مشاهد لا تُنسى تلك التي شهدها العرب والعالم صبيحة السابع من أكتوبر 2023، باندلاع عملية «طوفان الأقصى»، عندما اجتاح قرابة ثلاثة آلاف مقاوم فلسطيني معظمهم من كتائب الشهيد عز الدين القسّام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس براً وبحراً وبالمظلات، كافة مواقع ومستوطنات غلاف غزة الحصينة نيرانياً وتكنولوجياً، فانهارت جميعها خلال بضعة ساعات، وقُتَل المئات من جنود وضباط فرقة غزة الإسرائيلية وأُسَر العشرات، وتوغل بعض مقاتلي القسّام إلى جنوب عسقلان شمالاً على بعد 15 كم، وإلى مستوطنة «أوفاكيم» غرباً على بعد 30 كم من القطاع. ورغم حرب الإبادة الوحشية الانتقامية التي شنّها -ولا يزال حتى لحظة كتابة تلك السطور- العدو الصهيوني بغطاء أمريكي تام ضد غزة، والتي استشهد وفُقِدَ فيها حتى الآن قرابة 45 ألفاً من سكان القطاع (2% من سكانه) –ما بيه شهيد ومفقود- على مدار أكثر من 7 أشهر، فما تزال غزة عصية على الهزيمة التامة وسيناريوهات التهجير والنكبة الكاملة.
لكن ما يثير العجب والإعجاب، أنه بالبحث في تاريخ النضال الفلسطيني الكثيف ضد الاحتلال الاستيطاني الاستئصالي الصهيوني، فإن هذه ليست المرة الأولى التي يشهد فيها تاريخ فلسطين انسياحاً فدائياً من قلب غزة المحاصَرة إلى عمق الكيان المحتل، وانتقاماً وحشياً من العدو لعقابها وليضمن -بظنه- ألّا يتكرر مثل هذا التجرؤ من غزة ضده. وسنعود الآن قرابة 70 عاماً إلى الوراء إلى أحد فصول الفدائية الفلسطينية الباسلة التي انطلقت غزة.
يخصِّصُ المؤرخ الفلسطيني عبد القادر ياسين الفصل السادس من كتابه «الحركة الوطنية الفلسطينية في القرن العشرين» للحديث عن وضع قطاع غزة في أعقاب نكبة 1948. يذكر ياسين أن القطاع الصغير الذي لا تزيد مساحته عن 1.3% من مجمل مساحة فلسطين التاريخية، قد استقبل قرابة المائتيْ ألف لاجيء من المناطق التي احتلتها العصابات الصهيونية وهجّرت سكانها، وهو أكثر من أربعة أضعاف عدد من كانوا يسكنونه، وتعرضت موارد القطاع المحدودة لضغطٍ هائل جراء هذا التضاعف السكاني، فأضافت الظروف الاقتصادية الصعبة المزيد من الحطب إلى حنق سكان القطاع ضد الاحتلال الذي أخرجهم من ديارهم وأراضيهم وأموالهم.
تلك الطبيعة الخاصة لغزة، جعلت منها دائما رأس حربة في النضال الفلسطيني، أصبح المزاج النضالي جزءً لا يتجزأ من كينونتها وصيرورتها. بدأت طلائع الأعمال النضالية من غزة بعد النكبة بأشهر، بعمليات تسلل فردية داخل الأراضى المحتلة لقتل المستوطنين وجنود الاحتلال، أو استعادة بعض ما سرقوه من متاع أو ماشية... إلخ أو إتلاف بعض أراضيهم ومرافقهم، ثم بمرور الشهور، انضم المئات من شباب غزة إلى التنظيمات الإسلامية والقومية واليسارية، رغبة في جهودٍ نضالية أكثر تنظيما وفاعلية.
في أعقاب يوليو 1952 في مصر -وكانت غزة آنذاك تابعة إداريا لمصر- ظهرت بعض بوادر تنظيمات مسلحة في غزة، كان أحدها في شمال القطاع يقوده خليل الوزير أبو جهاد، والذي كان مُنتسباً للإخوان آنذاك، ثم أصبح لاحقاً من أعمدة حركة «فتح» بعد إنشائها وعلى مدار قرابة ربع قرن، لكن كان الأمن المصري يمنع تنفيذ الكثير من العمليات، لخوف النظام الجديد في مصر من التبعات الدولية لمساحه بانطلاق أعمال فدائية من غزة ضد الكيان الصهيوني.
