يحدث تسونامي في بلد فلا تبالي به ولا بضحاياه، ويحدث زلزال بسيط في بلد أخرى، فيصيبك القلق على الضحايا. يُقتل فرد أو 10 أفراد في نزاع ما فتصيبك الكآبة، وتراقب الأخبار لحظياً كي ترى القصاص لهم. بينما يُباد الآلاف في منطقة ما، فلا تهتم بهم بقدر فظاعة الحدث. هناك شيء ما يحدث يجعل شعورك تجاه الأحداث المتشابهة مختلفاً، وربما حتى يجعل شعورك وردّ فعلك غير متناسب مع الأحداث، تختنق من حدثِ بسيط، ولا تبالي بحدثٍ أعظم.
إنه التعاطف الانتقائي أو عنصرية التعاطف، لا يمكن وصفها بالعنصرية فحسب، لأنك لست عنصرياً، أنت فعلياً تتأثر للحدثين، تُدين الجريمة في الحالتين، لكن درجة الإدانة مختلفة. قد لا تدرك أنت هذا الاختلاف أو تُدركه لكن لا تفهم ما السبب وراء هذه البرمجة العصبية التي جعلت سلوكك يختلف رغم تقارب الحدثين.
يجب أولاً أن نفهم معنى التعاطف. فقد انشغل علماء الاجتماع بإبراز المصطلح للبشرية بعد حدوث الحرب العالمية الثانية. رغم أن البشرية عرفت التعاطف بالتأكيد منذ آلاف السنوات السابقة، لكن حين ظهرت وحشية الإنسان في الحروب العالمية خشيّ العلماء من أن البشرية ستُفني بعضها. فبدؤوا يتحدثون بشكل أكثر كثافة عن مفهوم التعاطف، وضرورته. بخاصة وقد غيّم السلاح النووي على العالم، وبدت إبادة البشرية فعلاً سهلاً وأبسط من أي وقت مضى.
التعاطف ببساطة هو قدرتك على إبدال موقعك بموقع من يعاني. ويأتي الأصل الإنجليزي للكلمة مترجماً من كلمة ألمانية تعني الشعور بالحب. بدأ الأمر بمحاولة الفلاسفة والعلماء لفهم لماذا يمكن لفعل بسيط، كمشاهدة لوحة فنية، أن يثير في نفس المُتلقي شعوراً عاطفياً. من هنا وُلد مصطلح التعاطف، وبدأ في الرواج كمصطلح له تعريف وتجلّيات حياتية.
في عالمنا العربي قد لا نعرف هذا النوع الفني من التعاطف، ولا التعاطف المبني على المشاركة في الإنسانية فحسب. فالمآسي العربية يعيشها الإنسان العربي فقط، حتى أتت أحداث طوفان الأقصى وما تبعه من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، فبدأت الجامعات الأمريكية حركة للتضامن مع غزة، والتعاطف معها.
هذا التعاطف الناتج عن مشاهد الدمار والقتل للأطفال والمدنيين، قد يؤدي إلى الظن بأن البشرية قد وصلت إلى حالة التعاطف المُطلق، وأنه لا انتقائية في التعاطف هنا. لكن إذا أخذنا خطوة للخلف لرؤية المشهد، سنجد أن السودان في نفس الوقت يعيش مأساة أكثر فداحة، أو لا تقل سوءاً عن الوضع في غزة. وعلى النقيض قد يكون التعاطف مع السودان أسهل وأكثر أماناً لأن العدو ليس هو الكيان الإسرائيلي ذو اللوبي الصهيوني المتنفذّ في عالم المال والسياسة. لكن رغم ذلك تضامن الجمهور مع غزة، ونُسي السودان.
هنا نعود إلى المربع الأول، هناك عوامل تتحكم في ما نشعر بالتعاطف تجاهه، وتُهمِّش الجوانب الأخرى. أول تلك العوامل قد يكون هو إسقاط صفة الإنسانية أصلاً عن هذا الآخر. فالغرب على مدار القرون الماضية ينظر لدول المشرق باعتبارهم كائنات أقل آدمية، أقرب للحيوانية منها للإنسانية، حيوانات بشرية غير متحضرة، تفتقر للتهذيب وللسلوك الراقي الذي ينتشلها من توصيفها الحيواني لمرتبة الإنسان الأبيض الراقي.
