مجتمع

«على بصيرة»: خارطة طريق للتعافي من الإساءات الروحية واسترداد الإيمان

«على بصيرة»، كتاب يفتح عينيك على جراح الإساءات الروحية، ويمنحك خارطة شفاء تعيدُ الإيمان إلى قلبك حرًّا من وصاية أحد.

future غلاف كتاب «على بصيرة - مسودة أولية لاستعادة الأنفس الضائعة» (عصير الكتب: 2021)

«إن أشد الحسرة أن تصل إلى ختام حياتك وتدرك أنك لم تعش حياتك بل عاشها شخص آخر؛ قد يكون ذلك بأنك عشت حياتك وفق معاييره ومن منظوره، أو لخدمة مشروعه وتطلعاته في الحياة، أو عشت الحياة كما عرفها هو ومررها إليك. هذه المأساة ناتجة عن تبادل الطرفين الإسقاطات؛ فأسقط عليك هو ماضيه ومستقبله، بينما أسقطت أنت عليه تمثل الملك العالم والعارف بكل شيء».

هكذا يقول الطبيب والمعالج النفسي الدكتور شهاب الدين الهواري في كتابه «على بصيرة: مسودة أولية لاستعادة الأنفس الضائعة» (عصير الكتب: 2021). فكيف يعيش شخص آخر في حياتنا أو بالأحرى كيف يحيا فينا فتتلاشى ذواتنا؟

يعرف الكتاب الإساءة بأنها حرماننا مما كان مستحقًا لنا. تقول عالمة النفس ماريون وودمان: أرواحنا كعصافير، ولكل عصفور لحن خاص يحن إلى ترديده فدعه يشدو بأغنيته. على المستوى الأسرى، يُحرم الطفل أن يكون نفسه لأن أحد والديه يسجنه في حيز توقعاته الضيق فينتهي الحال بالطفل إلى تسخير كل إمكانياته لإرضائه. هذا الطفل إن استمر على هذا الحال فهو يكبر بنوع من الأنا الوالدية أي الأنا المتماهية دون أن يختبر نفسه في أي مرحلة عمرية. تفوته الأنا المتمايزة ومن أهم سماتها تطوير الملكة النقدية. هذه الأنا هي شرط النضج النفسي ومتطلب أصيل لاستكمال رحلة النمو التي يفترض أن يطورها في مرحلة المراهقة بين أقرانه منفصلًا عن والديه.

يقول الشاعر الأمريكي روبرت بلاي:

عبر جرح يجد الفرد مفتاح كنزه؛ عبر جرحه وجد الطريق إلى قلبه. أما إن قرر هذا الشخص في مرحلة متقدمة تخطي ما شهد في طفولته والمرور بعملية من إعادة الإحياء بعد الموات، فهو حينها يكتسب الأنا المتجاوزة وهي ولادة اختيارية بالعزم والتسليم بعد الولادة القهرية التي قررها والداه. يكون قد اجتاز معضلة الانتصار والهزيمة إلى التسليم والتجاوز فلا يتحرك استجابة لدافع خارجي ولا يشعر أنه مضطر لإثبات أي شيء لأي أحد. ربما هي مقصد السيد المسيح عليه السلام من قوله: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لَا أَحَدَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللهِ إِلّا إِذَا وُلِدَ مِنْ جَدِيدٍ» (يو: 3:3).

يتناول الكتاب أيضًا الأقنعة الخاصة التي تمثل الواجهة النفسية والتي نصدرها للعالم عن أنفسنا، لكن هناك أيضًا الظل أو الجانب المظلم الذي لا ندرك وجوده فينا. الظل الذي لا نتصالح معه إما لأننا لا أعرفه أو لأننا نرفضه. مرات عديدة نشعر فيها بانجذاب أو نفور شديد من موضوع ما أو شخص ما أو شيء ما دون سبب منطقي. في هذا علامة على حضور طاقة الظل هنا فللظل قوة جذب ونفور عالية. يبقى سبيل التنقية والتطهر الوحيد هو مواجهة هذا الظل ومعالجته وهذا دور التزكية. عملية مؤلمة لا شك، لكنها تؤدي إلى النضج فكشف الظل عملية حقيقية للغاية.

