معرفة

عن «إنقاذ السيناريست» والذي ليس بسيناريست

حين تعتمد على موهبتك وتعتبرها سقفك الأخير، بمعنى أنك قدمت كل ما لديك، تصبح هي عقبتك الأولى في مسيرتك نحو العبقرية. كيف يحدث ذلك؟

future غلاف كتاب: «إنقاذ السيناريست»

2 - 2 - 2025 - نهار خارجي، معرض الكتاب

ألتقط الهاتف قبل أن تصمت الرنة الأخيرة وسط الزحام المعهود، فتحت المكالمة، يرفع صوته كي أسمع: أنت فين، أي قاعة؟

أرفع صوتي بدوري: آسف اتحركت، ممكن بكرة.

ما زال بنفس الحماس: خارج من أي قاعة؟

ألمحه قبل أن أجيب في منطقة المطاعم التي بدأت أحاذيها، لوحت بسرعة فلوح لي بدوره، وكان معه كتاب ما، عندما اقتربت دفعه إليّ، ثم استعاده، بعد أن أخرج القلم من جيبه وبدأ يوقع الإهداء.

أمسكت بالكتاب في عدوى سعادة أعرفها، سعادة أن يكون بين يديك كتابٌ عملت عليه، وأخذ من روحك وعقلك، شرعت أقرأ في الإهداء قبل أن يفاجئني بقوله: هذا الكتاب لك فيه إهداءان وليس واحدًا، لم أفهم إلا بعد أن تجاوزت صفحة الإهداء الذي كتبه لتوه، لأجد أن صفحة إهداء الكتاب الأصلية مطبوع فيها اسمي.

الإهداء

«إلى دسوقي أحمد وأحمد أبو خليل؛ بعض إيمانكما بي، أعاد إحياء ما تبقى مني»

3 - 8 - 2022

كنت أفتتح غرفة صوتية على تطبيق باز (تطبيق عربي للتواصل الاجتماعي اشتهر إثر طوفان الأقصى بديلًا لمنصات التواصل الاجتماعي المقيدة للتعبير)، كانت الغرفة بعنوان «حيرة كاتب في منتصف الطريق»، وكنت أحاول فيها أن أحكي قصة متكررة يعرفها الكثيرون ممن اقتربوا مني: أدير أعمالًا كثيرة متعلقة بالإبداع والكتابة، وأنا نفسي أعرف كيف أكتب وأحاول أن أبدع، فأيهما أُغلّب، إدارة مشاريع صناعة المحتوى التي توجه وتخرّج عشرات الكتاب والمبدعين بأشكال مختلفة، أم أركز وأفسح لنفسي الفرصة مرة أخرى كي أعود لمضمار الكتابة والإبداع بنفسي ولنفسي على قولة مأذوني هذا العصر.

ربما لم يكن هذا السؤال حقيقيًا، وكان السؤال الذي أكتشف أنه الأقرب للحقيقة الآن، هو أنني لم أعد أعرف كيف أعود لهذه الكتابة، أو كيف أحصل على ما كنت أحصل عليه عندما كنت أكتب من قبل، أو كيف أطيق صبرًا على هذه الكتابة، وهذا الإبداع، لم أسأل الأسئلة الصحيحة حتى وأنا في حيرتي، فلم أصل إلى الإجابات الصحيحة، وحتى لم ألتفت إليها، فظللت من وقتها وأنا في منتصف الطريق.

10 - 12 - 2025

عندما يقترب معرض الكتاب، ندرك ذلك الرف الذي وضعنا فيه الكتب التي غنمناها المعرض السابق، وعلى رأس هذا الرف كتاب «إنقاذ السيناريست.. دروس مصيرية لكاتب السيناريو» لصديقي محمد السيد أبو ريان، كنت انتهيت لتوي من استلام نص آخر منه - سيصدر قريبًا في معرض الكتاب القادم - وفتح ذلك شهيتي أكثر كي أفتح الكتاب وأتعرض لفصوله.