بهذا العامل وحده قامت النازية الألمانية بإبادة آلاف اليهود. وقام الجنود الألمان بقتل اليهود دون شعور بالذنب أو الشفقة، لأنهم قد سقطوا نظرياً من اختبار البشرية، بالتالي لا فارق بين قتلهم وبين قتل فأر أو اصطياد حيوان آخر للتسلية فحسب. وبهذا الشعور أيضاً قام الإنسان الأبيض بإجراء عشرات الآلاف من التجارب العلمية الوحشية على المواطنين سود البشرية. شملت تلك التجارب شقّ البطون وقطع الأطراف وإجراء عمليات جراحية كاملة دون استخدام أي مُخدر أو حتى دون الاكتراث بقتلهم ليرتاحوا من آلامهم.
هذه القسوة نتجت من غياب التعاطف تجاه هذا الآخر، وغياب التعاطف أتى ببساطة من الثقة بأن هذا الآخر ليس إنساناً من الأصل، فلا يجب تجاهه ما يجب تجاه الآخرين. مثلما شهدت رواندا عام 1994، حيث بدأت قبائل الهوتو في بث رسائل إذاعية لقتل مواطني التوتسي، استخدموا جملة بسيطة جداً وكرروها في كل بياناتهم، اقتلوا الصراصير، فتحول الإنسان لمجرد صرصار في نظر عدوه، فأدى الأمر لقتل 800 ألف شخص، واغتصاب مئات الآلاف منهم، تلك الكائنات التي صادف أنها بشر، لكن لم يشعر أحد من قاتليهم بأي شفقة تجاههم لأنهم صراصير في نظرهم.
إن الفكرة القائلة إن الآخر ليس إنساناً، لم تتوقف عند العرق الأبيض والأسود، أو أتباع دين معين ضد أتباع دين آخر، بل تعمّق الأمر ليصل بين أبناء نفس العرق ونفس الدين ونفس الوطن. وهو ما لخصّه الكاتب جورج أوريل في روايته «مزرعة الحيوان»؛ ففي بداية العمل نجد إعلاناً واضحاً أن جميع الحيوانات متساوية. ثم حين تصاعدت الأحداث نجد إعلاناً آخر يقول إن جميع الحيوانات متساوية، لكن هناك حيوانات أكثر تساوياً من غيرها. وبهذه البساطة تحوّل التعاطف من فعل عام يشترك فيه الجميع، إلى فعل انتقائي تحصل به فئة على مكتسبات ما، لكن تُحرم باسمه أيضاً فئة أخرى.
هذه المكتسبات قد تكون إعفاء من أداء مهام معينة، لأنهم أكثر رقة، بينما يكون مقبولاً أن يقوم بتلك المهام مجموعة أخرى لأنها أصبحت في التصور العام كائنات مخلوقة من الأصل لهذا الشقاء. هذا الأمر يفسر أيضاً تعاطفنا الانتقائي مع بعض الأحداث دون غيرها. فحين نشبت الحرب الروسية الأوكرانية، تعاطف العالم كله مع اللاجئ الأوكراني الذي يضطر للنزوح من بيته، والمشي لمسافات طويلة أو العيش على طعام رديء لأيام معدودة.
بينما لم يتحرك العالم، وحتى العالم العربي الشعبي، تجاه النزوح شبه الدائم لسكان الدول الأفريقية التي تفتك بها الحروب على مدار العقود الماضية. ويضطر أهلها للعيش في مجاعات تقترب من كونها دائمة. ويشربون مياهاً ملوثة، وفوق ذلك لا يجدون الدول التي تفتح لهم أذرعها لاستقبالهم. التعاطف الانتقائي هنا أتى من تصورنا أن المواطن الأبيض الغربي لم يُخلق لتحمّل المشقة والتعب. بينما المواطن الأسود، والإنسان الإفريقي، هو أقدر على تحمل تلك المشقة والمآسي.
لهذا أحياناً يلجأ الإنسان المُترف دون أن يدري إلى تسليط الضوء على ابتسامات الفقراء أو اللحظات القليلة النادرة التي يجلس فيها الفقير في ظل شجرة ويتناول طعاماً بسيطاً رفقة أحد أبنائه أو زوجته. أو يقوم عامل نظافة بالصلاة في حديقة منزل فخم، فيشارك صاحب المنزل الصورة حاسداً عامل النظافة على خشوعه وقربه من ربه.