لكن في فبراير ومارس من عام 1955 حدث نقلة دراماتيكية في الأحداث، فقد شنت قوات المظلات الإسرائيلية غارة دموية ضد القوات المصرية في غزة في فبراير 1955 أسفرت عن استشهاد 38 جنديا مصرياً، انتقاماً لمقتل مستوطن إسرائيلي في عملية تسلل فدائية فلسطينية، ثم شهدت غزة انتفاضة كبرى تُعرَف بـ«هبة مارس»، شارك فيها عشرات الآلاف من سكان القطاع احتجاجاً على تقييد السلطات المصرية للعمل الفدائي، وكذلك مشروع تهجير وتوطين جزء من سكان غزة إلى سيناء بالتعاون مع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأنروا).
أدت تلك الانتفاضة في غزة إلى إسقاط مشروع التوطين، وشرعت السلطات المصرية في تنظيم العمل الفدائي وأنشأت الكتيبة 141 التابعة للاستخبارات المصرية لتنظيم العمل الفدائي، بقيادة المقدم مصطفى حافظ الذي أخرج من كان مسجوناً على خلفية العمل الفدائي، ونظم المئات من المتطوعين من أبناء غزة في المجموعات الفدائية.
يذكر الكاتب الفلسطيني نافذ أبو حسنة في الفصل الأول من كتابه «التجربة العسكرية الفلسطينية: ملاحظات في التجربة والآداء» تفاصيل العشرات من العمليات الفدائية التي انطلقت من غزة، لاسيما منذ أواخر أغسطس 1955، والتي لم تكن عمليات تسلل فردية، إنما هجمات بمفارز من الفدائيين قد تصل إلى 10 أو 20 فدائياً، تنصب الكمائن لتستهدف عربات الدوريات العسكرية وسيارات المستوطنين.
وفي إحدى العمليات في هذا الصيف الملتهب، تسللت مجموعة فدائية لمسافة أكثر من 50 كم شمالاً من غزة، وقتلت أربعة مستوطنين في مستوطنة رحبوت إلى الجنوب من تل أبيب، ولن تكون تلك المرة الأخيرة التي تصل فيها أيادي غزة إلى تل أبيب. واستمرت الأعمال الفدائية في التصاعد خلال الأشهر التالية رغم هجمات العدو الانتقامية، وقد اعترف العدو -وفقاً لأبي حسنة- بوقوع 180 هجوم فدائي معظمها انطلقت من غزة خلال ثلاثة أشهر من ديسمبر 1955 إلى مارس 1956.
في ليلة السادس من أبريل 1956، بدأ حدث فدائيٌّ غير عادي، حيث اندفع أكثر من 300 فدائي فلسطيني من غزة في العديد من الاتجاهات في أعماق الأراضي المحتلة على شكل مفارز صغيرة، وشنّوا العديد من العمليات الفدائية المتزامنة في مناطق مختلفة مما أثار الذعر بين المستوطنين. كان من أبرز العمليات كميناً ناجحاً ضد رتل مدرع كبير على طريق بئر السبع - تل أبيب تسبَّب في خسائر كبيرة في الجنود والأليات. خلال الساعات والأيام التالية، فجر المجاهدون العديد من القنابل في سيارات المستوطنين والعربات العسكرية الإسرائيلية، وشنوا هجمات نهارية وليلية ضد خطوط السكك الحديدية والطرق الواصلة بين المستعمرات.
وقد اندفعت إحدى المفارز الفدائية شمالا ونفذَّت عمليتين فدائيتيْن في منطقة تل أبيب، أحدهما في مستوطنة رحبوت، والأخرى في مستعمرة ريشون لتسيون القريبة جدا من قلب مدينة تل أبيب.
وخلال الأيام التالية، انسحب معظم هؤلاء الفدائيين بنجاح إلى غزة، ولم يرتقِ منهم سوى أحد عشر شهيداً، وثلاثة معتقلين، وسببت العمليات التي قاموا بها الكثير من الذعر والغضب في الكيان الصهيوني، وتحيَّن قادتها الفرص للانتقام من غزة ومقاوميها.
لم تتردد إسرائيل في قبول المشاركة في العمل العسكري الإنجليزي الفرنسي ضد مصر، والذي عرف بالعدوان الثلاثي، والذي كان هدفه الرئيس إعادة احتلال قناة السويس انتقاماً من تأميم جمال عبد الناصر لها، وكذلك لدعم مصر لثوار الجزائر ضد فرنسا. أرادت إسرائيل بمشاركتها احتلال قطاع غزة والانتقام من الفدائيين، وكذلك احتلال سيناء.