كما صدّر المؤلف فإن مادة الكتاب موجهة بالدرجة الأولى لممارسي كتابة السيناريو الدرامي، سواء كانوا مبتدئين أو محترفين، ثم إلى ممارسي المهن الإبداعية الأخرى، وأخيرًا إلى الجمهور المهتم بالاطلاع على كواليس الكتابة والمجهود المبذول فيها لأجلهم. بالتأكيد لست من الصنفين الأوليين، ولكن ينطبق على الفئتين الأخيرتين، فتوقعت أن أجد فيه متعة ذهنية ربما، وفائدة عملية، لكن على مسافة ما بما أنني لست في مرمى التصويب الرئيسي للمستهدفين من الكتاب.

لكن ما إن صافحني عنوان الفصل الأول «إبدع؛ حتى في أسوأ الظروف» حتى نسيت الكاتب والسيناريست، وركزت مع القارئ، الذي يحتاج - واحتاج دومًا - أن يبدع فعلًا، في ظروف عليه أن يعترف أخيرًا أنها لن تكون أفضل مما هي عليه.

1 - 5 - 2015

في ٣ حلمي عبد العاطي، المتفرع من شارع النادي الأهلي، كنت أجلس على طاولة السفرة التي أتخذها أحيانًا مكتبًا لي في الدور الثالث حيث أول سكن لي بعد الزواج، أحاول أن أنتهي من مسودة الكتاب الثاني، ٣ سنوات مرت على الكتاب الأول، لا أريد أن أتأخر أكثر من ذلك، وسبعة أشهر تقريبًا متبقية على معرض الكتاب القادم يمكنني أن أنجز فيها ما تبقى من الكتاب، وأحرر ما جمعته من أجزائه من قبل، أتذكر كل شيء في هذه الجلسة، لأن صاحبتي يومها التقطت لي صورة وأنا أعمل عليه، كان وقت الأصيل، والشمس تضرب في شقتنا عندما تشرع في الغروب، وستائر غرفة السفرة اخترناها بوشاح بني متناسبة مع لون خشبها، وكذلك ألوان الغلاف الذي أحدق فيه في شاشة اللاب توب، حيث انتهى المصمم من رسمه قبل عام كامل ربما.

في جلسة على مقهى البستان في وسط البلد أسفل مقر دار دون الأول، قال لي العزيز أحمد مهنا بأنه لا يفضل الغلاف الذي اجتهدت ورسمته للكتاب الثاني، وكذلك اسم الكتاب نفسه «أوراق عشرينية»، عليّ أن أعدله، لأنه لن يكون جذابًا بشكل كافٍ، وحتى الخطوط التي رسمتها لدى خطاط محترف للعنوان ولكل فصل، ليست الأفضل بالنسبة لكتاب نريد له الانتشار، ثم بدأ أيضًا يتحدث عن بعض من محتوى المسودة الأولى.

في هذه اللحظات اتخذت قرارًا، هذا الكتاب ابني، ابني أكثر من الكتاب الأول، وأريده أن يخرج كما أتصوره وأحلم به دومًا، ضربت بنصائح الشاب الناشر الصاعد عرض الحائط، وقلت سأنشر كتابي بنفسي، لدي الجمهور، ولدي المحتوى، ولا تنقصني أدوات النشر نفسها، فلأجعل منه تجربة مختلفة مع النشر الذاتي، وقد كانت منصة كتبنا وقتها انضمت إلى مجموعة مشاريعنا حديثًا.

حبسة الكتابة

شاهدت الحلقات الأربع التي أنتجتها منصة «حواري» الجديدة لعمر طاهر ونشرتها باسم «ورشة ما قبل الكتابة»، الكثير من الخبرة الشخصية، والقليل من التكنيكات والقواعد، هكذا اعترف عمر طاهر من أول دقيقة، وهكذا سارت الحلقات، لكن من أبرز ما علق معي فكرة «الروتين» الدائمة التي لا ينفك متحدث عن الكتابة إلا ويرددها، حتى إنه في نهاية الكلام عنها قال: ولو 10 دقائق كل يوم، الزم نفسك بعشرة دقائق فقط في اليوم. أمررت الكلام على أذني، وتركته يسقط وعلى شفتي شبه ابتسامة مستهزئة.

