في المعتاد تتحول عملية اختيار أفضل 10 أفلام مصرية في العام إلى عبء لا يطاق، فهي تدفع الناقد إلى اختبار قناعاته، ومحاولة التخلي عن بعض معاييره، ويضم للقائمة أفلاماً، في المعتاد، لا يستطيع حتى ترشيحها لأصدقائه، وذلك ليصل إلى الرقم السحري «10»، فعندما ننظر إلى السنوات الأخيرة نجد أن عدد الأفلام المصرية الجيدة بحق لا تتجاوز الخمسة، بينما يكمل الكاتب مقاله بالأقل سوءاً.
يختلف الوضع هذا العام، ليس فقط من حيث الكم، إنما الكيف، وهو الأهم بالتأكيد، في ظل عرض بعض من أفضل الأفلام المصرية بالعقد الأخير، سواء في المهرجانات السينمائية العالمية والمحلية أو العروض التجارية، أفلاماً متنوعة سواء في أنواعها السينمائية أو أسلوبيتها الفنية، بعضها روائي والبعض الآخر وثائقي.
2024 عام عُرض خلاله 11 فيلماً لمخرجات مصريات، وهو رقم غير مسبوق بالفعل، وتربع على عرش شباك التذاكر أو الأعلى إيراداً لتسعة أسابيع كاملة فيلم أبطاله ليسوا من نجوم الصف الأول، ونسبة كبيرة من الأفلام المتضمنة في هذه القائمة تمثل العمل الطويل الأول لمخرجها/ مخرجتها.
ملصق فيلم «دخل الربيع يضحك»
تجربة سينمائية مختلفة تقدمها نهى عادل في فيلمها الروائي الأول، لجأت المخرجة إلى أسلوب الأنطولوجي، أي الأفلام التي تتكون من أفلام قصيرة يربطها خيط رفيع، ويتمثل الخيط هنا في فصل الربيع من ناحية، وقصص النساء العاديات من جهة أخرى، إضافة إلى التصاعد الذي يشبه الكريشندو الموسيقي، فيبدأ كل فيلم قصير بمشهد بسيط واعتيادي، ثم تتوتر الأجواء بالتدريج لتصل إلى لحظة الانفجار التي يأتي بعدها التطهير سواء للشخصيات الفيلمية أو المتفرج.
عُرض الفيلم في مهرجان القاهرة السينمائي ليمثل مصر في المسابقة الرسمية، ويصبح من أهم أفلام المهرجان، كتجربة سينمائية مميزة بأسلوبها الفني واستعانة مخرجته بممثلات غير محترفات، مما أضفى على الفيلم طابعاً شديد الواقعية وأثبت أن الأفلام لا تنجح بأسماء النجوم على البوسترات الخاصة بها، إنما بقدرة المخرجة/ المخرج على استخراج الأداء الأفضل من الممثلة/ الممثل.
يقدم بسام مرتضى في فيلمه الوثائقي قصة شديدة الرقة والحميمية والصراحة في آن واحد، حيث يستشكف جزءاً من ماضيه وماضي عائلته، وهي تلك الفترة التي قضاها والده في المعتقل بنهاية الثمانينيات، ويستخدم هذه الاستعادة منطلقاً لقراءة تاريخ عائلته وديناميكيات العلاقات بين أفرادها.
يربط بسام بين الخاص والعام، الوضع السياسي لمصر في الثمانينيات، وماضي والده الثوري من ناحية، وكيف انعكس هذا الوضع على عائلته من ناحية أخرى، بين الأم التي حاولت دعم الأب خلال فترة اعتقاله بأفضل طريقة ممكنة منتظرة خروج زوجها شاعراً بالامتنان، لتجده رجلاً آخر، ربما حطمته التجربة أو على الأقل غيرته فاهتزت الأرض تحت قدميها، وبين الأب الذي أصبح الآن رجلاً مسناً، يعيد قراءة ماضيه بأخطائه وإخفاقاته على الملأ وأمام كاميرا كاشفة.
مشهد من فيلم «معطراً بالنعناع»
«معطراً بالنعناع» تجربة سينمائية تثبت مدى التنوع لهذا العام السينمائي المصري، فهو ينتمي لنوع سينمائي غير سائد يجمع بين السريالية والواقعية، يقترب في أسلوبيته من تجربة سينمائية ثرية أخرى شاهدناها عام 2021 تتمثل في فيلم «ريش» لعمر الزهيري.
