن الاتحاد في كل المناسبات دون أن تعلمنا نحن الأعضاء بذلك. يا رجل لقد أصررت على السفر لحضور نهائي دوري أبطال أفريقيا في المغرب بينما كنت أنا الأحق كوني عضواً سابقاً بمجلس إدارة الأهلي!
هنا لم أتمالك نفسي واقتحمت الغرفة لأرد على هذا الرجل: أنت تتحدث مع رئيس الاتحاد المصري لكرة القدم، إنه ممثل كل الأندية وكل اللاعبين بل وممثل مصر ذاتها، هكذا ينص قانون الرياضة.
10 ثوان من الصمت كسرها صوت الأستاذ: أنت مين يا بني؟ عرفته بنفسي حتى الجد السادس ليلتقط تلميح العائلة ولو أن لكنتي الأقصرية لا تحتاج إلى شرح! أدار الأستاذ جمال وجهه نحو عضو الاتحاد: أنا رجل أعمل وفقاً للقانون ولن يسافر أحد لأي مكان غيري ولن يستطيع أحد منعي من ذلك، ثم أدار وجهه نحوي وقال لي: وأنت سترافقني في السفر.
بمجرد أن وصلت إلى المكتب طلبني الأستاذ جمال للحديث بصورة منفرد، ولم أتوقع أن يكون الحديث بيننا غاضباً خصوصاً بعدما حدث أمس. بدأ الرجل حديثه بأن ما حدث أمس خطأ لا يغتفر وأن هذا هو السبب الرئيس الذي جعله لا يتوسط لي للقدوم والعمل هنا، نحن هنا لسنا في الجنوب حتى نتعامل بميثاق القرابة والمعرفة ثم أنهى حديثه هذا بسؤال بسيط، هل تعلم كيف جئت إلى هنا.
أخبرته أني لست أحمق وأعلم جيداً الصدفة التي جاءت به وأن بركة أبوالحجاج لكنه قاطعني قائلاً: هنا مفيش أبوالحجاج هنا فيه أبوريدة.
لم أرشح نفسي لعضوية مجلس إدارة الاتحاد لأناطح أباطرة العمل الإداري الرياضي بل لكسب شهرة محدودة بين أندية القسم الثاني والثالث لعلهم يألفون وجهي في مباريات مجموعة الصعيد، لكنني ودون أن أعرف كنت الشخص المثالي الذي يستطيع هاني أبوريدة أن يثبت من خلاله قدرته على إدارة اتحاد كرة القدم دون أن حتى أن يدلف من باب الجبلاية.
حاولت تلطيف الموقف بتذكيره بعشرات التصريحات التي أكد خلالها أن أبوريدة لا يحكم، لكنه قاطعني على الفور، حتى تلك التصريحات كانت وفق سيناريو موضوع فلا تحاول أن تجادلني دون فائدة.
وإن صرت تعلم كيف تقلدت هذا المنصب فالأهم أن تتفهم كيف استطعت البقاء، إنها حيلة الصمت يا بني. نصيحتي الوحيدة لك هي ألا تتحدث إلا عندما تضطر، وإذا كنت تعتقد أنني الرجل الأقوى بسبب ما حدث أمس فهذا أمر نسبي تماماً.
لا أزال أتذكر اجتماعي الأول كرئيس للجبلاية، لم يتعرف عليّ نصف الأعضاء ولم آبه بذلك فالصمت حينذاك كان مطلوباً فكلنا كنا نعلم من الرئيس الحقيقي.
أما في اجتماعي الأخير، فالكل يعلم أننا جميعاً هنا باختيار وزاري، ولذا فلا ضرر من مزاولة عملي رئيساً في ما يتوافق مع القانون لأن هذا ما تفهمه الوزارة فحسب. أنت القوي في مواضع معينة وأضعف الحلقات في مواضع أخرى.
دعني أبسطها لك، لو أن العضو الغاضب هذا في اجتماع أمس لا يزال يتمتع بعلاقات جيدة مع زملائه السابقين في مجلس إدارة الأهلي، لما استطعت أن أرد عليه مثلما فعلت.
قررت أن ألطف من توتر الحديث بيننا خصوصاً أنه طلب مني حضور اجتماع اليوم بصفتي مترجمه الخاص، لكنني تفاجأت بأن الاجتماع رفقة الكابتن حازم إمام، بل وتفهمت أنني هنا بصورة أساسية لمحاول ترجمة ما يقوله الكابتن حازم الذي تحوي معظم أحاديثه على مفردات إنجليزية مما تسبب في شقاق بينه وبين بقية المجلس وعلى رأسهم السيد الرئيس.
شعرت بتوتر العلاقة بيننا وكأنني شاهد على محدودية الرجل، لذا قررت تلطيف الأجواء المتوترة والتأكيد أنني معجب حقاً بمسيرته كرجل استعان به أبوريدة نفسه كمستشار لاتحاد الكرة. لكنه رد علي بهدوء: هل تعلم ما الشرط الوحيد الذي طلبه مني أبوريدة لأتقلد هذا المنصب؟ ألا أظهر في الاتحاد أبداً! لقد كانت مكافأة الصمت يا بني.