في الفصل الأول من الكتاب وجدت أمامي نفس القاعدة، وبشكل مستند على تكنيك قائم بالفعل له دورة وكتاب لبيلار أليساندرا The Coffee Break Screenwriter، ووجدت المؤلف يضعني مباشرة أمام عجزي، ماذا لو لم يكن لديك سوى عشر دقائق فقط في اليوم، مدة زمنية تكفي فقط لاحتساء كوب من القهوة، كيف يمكنك الكتابة والإبداع فيها؟

بدأت بالفعل بمجرد الانتهاء من الكتاب في تجريب الدقائق العشر، ضمن برنامج تعافٍ نُصحت فيه بالكتابة لنفسي، وكنت أجرب الأمرين لأول مرة، الالتزام بالكتابة اليومية، والكتابة لنفسي، وتفاجأت أن هذه العشر دقائق نفسها أحاول المواظبة عليها بصعوبة متوسطة. انتقلت بعد هذا فورًا لهامش احتفظت به من فصل «لا حبسة كتابة بعد اليوم» عن تكنيكات تطوير الانضباط الذاتي، ذكر فيه ثلاثة كتب مترجمة وعربية لتعلم الأمر، طبعت أول واحد وأنتظر البدء فيه بعد الانتهاء من كتابة هذا المقال.

في تلك الغرفة الصوتية التي كنت أتحدث فيها عن حيرة الكتابة، كان مؤلف الكتاب حاضرًا، وكانت له مداخلة مهمة تحدث فيها عن «حبسة الكتابة» وعن بعض التقنيات التي يمكن معها تجاوز هذه الحبسة، لم أدقق في الأمر وقتها، ربما لأنني كما ذكرت لم أكن أبحث عن الإجابات هنا، ولكن في فصل «لا حبسة كتابة بعد اليوم» تذكرت هذه المداخلة، فأعدت القراءة، ووجدت تكنيك الدقائق العشر، وتذكرت أيضًا أسطورة الإلهام التي أوهمت بها نفسي، صحيح أنني كنت أكتب بهذه الطريقة لوقت طويل، وليس فقط كتابي الأول الشاهد الوحيد على نجاحها، ولكن أيضًا عشرات المقالات في أوقات متباعدة على عدة منصات كانت تحصد آلاف القراءات أحيانًا، لكن الإجابة عن هذا الإلهام في هذا الفصل كانت حاسمة، ما أفعله أنا لا يمت إلى ما أريد أن أصبح عليه بصلة.

معضلة الموهبة

ما أريد أن أصبح عليه وجدته في الفصل التالي «معراج السيناريست نحو العظمة»، وكالعادة يمكنك أن تزيل - كما فعلت - كلمة السيناريست وتضع مكانها الكاتب، أو المبدع، كان في هذا الفصل التوصيف الدقيق لما يحدث معي:

«معضلة الموهبة أنها تمنحك ما هو جيد فقط، بخلاف العبقرية التي تمنحك ما هو عظيم. الموهبة أن تفعل ما تستطيع، العبقرية أن تفعل ما يتوجب…» ثم أكمل: «أحيانًا، تكون موهبتك هي أكبر عقبة في مسيرتك نحو عبقريتك؛ وذلك حين تعتمد عليها وتعتبرها مرجعيتك وسقفك الأخير. أقصى تعبير عن موهبتك يعني أنك قدمت كل ما لديك بالفعل، وتكتفي. لكن عندما تسلم بأنك ليس لديك فكرة عما تفعله بعد ذلك، ثم تجد البحث عما ينبغي أن تفعله، هنا يأتي دور العبقرية لإنقاذك، وقد يصدمك ما ستراه يحدث».