في هذا الفيلم يقدم المخرج والمصور السينمائي محمد حمدي عالماً يبدو لأول وهلة شديد الواقعية، عيادة طبية قد تنتمي لوحدة صحية بأحد القرى الصغيرة، وطبيب مكتئب ومحبط، يعالج مريضات أنهكهن الفقر وعناء الحياة اليومية، ليبدأ الجانب السريالي في الظهور بالتدريج، في خطاب الطبيب الأخير من حبيبته دلال المبتل دائماً فيسبب له الضيق والإحراج في كل مكان، وأصدقاؤه الذين يتحولون إلى نباتات نعناع، والرحلة الأوديسية للبحث عن مخدرات تنسيهم تجربة الحياة التي لا تستحق عناء الاهتمام بها، وأشخاص يشنقون أنفسهم غير أنهم لا يموتون، فهم مكتوب عليهم اللاحياة واللاموت.
أبطال فيلم «معطر بالنعناع» شخصيات محبطة مجبرة على العيش، تم تصويرها في بشكل مبهر في واحد من أفضل التجارب البصرية لعام 2024.
هبة يسري مخرجة مصرية أخرى تقدم أولى تجاربها الروائية الطويلة هذا العام، أحدث «الهوى سلطان» ضجة مستحقة بين الأوساط السينمائية والجمهور العادي، وحتى بعد مرور أسابيع من عرضه لا يزال ينافس في شباك التذاكر.
يقدم «الهوى سلطان» قصة شديدة الاعتيادية، صديقين يتحولان إلى حبيبين، غير أن نقطة التحول هذه استغرقت سنوات حتى تنكشف لهما، وفي إطار من الرقة الشديدة تداعب هبة يسري أحلام وأحزان جيل الألفية الذي يقترب أو وصل إلى الـ40 ولا يزال يبحث عن ذاته ولم يصل بعد إلى حقائق الحياة كما وعده البالغون بالماضي.
سيطرت على الفيلم سمات الثقافة الشعبية التي انتشرت خلال التسعينيات وبدايات الألفية الثالثة، من أغانٍ ومسلسلات وأفلام، وقيمة العلاقات الأسرية، فعلي لا يزال الابن المطيع لوالدته حتى وإن أرهقته بطلباتها، بينما تتمزق سارة لغضبها تجاه والدها الذي خذلها، فتماهى كثير من المتفرجين مع صورة سينمائية تمثل حياتهم.
عُرض «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» في مهرجان فينيسيا السينمائي وبعده بمهرجان البحر الأحمر، لينضم لقائمة الأفلام المصرية التي تجولت بين أهم مهرجانات العالم، وهو أيضاً الفيلم الروائي الأول لمخرجه خالد منصور، ويشترك مع «الفستان الأبيض» بعامل آخر، وهو أن القاهرة أحد أبطاله، التي تتجول فيها الشخصيات الرئيسية باحثة عن مهرب، في ظل ظروف حياتية ضاغطة.
«رامبو» الشخصية الرئيسية في الفيلم كلب بلدي، لا ينتمي لفصيلة أنيقة تضفي عليه وصاحبه رونقاً وبهاء، غير أنه شديد الإخلاص، لدرجة تدفعه لتعريض حياته للخطر دفاعاً عن صديقه الإنسان، الذي يرد له الجميل بمحاولة البحث لـ«رامبو» عن منفذ للهرب بعيداً عن خطر الانتقام، فتصبح هذه الرحلة مرآة لرحلة «حسن» الذي يكتشف أن الخيط الواهي الذي يربطه بإنسانية يتمثل في علاقته بأليفه «رامبو».
لا يلجأ الوثائقي «رفعت عيني للسما» للمباشرة والتقليدية المتوقعة من هذا النوع من الأفلام، فلا تجلس بطلاته أمام الكاميرا لتحكي كل منهن قصتها، بل نتابع حياتهن اليومية.
يدور الفيلم في قرية البرشا بالصعيد، حيث نتعرف على قصة ماجدة الشابة مؤسسة فرقة مسرحية من فتيات القرية، يقمن بعروضهن في الشوارع أمام جمهور نصف مستمتع نصف مستغرب من جرأة هؤلاء الشابات.
لقصة كل شابة خصوصيتها، بين ماجدة الطموحة التي تحلم بالسفر للقاهرة والدراسة في معهد الفنون المسرحية، وهايدي التي تتخلى عن حلمها في التمثيل عندما يخطبها شاب من قريتها، ومادونا التي هجرت الغناء على المسرح لتغني فقط لوليدها.
شارك فيلم «رفعت عيني للسما» بمهرجان الجونة في مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة، وذلك بعد مشاركته السابقة بمهرجان كان السينمائي وفيه حصل على جائزة العين الذهبية لأفضل فيلم وثائقي، وهو من إخراج ندى رياض وأيمن الأمير.