يضرب الهواري مثلًا بأزمة برصيص الراهب التي نتجت عن غفلته عن ظله. ائتمن أهل فتاة الناسك المتقشف على رعايتها أثناء سفرهم. بنوا لها غرفة بجوار صومعته، فظل الشيطان يراوده وهو مطمئن لنفسه حتى زنا بها. زاد في فعلته وقتلها حين علم بحملها ثم توسل للشيطان لينقذه من جريمته وسجد له.

البيئات الروحية المسيئة

بخلاف المستوى الأسري الذي عرضناه، يتحدث الكتاب أيضًا عن المستوى الروحي. يعرف الكتاب «الأنا الروحية» باعتبارها مفهوم الفرد عن نفسه في السياق الروحي وتشمل الحالة الروحية للفرد وكذلك التوجه الديني له ومشاعره الروحية. بعدها يتعرض للتدين الاضطرابي الذي يُقصد به الهروب من مشكلات الواقع لا ابتغاء وجه الله. في هذا النمط من التدين، يبحث صاحبه عن نفع شخصي من سد الخواء الروحي الذي يملأه، أو رفع تقديره لذاته، أو الدخول في وسط يكون متميزًا فيه وهو نجمه.

ثم يأتي، في رأيي، أهم ما يميز هذا الكتاب. يستفيض الهواري في الإساءات الروحية وهي مضمار يُحسب له خوضه إذ قلما يُتناول وإن كثر ضحاياه من أطياف إسلامية عديدة وغير إسلامية بالطبع. هذا الموضوع المسكوت عنه بدعوى الستر أو بدعوى عدم نشر الغسيل القذر فيستمر في التوغل والانتشار.

أولًا.. يعرف الهواري الإساءات النفسية فيقول إنها ذات الطابع الروحي أو في البعد الروحي من الظاهرة الإنسانية أو إساءات بالقول أو الفعل صدرت عن ممثل للروحانية أو الدين في منظورنا الشخصي ومنها اعتداءات جنسية، أو تعنيف وإهانة وازدراء، أو عنصرية وتحيز.

ولكن، كيف تعرف أنك في بيئة مسيئة روحيًا؟

يميل الأفراد في هذه المجتمعات والأوساط المغلقة إلى التحزب، واتباع سياسة نحن وهم، وأنا والآخر، واستعمال الخطابات المزدوجة؛ واحد للعامة وآخر للخاصة. ويشيع فيها النزعة الطهرانية الرافضة للرغبة والجسد، والمتخذة من الخطأ البشري مبررًا للإقصاء

من علامات هذه البيئات المسيئة: العمى الروحي؛ أن تقتفي طريقك إلى السماء مغمض العينين وفق مبدأ: أغمض عينيك واتبعني. هذا الاضطراب المستشري المعزز بتدعيم التابعين لمعنى الكمال في المتبوع.  ينتهي بك الحال حينها إلى حيث أراد غيرك، بينما الرسالة الروحية الصادقة هي: افتح عينيك وتفكر. فالحض على التفكر جاء في القرآن الكريم 17 مرة في مواضع مختلفة. جوهر الشرائع كلها هو أن يكون التسليم والاتباع لله ورسله، أما القادة والمتبوعون فهم مرشدون في الطريق لا حكماء عليه ولا وسطاء للمعرفة ومنفذًا لها.

من علاماتها كذلك: الصوابية أو الحجر الروحي حيث ثقافة (القول الواحد)، والصوابية المطلقة، والتحذير من سماع (الآخرين) لأن القادة يريدون (حماية) الأتباع في مجتمع الإيمان من (الخطر المحتمل). ومتى اختلفت وجدت ألسنة حدادًا  تعبيرًا عن التسلط الروحي. ونجد في أدبيات بعض البيئات الروحية أمثلة واضحة على هذا منها مقولة: «من قال لشيخه لِمَ؟ لم يُفلح»، و«من اعترض انطرد».

