ماتوا كلهم إلا أنا.
يقولها الناجون من الكوارث الطبيعية أو القصف العسكري في منطقة ما. تكون الجملة منطقية نوعًا ما حين تصدر من فرد فقد عائلته أو إنسان فقد العشرات من قريته وأصدقائه. حينها يمكن أن ترى الجملة تعبيرًا عن لوعة الفقد، ونار الحزن على هؤلاء الأقارب والأصدقاء. لكنها أحيانًا تصدر ممن لا تجمعه قرابة دم، أو حتى قرب جغرافي من الضحايا. لا يكون عندها متعاطفًا مع الضحايا وحسب، بل يشعر بالذنب كون الكارثة وقعت بعيدًا عنه. تأنبه نفسه لأنه آمن وهناك من لا يجدون الأمن. لا يقبل فمه الطعام لأن هناك جياعًا في منطقة ما يشاهدها ويعرف بؤس أوضاعها.
إنها اللحظة التي يتحول فيها التعاطف إلى حالة أكبر، يصبح شعورًا بالذنب لأنك نجوت. صاغ المحلل النفسي وليام نيدرلند ذلك المصطلح. ينتقل الذنب من شعور إلى مرض، ويتجلى المرض في أعراض نفسية وجسدية. فيعيش الشخص حالة من الاضطراب العاطفي في حياته عمومًا. كما تصبح نظرته لنفسه سلبية وقاسية، ويتدنى احترامه لنفسه تمامًا. ثم يغلب عليه التفكير بالتمني، ليتني أستطيع منع المجاعة، ليتني أملك القوة الكافية لإيقاف هذه الحرب. هذه الأفكار وغيرها تسكن عقل الشخص فتصيبه بصداع مزمن، وإرهاق متواصل، وأرق دائم.
وأحيانًا يدفع الشخص نفسه لمتابعة الأخبار لحظة بلحظة، ويقضي وقتًا أطول في تعريض نفسه لهذه المأساة. يشاهد تفاصيلها، ويغرق نفسه في كل ما ينتج عنها من مواد مصورة أو إخبارية. يفعل ذلك بدافع الواجب، أو لشعوره أن إغراق نفسه في تلك التفاصيل هو نوع من جلد الذات الواجب القيام به تعويضًا لتقصيره في حقها أو عقابًا لنفسه على نجاته من الكارثة.
تزداد تلك المشاعر حين تكون تلك المأساة معارضة للقواعد والمبادئ التي يتربى عليها الشخص، فمثلًا يتعلم منذ صغره أن مساعدة الضعيف واجبه، لكنه الآن يرى ضعيفًا ولا يستطيع مساعدته. كذلك يتربى الإنسان على ضرورة أن تسود قيم العدالة والخير في العالم، لكنه في لحظة يرى الظلم يغزو المكان، والشر يسيطر والخير ينزوي أمامه، فيعيد حينها مساءلة وجوده بأكمله، وقناعاته كلها.
حين تكون الجماعة محل المأساة مشتركة مع الفرد في رابط ما، مثل اللغة الواحدة أو الدين، أو ارتباط جغرافي سابق، أو حتى عرق واحد. أو تزامن وجود الشخص في مكان الكارثة، أو اكتشف أنه نفسه كان جزءًا من أسباب حدوثها بصورة ما. حينها يشعر الإنسان أن مكانه الطبيعي أن يكون مع هؤلاء يتقاسم معهم مصيرهم ومأساتهم.
مثلما قالت الروائية المصرية أهداف سويف في روايتها «خارطة الحب»، على لسان «آنا»، بطلة الرواية، واصفة حال زوجها إدوارد، الذي عاد لبريطانيا بعد أن أدى مهمة حربية في السودان عام 1899، رأى فيها دمار الحروب وويلاتها:
زوجي تبدل، سبعة أشهر وأنا أتتبع أخبار السودان، سبعة أشهر وأنا أتضرع إلى الله وأدعو له أن يعود سالمًا، والآن عاد، ولكني أكاد لا أعرفه، نحف جسده وهزل، وبدا أن الشحوب كامن تحت بشرته، لقد استقال زوجي من القيادة في الحرب، ومن حينها زاد اضطرابه واعتكف في حجرته، ورفض أن يسمح لي بالجلوس معه أو حتى أن أحضر له الشاي، مرت ثمانية أسابيع على عودته من السودان، ولم يتبدل به شيء، يجلس بالساعات الطويلة في حجرة مكتبه مشتت الذهن ضعيفًا.
ومن خلال السرد نجد أن الزوج كان لا يرد على زوجته حين تواجهه بمشكلته إلا أنه يحتاج للراحة وأن يكون بمفرده. ولا يأكل إلا أقل الطعام، ولا يغادر غرفته معظم الوقت، وأن روحه باتت مسكنًا لمخاوف مرعبة. مخاوف مفزعة لم يستطع أن يتخلص منها إلا بموته.
تعطينا تلك القصة لمحة عن مآل الشعور بالذنب حين يسيطر على الإنسان. شللٌ ينتهي بالموت. لكن لن يستفيد أحد حين يتحول هذا التعاطف إلى قيد يشل حركة الإنسان، وحين تبتلعه مشاعر الذنب فينسحب من حياته. لذا عليك أن تتخفف تدريجيًا من هذه المشاعر التي تغمرك. أول وسيلة لفعل ذلك هو تجنب متابعة الأخبار أكثر من اللازم. فتخصص لها وقتًا محددًا في وسط يومك، لا في بدايته كي لا تنهار دفاعاتك النفسية مع بداية اليوم. ولا في نهايته حين تكون وحيدًا أو على وشك النوم، فتسيطر الأخبار على عقلك الباطن.