بعد غياب تسع سنوات عن شاشات السينما يعود المخرج هاني خليفة بفيلم واقعي لحد القسوة، قصة امرأة استطاعت انتشال نفسها من هوة الخطيئة، ونقت سمعتها بالعمل الجاد، وآمنت بحقها في بداية جديدة، وحياة بنت أركانها بشكل شريف، ووضعت لنفسها هدفاً أخيراً تضمن به الاغتسال التام من ذنوبها، يتمثل في السفر لمكة. غير أن الماضي يقرر ملاحقتها في ما يشبه الإغراء الأخير الذي يجذبها للقاع بعدما كادت تصل بما تؤمن أنه بر الأمان.
يُشَّرِح الفيلم مفاهيم متعددة في ما يتعلق بجسد المرأة وشرفها وحقها في التحكم فيه، وعلاقات القوة بمن حولها وتجعلها موضع استغلال في كثير من الأحيان، وتشتبك البطلة مع ماضيها وحاضرها للمرة الأخيرة قبل أن تقرر الصورة التي سيكون عليها مستقبلها.
«الحريفة» تجربة سينمائية حريفة بالفعل، فيلم من بطولة شباب، والعمل الأول لمخرجه، لكنه بعد أسبوع فقط من عرضه يعتلي شباك التذاكر منافساً أفلاماً من بطولة نجوم ذوي شعبية، وبسبب نجاحه الشديد يتم إنتاج جزء ثان يُعرض في نفس العام.
يقدم «الحريفة» قصة بسيطة عن شاب تضطره الظروف المادية لوالده للانتقال من القصر والمدرسة الدولية والنادي الأنيق إلى حي بسيط ومدرسة حكومية واللعب في الساحات الشعبية، غير أن ما ينقذ البطل (ماجد) من الضياع في حياته الجديدة، كل من الصداقة وكرة القدم التي تجعله يتجاوز الفروقات الطبقية ويصبح أحد أعضاء فريق الحريفة للكرة الخماسية.
كما ركز فيلم «الهوى سلطان» على جيل الألفية واستحوذ على إعجاب واهتمام شريحة كبيرة من المشاهدين، يقدم «الحريفة» بجزأيه قصة من الجيل زد ولأفراد هذا الجيل، وكذلك كسب هذا الرهان، فيؤكد أن الأصالة هي كلمة السر في نجاح الأفلام.
وراء «الفستان الأبيض» مخرجة أخرى، ويمثل العمل فيلمها الروائي الأول كذلك، وبطلته فتاة تائهة في المدينة العملاقة تبحث عن الفستان الأبيض قبل زفافها بيوم واحد بعدما احترق فستانها الأصلي فانقلبت خططها رأساً على عقب.
لا تتوقف حبكة الفيلم عند حدود البحث عن فستان الزفاف بل تشتبك عبر طبقات الفيلم مع كثير من أزمات فتيات الطبقة الوسطى الدنيا، تلك الطبقة التي تعلم بناتها حتى يتجاوزن حدود جامعات القمة لكن يجدن الأبواب موصدة في وجوههن، فتضطر وردة خريجة كلية إعلام للعمل في أحد مطاعم الوجبات السريعة، ويتمثل حلمها الوحيد في زفاف مثالي ترتدي فيه الفستان الأبيض الذي تصر على أنه حقها ولا ترضى أن يسلبها المجتمع إياه.
«شرق 12» فيلم فانتازيا بالأبيض والأسود عُرض خلال فعاليات مهرجان كان السينمائي بنصف أسبوع النقاد للمخرجة «هالة القوصي» الذي يقدم قصة مستعمرة على هامش المجتمع لها قوانينها الخاصة، التي كالمعتاد يتحداها الشاب الفنان الذي يرغب في صبغ العالم بألوانه الأكثر بهجة من هذا العالم المستبد والقاسي.
تقدم هالة القوصي تجربتها السينمائية الثانية في هذا الفيلم بعد فيلمها الأول «زهرة الصبار»، وهي مخرجة منحازة للسينما المستقلة الأكثر حرية من السينما التجارية وتخاطب جمهوراً مختلفاً يتقبل التجريب.
وإلى هنا تنتهي هذه القائمة التي تحاول قراءة المشهد السينمائي المصري في 2024، وهو مشهد يدعو للفخر بتقدم نسبي أحرزته السينما المصرية سواء على صعيد التجريب أو عرض أفلامها بالمهرجانات العالمية، ويدفع إلى التفاؤل بجيل جديد من المخرجات والمخرجين الذين يسعون لتحطيم جدران الرتابة والتكرار في وجوه الممثلين أو الحبكات.