لم تحتجْ إسرائيل إلا لبضعة أيام منذ التاسع والعشرين من أكتوبر 1956، وحتى الثالث من نوفمبر، لكي تحتل قواتها قطاع غزة وقد رفعت بعض الدبابات الإسرائيلية الأعلامَ المصرية لخداع أهل غزة، الذين تجمهر منهم المئات لتحية ما اعتقدوه دبابات مصرية جاءت لنجدتهم، ثم ما لبث العشرات منهم أن ارتقوا شهداء بنيران رشاشات تلك الدبابات. وفي خان يونس، ارتكب العدو مجزرة مروعة؛ حيث جمع المئات من الشباب بين 16 و50 عاماً، وقُتل المئات منهم بدم بارد. واستمرت عمليات القتل والاعتقال لأسابيع في قطاع غزة، ولم ينسحب العدو من سيناء ومن قطاع غزة إلا بعد مطلع مارس 1957، وإثر ضغوطٍ هائلة من قُطبَي العالم الأمريكي والسوفييتي.
وكما رأينا في العقود التي تلت هذا العدوان ومذابحه، وما تلاه من احتلال طويل مباشر استمر من 1967 إلى 2005، لم تخمد نيران المقاومة من غزة، التي أشعل شعبُها انطلاقا من جباليا الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، وكان لمقاومتها صولات وجولات في الانتفاضة الثانية، واضطرت العدو في عهد شارون، أجرأ جنرال في تاريخ إسرائيل، أن يلجأ لفك الارتباط أحادي الجانب مع غزة، ويسحب منها جنوده ومستوطنيه، ويُخضعها للحصار الطويل الذي دام قرابة عقديْن، لكنه لم يكن كافيا كما شهدنا ونشهد لتتخلى غزة عن عنادها المقاوم.
يا مجانين غزةٍ ألفُ أهلا .. بالمجانين إن همُ حرَّرونا!
إن عصرَ العقل السياسي ولَّي .. من زمان فعلمونا الجنونا
نحن آباؤكم فلا تشبهونا .. نحن أصنامكم فلا تعبدونا
نتعاطى القات السياسي والـ .. قمعَ ونبني مقابرا وسجونا
علمونا فن التشبث بالأرض .. ولا تتركوا المسيح حزينا
إن هذا العصر اليهودي وهم .. سوف ينهار لو ملكنا اليقينا
نزار قباني: قصيدة «يا تلاميذ غزة» التي كتبها إبان الانتفاضة الفلسطينية الأولى
في مقدمة الفصل الذي يتحدث عن حرب أكتوبر 1973 في مذكراتها، ذكرت رئيسة وزراء الكيان السابقة «جولدا مائير» أن المفاجأة التي تعرضت لها إسرائيل في تلك الحرب لن تتكرر مرة أخري:
ولا بد من أن أؤكد هنا للعالم بشكل عام، ولأعداء إسرائيل بشكل خاص، أن الظروف التي أودت بحياة 2500 إسرائيلي قُتلوا في حرب يوم كيبور، لن تتكرر مرة ثانية.
وبما أننا الآن بعد أكثر من 7 أشهر من اندلاع عملية «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر، والتي فاقت مفاجآتها الصاعقة الكيانَ الصهيوني بأكثر مما صرعَه الهجوم المصري السوري المشترك في السادس من أكتوبر قبل خمسين عاماً، وأشدَّ من أية مفاجأة تلقَّاها العدو في تاريخ النضال ضده، فقد أكد هذا أن حلقات المقاومة والنضال يسلّم بعضها إلى بعض، وأن تراكم الخبرات النضالية الفلسطينية والعربية وتطورها من جيل لآخر هو حقيقة متجددة، ولكن يجب أن يصاحبَ هذا دراسات نقدية موضوعية للأداء العسكري المقاوم، ولمدى تحقيقه للأهداف الإستراتيجية، وللاستفادة من الأخطاء السابقة، لمنع تكرارها، ولمحاولة تقليل الأثمان الباهظة التي دفعها ويدفعها الشعب المقاوم، والحصول على أكبر قدر من المكاسب بعيدة المدى التي تتوازى مع ذلك الجود في البذل والجهد والدماء.