كما أن أكبر ما يمكن أن تقوم به هو أن تعيد طرح السؤال على نفسك بشكل مختلف. بدلًا من تكرار التساؤل عن سبب أن الجميع ماتوا إلا أنت، أو لماذا يصابون بالمأساة بينما تنجو أنت. عليك أن تسأل نفسك كيف أساعد في تخفيف المأساة على أهلها؟ أو كيف أتضامن معهم؟ وكيف أوجه حياتي ككل بحيث تخدم القضية العادلة التي تدفع تلك المجموعة البشرية ثمن الإيمان بها؟ وغير ذلك من الأسئلة التي تساعدك في توضيح مسار حياتك بالكامل، بدلًا من التركيز على لحظة المأساة فحسب.
كما سيكون من الجيد فهم أن هذا الشعور يمكن أن يكون أحد أعراض الإصابة بكرب أو اضطراب ما بعد الصدمة. لهذا فإنه بجانب الأمور المذكورة أعلاه للتخفيف من وقع هذا الشعور عليك، يجب على الفرد أن يستعين بمختصين في مرحلة ما أو عندما تصبح الأمور أكبر من قدرته على التحمل. كأن يصبح الشعور بالذنب شديدًا، أو تطارده ذكريات الماضي بصورة مستمرة. وتصبح الكوابيس والأحلام المزعجة هي رفيقة نومه دائمًا. واللحظة التي يجب ألا يتردد فيها الشخص عن طلب المساعدة الطبية المختصة هي اللحظة التي تبدأ أفكار الانتحار في مراودته، أو يكون قد حاول الانتحار فعليًا.
وأحيانًا لا يكون طلب المساعدة مستساغًا من المجتمع نظرًا للتهوين مما يشعر به الفرد. أو ظنًا أن مجرد وجودهم بجواره سيحل المشكلة. لكن هذا الإشكال يزول إذا حاولنا فهم شعور الذنب ذاته. فالشعور بالذنب لا يأتي لمجرد وجود الشخص بمفرده، أو لأنه يرغب في أن يشعر بهذا الشعور. بل الذنب، طبقًا للتعريفات النفسية، هو تأثير نابع عن وعي ذاتي وشعور أخلاقي متمثل في تقييم سلبي للذات، كما أنه أحيانًا يكون تجربة شعورية متكاملة تأتي بعد التعرض لصدمة أو لكرب ما.
يترك علم النفس فترة زمنية لاختبار الشعور، إذا ما كان شعورًا طبيعيًا بالتعاطف ستقل حدته مع الوقت أو تحول لعرض مرضي. فبعد انتهاء الحدث الصادم يمكن أن يبقى الإنسان لمدة تتراوح ما بين ثلاثة أشهر وستة أشهر ملازمًا لشعور التعاطف والذنب تجاه الضحايا. في تلك الفترات يعد الأمر طبيعيًا بنسبة كبيرة، أما إذا انقضت تلك الفترة وظل الشعور موجودًا، أو ظهرت علامات على تطوره لما هو أكبر حينها يكون الأمر في طريقه للإصابة بكرب ما بعد الصدمة.
يعالج الأطباء النفسيون تلك الحالة بأنواع متعددة من العلاج المعرفي السلوكي. حيث يقوم المعالج برفقة مريضه بالغوص في الأفكار السلبية واستكشافها، خصوصًا تلك الأفكار التي تسهم في وجود هذا الشعور بالذنب. ويقوم المعالج باستخراج الأفكار غير الواقعية واستبدالها بأفكار واقعية ومنطقية، فيساعد ذلك بنسبة كبيرة في تخفيف الألم.
لأن معظم الأفكار تكون أفكارًا مضادة للواقع أو للحقيقة، يبالغ فيها الشخص في تصور قدرته على دفع الأذى أو يرى نفسه سلبيًا بصورة مبالغ فيها عكس الواقع. فيرى مثلًا أنه يتلقى مساعدة كان الآخرون في حاجة إليها أكثر منه، وكان هو السبب في موت الباقي. أو أن الآخرين ماتوا لأنهم أكثر شجاعة، بينما كان هو أشد جبنًا واختبأ. أو أنه كان بإمكانه إيقاف الحرب أو الدمار، أو منع الكارثة الطبيعية بصورة أو بأخرى.
لكن كل كذلك لا يكون صحيحًا في الغالب. لذا عليك أن تتقبل مشاعرك السلبية والإيجابية، واسمح لها بالبروز على السطح، وتحدث عنها. وشارك مشاعرك مع العائلة والأصدقاء حتى يخبروك بشكل منطقي عن مخاوفك ومدى واقعيتها. واستمر في فعل ما يخفف شعورك بالألم، الكتابة أو الرسم، أو ممارسة أي رياضة أو فعل اجتماعي. كالتطوع في أي جمعية أهلية لخدمة ضحايا الكارثة التي تؤرقك، وتقديم المساعدة للآخرين.
وتأكد أنه لا أحد يريد منك أن تكون لا مباليًا بما يحدث حولك. فكما يقول الرئيس البوسني السابق، علي عزت بيجوفيتش، إنه إذا خير بين الحزن واللامبالاة، فسوف يختار الحزن. فالحزن يثبت لك أولًا أنك لا تزال إنسانًا تتأثر بما يصيب بني جنسك، ولم تخرج من الإنسانية إلى حياة الغابة التي لا تبالي فيها سوى بوجبتك اليومية، ولم تخرج من الفطرة الأولى للتشارك والتآخي إلى الحداثة الفردانية التي تجعلك تتمركز حول ذاتك وملذاتك.