تلك الأفعال يحاول بها الإنسان تسكين ضميره عن التعاطف مع الآخر ومعاناته بتصوّر أن الآخر قد تأقلم مع معاناته، بل يصل الأمر إلى جعل تلك المعاناة مجالاً للحسد، والقول إن هذا الآخر الذي يعاني، يملك من قوة القلب وثبات الروح ما لا يملك الآخرون، مما يعني بعبارة أن هذا الآخر خُلق ليعيش ما يمر به، لهذا فلا داعي للتعاطف معه.
لا يمكن تجاهل دور الإعلام في هذه القضية، لأن الآلة الإعلامية كفيلة بتغيير كل قواعد المعادلة. فقد يكون غياب التعاطف مع حادث في بلد، والتعاطف مع نفس الحادث في بلد آخر، سببه أن التغطية الإعلامية تركز على حدث منهما دون الآخر.
يكفي بالطبع أن تعرف أن هناك تصنيفاً إعلامياً للمناطق باعتبارها مناطق ساخنة، وأخرى غير ساخنة. هذه المناطق الساخنة تكون صاحبة النصيب الأكبر من التغطية الإعلامية، بينما تصبح المناطق الأخرى ثانوية في العرض، بالتالي ثانوية في الاهتمام.
فوسائل الإعلام الغربية تميل للتركيز على مآسي المواطن الغربي أو الفئة غير الغربية لكن يراها الإعلام تتشارك مع المواطن الغربي صفاته، مثل اللون الأبيض والدين والثقافات. فحريق كاتدرائية نوتردام في باريس أصبح في دقائق حدثاً عالمياً، بينما الحرائق اليومية والأكثر مأساوية في دول أسيوية أو أفريقية لا تُغطى إعلامياً من الأصل. وإذا تمت تغطيتها فسيكون بنبرة باردة توحي بأن هذا حدث معتاد تعيشه تلك الدول يومياً، فليس هناك ما يدعو للقلق أو الشعور بالتعاطف معهم.
في كثير من الأحيان، تكون الصورة المنقولة مغلوطة، فيتحول هذا التعاطف تجاه الجاني لا الضحية. فالولايات المتحدة في حربها في أفغانستان استطاعت شيطنة الأفغان وإظهار وحشيتهم وبداوتهم، إلى الدرجة التي جعلت لحظة جلاء الأمريكيين عن أفغانستان لحظةُ يتناقلها العالم بالرعب على مصير أفغانستان. رغم أن الوجه الآخر للقصة هو وجه جيد، مقاومة وطنية استطاعت أن تتغلب على المحتل. فبدلاً من أن تجعلك التغطية الإعلامية سعيداً أو حتى محايداً، جعلتك متعاطفاً في الاتجاه الخطأ.
الأمر أقرب لفيلم سينمائي يجعلك مخرجه متورطاً عاطفياً مع أحد الأبطال دون أن تدري أنك تتعاطف مع الشرير في القصة، وأن ما تتمناه هو إفلاته من العقاب أو ينجو ليرتكب مزيداً من القتل. كأن تتعاطف مع جندي غربي في منطقة شرق أوسطية يحاول سكانها قتله. أنت لم تهتم بأن هذا الجندي مُحتل، وأنه قتل بالتأكيد عشرات من هؤلاء المدنيين، لكن لأنك تسمع القصة من وجهة نظره تعاطفت معه فحسب.
إذن فالتعاطف وغيابه قد يفسر جانباً من تصرفات البشر تجاه بعضهم. ويبدو أن التعاطف قد يسهم في حل عديد من المشكلات والصراعات التي يعيشها العالم، لكن الجانب المظلم هنا أن التعاطف الخطأ يمكن أن يؤدي لتطرف مرعب. فالأهم هنا هو أن تدرك أن التعاطف ليس لمجرد مساعدة الآخرين بشكل أساسي، بل لمساعدة نفسك أنت. فأنت حين تستطيع التعاطف مع المختلف والبعيد عنك، تستطيع بذلك أن تحافظ على إنسانيتك، وأن تتمسك بمبدأ واحد تقيس عليه كل الأحداث. فتعاطفك مع الآخر ليس منحة تُهديها إليه، وتَمُنْ عليه بها، بل هو علامة نضجك، ودليل إنسانيتك.