مجتمع

عودة الإصلاحيين: الورقة الاحتياطية للنظام الإيراني

بعد سنوات من تواري التيار الإصلاحي عن مشهد السلطة في إيران، إذ به يعود مرة أخرى للمنافسة على منصب الرئاسة.

future المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي يصل للإدلاء بصوته خلال جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية في طهران 28 يونيو 2024

تسببت وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في إحداث حراك سياسي غير متوقع في دولة الملالي، إذ تم فتح باب الترشح للانتخابات الرئاسية الرابعة عشر لاختيار خلف له، وبعد سنوات من تواري التيار الإصلاحي عن مشهد السلطة، إذ به يعود مرة أخرى للمنافسة على منصب الرئاسة.

بزشكيان في مواجهة الجميع

تقدم عدد من السياسيين للترشح إلى منصب الرئاسة لكن مجلس صيانة الدستور كان لهم بالمرصاد، ويمثل هذا المجلس عصا المرشد وأتباعه المتشددين في مواجهة معارضيهم والتحكم بنتائج أي انتخابات من قبل أن تبدأ.

ولم يوافق المجلس إلا على أوراق ستة منهم فقط: مسعود بزشكيان، الذي ينتمي إلى التيار الإصلاحي؛ وخمسة من المتشددين هم رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف، وممثّل المرشد في مجلس الأمن القومي سعيد جليلي، ورجل الدين مصطفى بور محمدي، وعمدة طهران علي رضا زكاني، ونائب الرئيس السابق أمير حسين قاضي زاده هاشمي. وقبل يوم واحد من الانتخابات، انسحب الأخيران.

جرت الانتخابات كما كان مقرر لها في 28 يونيو، وأعلن المتحدث باسم هيئة الانتخابات بوزارة الداخلية أن عدد المصوتين بلغ أكثر من 24.5 مليون. حصل مسعود بزشكيان على عشرة ملايين و415 ألفًا بنسبة 42%، وحصل سعيد جليلي على تسعة ملايين و473 ألفًا بنسبة 39% من الأصوات، وجاء قاليباف في المركز الثالث، وحل بور محمدي رابعًا. وتأهل بزشكيان وجليلي لجولة إعادة في الجمعة التالية (5 يوليو)، لأن أيًّا منهما لم يحصل على 50% من الأصوات.

بزشكيان (69 عامًا)، هو طبيب جراح، عمل وزيرًا للصحة بين عامي 2001 و2005، في حكومة خاتمي، ويمثل تبريز في مجلس الشورى منذ عام 2008، ويوُصف بأنه مرشح ضعيف مدعوم من قادة أقوياء؛ إذ اصطف خلفه كبار الرموز الإصلاحية ذوو الوزن الثقيل من أمثال الرئيس الأسبق محمد خاتمي، رائد الإصلاحيين في إيران، والرئيس الأسبق حسن روحاني، ووزير خارجيته محمد جواد ظريف.

أزمة الشرعية

بحسب الإعلان الحكومي، لم يشارك سوى 40% فقط من بين 61 مليون ناخب لهم حق التصويت، وهي أدنى نسبة مشاركة طوال عهد الجمهورية، وقبل ذلك في الانتخابات البرلمانية الإيرانية في مارس الماضي وصلت نسبة المشاركة إلى 41%، وهي أدنى نسبة مشاركة حتى ذلك الحين.

كان التحدي الأكبر أمام بزشكيان ليس إقناع الناخبين به؛ فكونه المرشح الوحيد الممثل للتيار غير المتشدد يعد كافيًا لاختياره إذا ما قورن بالبقية، لكن التحدي كان نسبة التصويت، فكلما ارتفعت هذه النسبة ارتفعت حظوظه في الفوز، لأن الكتلة الصلبة المحافظة المؤيدة للنظام تخرج بشكل منظم وثابت، ومشاركتها تصب في صالح النظام دائمًا، بينما تنظر الأغلبية بيأس أو لا مبالاة إلى المشاركة في الانتخابات، لاعتقادهم بأن النظام يملك مفاتيح اللعبة ويريد ملء المسرح بهم لأغراض استعراضية بحتة من دون أن تكون لآرائهم أي قيمة أو تأثير.

وعند تقديم أوراق ترشحه، قال بزشكيان في تصريحات صحافية، إن هدفه رفع نسبة المشاركة الانتخابية، وفي إحدى المناظرات وصف نفسه بأنه «محافظ» لكن توجهاته إصلاحية، وشدّد على ولائه للمرشد الأعلى وتمسكه بمبادئ النظام الديني، من أجل استرضاء الدولة العميقة وعدم استعدائها، وبخاصة أنه يضمن دعم الإصلاحيين لعدم وجود من يمثلهم غيره.

ومنصب رئيس الجمهورية لا يعطي صاحبه صلاحيات كبيرة بالحجم الذي يوحي به مسماه؛ فليس هو قائد البلاد بل المرشد الأعلى بحكم الدستور والواقع. أما رئيس الجمهورية فهو فعليًا أقرب لكونه رئيس وزراء بصلاحيات محدودة، لكنه يتمتع بمكانة بروتوكولية كبيرة تفوق حجم نفوذه الحقيقي.

اللعب بورقة الإصلاحيين

استطاع النظام حشر الإصلاحيين في الزاوية وإجبارهم على تقديم خدمة جليلة له، في وقت كان أحوج ما يكون إلى ذلك؛ فرفع نسبة المشاركة مثّلت هدفًا مشتركًا للجانبين، فالإصلاحيون يريدون الفوز، والمرشد يريد استصدار شهادة تجديد الثقة بنظام تنحدر شرعيته في منحنى تنازلي.