كنت أظن أن هذا الرجل يحاول إضفاء لمسة من التواضع المصطنع كعادة كثيرين حتى لا يتعشم فيهم أحد، لكنني رأيت اليوم بأم عيني ما قصده الرئيس بمواضع الضعف!
يبدو أن الموقف متأزم بين الأعضاء جميعاً، فبعد جلسة طويلة قرروا جميعاً أن استمرارية فيتوريا هي الأصح، إلا أنه وبعد متابعة كل القنوات قرروا أنه يجب تغيير المدرب على أن يكون أجنبياً، بل كلفني الرئيس بترجمة عدد من السير الذاتية التي أرسلها له الكابتن حازم، وقد صرح عدد من أعضاء المجلس لوسائل الإعلام بأن خليفة فيتوريا أجنبي لا محالة.
ثم أتت مكالمة قصيرة تغير بعدها كل شيء، لقد قررت الوزارة أن المدرب القادم مدرب وطني ليناسب المرحلة القادمة. لقد رأيت الجميع مبدياً شيئاً من الامتعاض إلا الرئيس الذي أثنى على القرار فوراً، وفي خضم هذا النقاش الساخن أوضح أحد الأعضاء أن محمد صلاح سيرفض حتماً تعيين مدرب مصري خصوصاً أن هذا المدرب سيكون على الغالب حسام حسن الذي لا يفضله صلاح أبداً.
وهنا صمت الجميع وعلا صوت الرئيس مذكراً العضو بالقاعدتين الأهم لاستمرار هذا المجلس: القاعدة الأولى، ألا تحاول الحديث مباشرة مع محمد صلاح، أما القاعدة الثانية، فهي ألا تتحدث عن محمد صلاح في العموم. التزم الجميع حينئذ الصمت وبدأت ملامح الرضا والارتياح تعود للوجوه.
فيبدو أن الكابتن حازم حزين بسبب انتقادات الجميع ورحيل فيتوريا، فقد أبلغ المجلس أنه في إجازة مفتوحة لأنه مريض لكن الجميع يعلم الحقيقة، مما دفع البعض للهمس في أذن الرئيس بضرورة الحديث مع حازم لأن الوزارة إذا شعرت أن المجلس غير موافق على تعيين كابتن حسام فقد تكون تلك بوادر أزمة تودي بالمجلس كاملاً في مهب الريح. إلا أن حديث علام واضح، من لا يتحمل مشقة العمل العام فعليه أن يتركه للأبد، مستغرباً من هرب الجميع بمجرد الانتقاد ثم ضرب مثالاً وجدته غريباً بعض الشيء.
لقد تم انتقاد كلاتنبرج رئيس لجنة الحكام السابق ووصف بالشذوذ الجنسي، وبدلاً من أن يثبت للجميع أنه رجل بحق وحقيق، هرب إلى إنجلترا وقدم استقالته، لو كان صبر أياماً فقط كان الاتحاد سيثبت بالطب الشرعي أنه ذكر بألف، لكن الجميع يستسهل طريق الهرب.
يبدو أنه لا مناص من الحقيقة، ولا مجال للمكابرة بعد اليوم. هذا الرجل نظيف اليد لا يؤمن إلا بالصمت حيلة للاستمرار فوق الكرسي، ولا يفوت فرصة للسفر كرئيس للبعثات خارج مصر لأنه ببساطة لا يعامل كرئيس للاتحاد المصري لكرة القدم إلا خارج مصر. هذا الرجل هو المنتج المثالي لكيفية إدارة الرياضة في مصر، إذ إن كثيراً من المناصب الشكلية بلا فائدة.
لقد قررت الاستقالة والعودة إلى الأقصر.
يقف نادر في رحاب أبوالحجاج مثلما بدأ الرحلة، لكنه يقف اليوم صامتاً دون تمتمة أو خشوع ظاهر، كان يفكر في قصة أبوريدة الذي يستحق مقاماً مماثلاً لمقام أبوالحجاج، لكنه يستفيق أخيراً على صوت والده: هل لا يزال يذكرك سيدي أبوالحجاج ببداية عمك جمال؟
يرد نادر: لا، لقد تغيرت الأمور كثيراً، أصبحت أتذكر عمي جمال بسيرة الشاذلي، لا أبوالحجاج. يهتف الوالد: شي لله يا سيدي أبوالحسن يا شاذلي.
يتمتم نادر في أذن أبيه: ليس الشاذلي هذا يا أبي، بل شاذلي آخر، شاذلي لا علاقة له بكرة القدم لكن وقع أمامه صفقة إدارة اتحاد كرة القدم فقرر ألا يحرم المتابعين من تلك الصفقة!