الاستبصار والتعافي

يصعب استبصار الأذى الروحي لعدة أسباب من بينها الاستثمار الروحي فعادة ما يستغرق الأمر سنوات من التبعية قبل استبصار الفرد طبيعة الأذى الذي يختبره، لربما يجد صعوبة الإقرار بخيبة المسعى؛ لكونها لا تهدد فقط قدرتك في الحكم على الأمور، بل الجهد والولاء الذي منحته. لكن ما يعينك هو أن النور الذي تبصره خارج النفق يستحق الجهد الذي تبذله في السعي إليه. الاشتباك الروحي سبب آخر لصعوبة الاستبصار إذ يعاني الأفراد في البيئات المسيئة روحيًا من خلط الانتماء الديني بالانتماء للدين، والتبعية الروحية لشخص أو جماعة بالروحانية. وعليه، يشعرون أن تحررهم من هذه الرابطة يعني تخليهم عن ارتباطهم الديني. ما يعينك هو تجديد علاقتك المباشرة بالله، ومعرفته معرفة متمايزة واختبار حضوره في حياتك.

الخوف من التعرض لعقوبات روحية كذلك من الأسباب. والمقصود بها الأذى الذي يطال المتعافي من بيئات الإساءة الروحية من بعض أفراد هذه الأوساط، والذي أحيانًا ما يكون التواطؤ من قادتها. وتشمل هذه العقوبات الإيذاء النفسي والتتبع، وقد تصل إلى الإيذاء الجسدي. ما يعينك هنا هو تذكر أن ظهور هذه العقوبات هو سبب أدعى للانفصال، بل يمنحك دافعًا أقوى للمضي قدمًا.

في مرحلة التشافي، تكون اليقظة ضرورية ثم كسر الإنكار. يقول أحد الناجين من الأذى الروحي:

«هذا الوعي مؤلم جدًا؛ لم يكن بمقدوري الإنصات للشكوك التي جالت حول شيخي؛ فهو معلمي وقدوتي في نهاية الأمر. كيف يمكنني التصديق أنني سلمت روحي ليد غير أمينة؟! لكنني الآن غاضب جدًا، حتى أنني يصعب علي تصديق إمكانية تجاوز الأمر».

إذا ما عبرت إلى الجهة الأخرى فرأيت بيئتك الروحية مسيئة على الحقيقة فسترى أيضًا هؤلاء الشيوخ والقادة الدينيين من منظور إنساني منصف. ستتذكر قول الله تعالى في سورة الأعراف: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ۖ..} هؤلاء بشر؛ كل منهم إنسان له زلاته وتحدياته وإخفاقاته كما له جهود مشكورة. حينها، يمكنك معاودة الاتصال الواعي مع بيئات روحية، قد تكون نفسها لكن من موضع مختلف، أو بيئات روحية جديدة بالكلية.

ستكشف لك رحلة التعافي أن من تسببوا في الأذى الروحي عادة ما يكونون في حالة عمى عن مفهوم الأذى الروحي أساسًا. وكذلك معرفتك بأن العلاقة المسيئة روحيًا هي علاقة اشترك طرفاها بقدر ما في إنشائها واستمرارها مدة بقائها. وهذا ما يساعدك على رؤية النفس والآخر بشكل متراحم في إطار إنساني بسيط.

استرداد الإيمان

هذه فرصة حقيقية لخوض رحلة بطولة من نوع خاص لتحصيل كنز روحي ثمين. تشمل رحلة استرداد الإيمان لمن اختبروا الأذى الروحي عدة مراحل منها استرداد العلاقة والقيم الروحية والقبس الروحي. يقول المعالج النفسي جريجوري بوجارت: «حين يتهيأ التابع، على المتبوع أن يرحل». يميل الأتباع إلى إسقاط صورة الكمال الإلهي على القائد الروحي. هذه الصورة الإلهية هي «إيماجو داي Imago Die» أو صورة الرب. سعي بدائي لاستحضار الله في شكل قائد متبوع، هذا الإسقاط استفاد منه الطرفان؛ التابع والمتبوع، ولكن تضرر منه الإيمان.