ربما لم أعُد أعدّ نفسي من الباحثين عن العبقرية منذ سنوات، ولكني كنت أبحث هنا عن توصيف علاقتي بالكتابة، هل أنا كاتب بالفعل ولديه جمهور وعليه أن يستمر، هل أنا هاوٍ صادفت كتابته في موضوعات معينة جمهورًا متحمسًا لهذه الموضوعات لا أكثر، هذا الفصل أعطاني مفتاحًا للإجابة التي ربما لن أحصل عليها قبل أن أبلغ الأربعين على أقل تقدير.

تعاونت مع مؤلف الكتاب في مشروعات كتابة عديدة، من نهايات 2015 تقريبًا عندما اقترحت عليه أن يتولى الإشراف على باب «معرفة» في موقع «إضاءات» الجديد، وعدة مشاريع كتابة إذاعية، ومشاريع سيناريو، ومسلسلات إذاعية سترى النور قريبًا، وفي كل هذه التعاونات، كنت معجبًا بالكتابة، ولكن كنت شاهدًا أيضًا على المعاناة الشديدة للكاتب - الذي ينذر نفسه للكتابة - في التعامل مع هذا الإبداع، وكما صدّر هو نفسه في بداية فصل العبقرية بأنه لا يتحدث من موقع «الكاتب العظيم» المستقر على كرسي العظمة، ويتفضل على الآخرين بتمرير حكمته وقبس من أسرار عظمته، لكن تجربة الكتاب بالفعل هي من رحم هذه المعاناة الشديدة.

والذي يميز هذه التجربة مثلًا عن تجربة الاستماع لحلقات عمر طاهر، أن كتاب «إنقاذ السيناريست» هنا يحيلك على عشرات المصادر الأجنبية في أغلبها، من كتب وأبحاث ودورات وحتى قنوات يوتيوب وبودكاست، وقد أفرد لها في نهاية الكتاب فصلًا خاصًا باسم «أبرز مواقع ومكتبات نصوص السيناريو على الإنترنت»، إضافة إلى العديد من الكتب والمصادر الأخرى التي لها علاقة بالسيناريو أو بعملية الإبداع إجمالًا في هوامش الكتاب.

لم يصدر كتابي الثاني في 2015 ولا في العام الذي بعده، ولا في العام الذي يليه، صدر كما أردته ابنًا لي، بكل التفاصيل التي أردتها، صدر في طبعة محدودة أولًا في 2018، وأعدت إصداره في 2019، وبعد مرور ٧ أعوام على هذا الإصدار لم يحقق سوى 1،3٪ من نجاح الكتاب الأول، هكذا يخبرنا على الأقل جودريدز، حيث حصل الكتاب الثاني على73 تقييمًا، بينما الأول على 5296 تقييمًا حتى الآن.

في فصل «كابوس التعديلات حين يصير فرصتك للتألق» تذكرت جلستي مع الناشر العزيز أحمد مهنا على مقهى البستان، واعترفت بيني وبين نفسي، بأنني صحيح كنت المبدع، لكن مهنا كان على كرسي «المنتج» الذي ينصب الفصل على مهارات التعامل معه كسيناريست، صحيح أن دور النشر لا تمتلك نفس سلطة جهة الإنتاج، لكن في هذا العصر أظن أنها شيئًا فشيئًا تأخذ هذه المكانة بالفعل.

ربما الدروس التي في فصول هذا الكتاب حول التحليل الدرامي والحلقة البايلوت وعناصر التشويق، لم تكن هذه الدروس مصيرية بشكل كبير لي وأنا لست بسيناريست، ولكني في نهاية الكتاب وجدتني أعود للإهداء وأقول للمؤلف الصديق:

إلى محمد السيد أبو ريان، بعض ما جاء في هذا الكتاب، أعاد أيضًا إحياء ما تبقى مني!

# كتب

محمد جلال كشك يكتب: كفاح هادف ولكن ضد الوجود العربي
عائشة عبدالرحمن تكتب: اللغة العربية وعلوم العصر
التاريخ لا يكتبه المنتصرون: عن السرديات المختلفة لتاريخ صدر الإسلام

معرفة