وبالنظر إلى نسبة المشاركة نجد أن النظام أعلن أن نسبة التصويت بلغت 40%، بينما كانت الأرقام المعلنة في الانتخابات الرئاسية الماضية عام 2021، التي نجح فيها الرئيس الراحل، إبراهيم رئيسي، هي 48%، مع العلم أن كلتا المرتين تم التشكيك في مصداقية النسب المعلنة، واتهام النظام بأنه يبالغ في نسب المشاركة لتحسين صورته وادعاء شرعية زائفة.

وبافتراض صحة النسب الرسمية المعلنة فإنها تمثل أدنى مستويات المشاركة الشعبية في الاستحقاقات الديمقراطية، أي إن هذه المشاركة التي طالما تفاخر النظام بها باعتبارها مستندًا للشرعية والرضا الشعبي، صارت تحمل دلالة عكسية، مفادها أن غالبية سكان إيران لا يُعولِّون على صندوق الاقتراع ولا يولونه أهمية.

في الانتخابات الماضية كانت النتيجة محسومة سلفًا لصالح إبراهيم رئيسي؛ إذ تم استبعاد المنافسين الحقيقيين، وافتقر الاقتراع إلى روح التنافسية؛ فكل من المؤيدين والمعارضين لا يحتاجون إلى الذهاب للتصويت لأن أصواتهم لن تصنع فارقًا.

وهنا تكمن ملاحظة شديدة الأهمية، وهي أن الانتخابات الأخيرة حقّقت مشاركة أقل من الانتخابات السابقة التي افتقدت دافع المشاركة، أي إنه لولا مشاركة الإصلاحيين لكان المفترض أن تكون النسبة أقل بما يقارب 42% من إجمالي الأصوات على الأقل، وهي نسبة المصوتين لبزشكيان.

وهنا تتضح أهمية مشاركة الإصلاحيين في المشهد الانتخابي، وكيف أن النظام أقصاهم من السلطة التنفيذية عام 2021، وقبلها من السلطة التشريعية عام 2020، عن طريق منعهم من الترشح أيضًا، ثم عاد ليستدعيهم إلى المشهد مرة أخرى حين اشتدت الحاجة إلى دعمهم، ولم يخذلوه، بل سارعوا إلى اقتناص الفرصة.

توفر هذه التجربة مثالًا مهمًا يوضح كيفية عمل التيارات السياسية المتعارضة وتفاعلها مع بعضها البعض في إيران، وكيفية إدارة النظام للصراعات والاختلافات واستثمارها وتحويلها لرصيد قوة بدلًا من استنزاف طاقته في قمعها، وكيف أن التيار الإصلاحي جزء رئيس ومكوّن أساس من النظام، وإن اختلفت الرؤى في كثير من الملفات، لكنهم ليسوا ضد بقاء النظام الديني.

وفي هذا السياق يبدو النظام الإيراني متمرِّسًا ومتسلحًا بخبرات الماضي ودروسه، ولا عجب في ذلك فدهاقنة النظام الذين عركتهم التجارب وصقلتهم الأحداث لا يتم التخلص منهم عند أدنى خلاف أو إبعادهم في سن التقاعد، بل تجري الاستفادة منهم في مواقع أخرى، وأحيانًا تكون مهام لها علاقة بتوريث الخبرات أو قيادة مؤسسات بحثية.

ففي تعامل الولي الفقيه مع الإصلاحيين نموذج تعلمه من درس رستاخيز؛ وهو الحزب الذي أسّسه الشاه محمد رضا بهلوي في أواخر عهده ليجعله الحزب الأوحد، وقضى على الحياة السياسية خارج نطاق رستاخيز بالموت، فما إن جد الجد واشتعلت الاحتجاجات الشعبية لم يجد الشاه من يتكئ عليه لتهدئة الجماهير والوصول إلى حلول وسط، بعدما اختزل الأطياف كلها إلى لونين أبيض وأسود.

وحينذاك لم ترض الجماهير بأقل من إسقاط الشاه ونظامه، ورأوا أي شخص يأتي به تابعًا ومواليًا له ضد الشعب، ولو كان من بقايا الجبهة الوطنية التي تزعمها رئيس الوزراء الراحل محمد مصدق، بعد أن انتهى وجود الجبهة ورموزها شعبيًا وتشتت شمل قادتها.

لكن اليوم يحتفظ نظام الملالي بورقة الإصلاحيين ليُشهرها حين إفلاسه، ويعيد طيها حين يستطيع الاستغناء عنها، بل ويحمِّل رموز الإصلاحيين أيضًا مسئولية أي فشل أو تراجع، كما حدث مع الرئيس حسن روحاني (2013 – 2021)، الذي وقّعت حكومته الاتفاق النووي بموافقة المرشد، ثم تحمّل وحده اللوم على فشل الاتفاق، وصار رموز التيار المُتشدِّد يتحدثون عن فشله وسذاجته في الاستجابة لخداع الغرب، رغم أن قرار إبرام الاتفاق صدر من المرشد الأعلى وحصل على موافقته ومباركته العلنية.

# إيران # سياسة # الانتخابات الإيرانية

الهجوم الصاروخي على إسرائيل: إيران دولة برجماتية
كيف حفرت طرابلس الليبية اسمها في نشيد «المارينز» الأمريكي؟
السودان وإثيوبيا: حدود لا تعرف الهدوء

مجتمع