وتعد العلاقة المضطربة مع الوالدين في الطفولة هي الجذر الرئيس في هذا الارتباط المضطرب بين التابع والمتبوع. والحل يكون باختبار النوح على الوالدية المفقودة، وعدم السعي لتحقيقها من خلال القادة الدينيين. يمكن للكثيرين استرداد هذا الإسقاط مع بقائهم أوفياء وعلى علاقة طيبة بالقائد ذاته، لكن بالنسبة للبعض الآخر يعني ذلك الانفصال كلية عن القائد وجماعته. في الغالب يتبع ذلك شعور بالفقد والتشوش وتطفو آلام وذكريات الطفولة مجددًا إلى السطح لأن هذه العلاقة لم تكن سوى محاولة لمداواتها.

ينفصل المرء روحيًا عن قائده الديني ويتوقف عن اختبار العلاقة مع الله في ظل العلاقة مع هذا الرمز أو المتبوع الديني، ومن ثم اختبار العلاقة المباشرة مع الله لا بوساطة هذا القائد. والحل يكون بالتدريب على رفع يدك إلى الله مباشرة في غرفتك المغلقة، ردد اسمه بيقظة وحضور، وكلمه بلسانك أنت لا بلسان شيخك، وأن تحدثه عن همومك وآلامك، عن همومك المادية والروحية والنفسية. احتضن صحبة الله لك، وارفع بها رأسك وتقبل مسؤوليتها كذلك.

يسترد المتعافي التشريف الإلهي بعد أن كان مُستصغرًا في البيئة الروحية المسيئة إلى حد التسفيه من رأيه ضمن إسكات الأصوات «الناشزة» «الضارة بشعب الإيمان». يسترد ملكته النقدية بعد دفنها وتضحيته بالنقد والإنكار ولو السؤال عما يريبه أو لا يستسيغه حفاظًا على الإيمان. يسترد كذلك الخيارات الحياتية بعد أن أوكلها كاملة إلى المتبوع اعتقادًا في صوابية آرائه لأنها «أدق وأحكم وأكمل» من غيرها. هنا يخرج التابع من فلك المتبوع. يخرج ليُعمل عقله في أموره المختلفة من مطعم وملبس ومسكن وحتى علاقته الخاصة بعد أن نحّى مبدأ السمع والطاعة جانبًا. يسترد المتعافي سعة الدين إذ يميل بعض القادة الدينيين إلى تضييق خيارات الحياة على الأتباع من منطلق سد الذرائع وحماية شعب الإيمان.

ربما آن الأوان لإماطة اللثام عن الإساءات الروحية في مجتمعاتنا دون تردد. أدبيًا، صدرت بعض الأعمال الروائية التي تتناول الظاهرة وتأثيرها غالبها كان عن تجارب شخصية إما لمن كتبها أو لمن في دوائره مثل رواية «بني إنكار» (دار السراج: 2019) للكاتب أحمد الفقي، رواية «زاوية الشيخ» (دار النسيم: 2020) للكاتب د. حاتم رضوان، ورواية «الراعي» (دار الهالة: 2021) لكاتبتها حنان سليمان.. أنا. ربما هذه هي البداية فقط وسنشهد مزيدًا من الأعمال الكاشفة في السنوات القادمة.

تقول خاتمة الكتاب:

التعافي رحلة حياة، ومراحل البطولة ليست لمرة واحدة بل تدخل في إحداها للتهيأ للتي بعدها. الضمانة الوحيدة هي متابعة السعي ومراجعة الموقف من النفس والحياة.

{بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ..} (القيامة).

# كتب # قراءات كتب # صحة نفسية

سنوات الإسلام الأولى من خليفة بن خياط إلى المطهر المقدسي
سيكولوجية الإنسان المقهور: جذور العنف في مجتمعات التخلف
الاكتئاب: مقدمة مختلفة جدًا

مجتمع