ريادة أعمال

«صنع في الصين»: رائد أعمال بدرجة موظف حكومي

تقدم الحكومة الصينية دعما مستمرا للشركات المحلية، يساعدها في مواجهة الشركات الخارجية الكبيرة، وتحديدا الأمريكية، فلا تملك هذه الشركات تسهيلات لعملها.

future مواقع تواصل اجتماعي وتصفّح عبر الإنترنت

إذا كنت تود الاطلاع على نسخة مختصرة من هذا التقرير في شكل مقطع فيديو، فعليك أن تضغط هنا.

 

تخيّل أنك في الصين الآن، ترغب في إجراء بحث على الإنترنت، تفكر في الدخول إلى المتصفح الأشهر في العالم؛ جوجل. لكنك تكتشف أنّ هذا ليس الواقع هناك فجوجل لا تعمل في الصين، وأنّ المتصفح المسيطر هو Baidu. تستخدمه للدخول إلى فيسبوك، تجد أنّ فيسبوك ممنوع هناك أيضًا، والشبكة الأشهر في التواصل الاجتماعي هي WeChat. تتساءل: هل توجد أي شركة نعرفها داخل حدود الصين؟

الحكومة الصينية: ذراع الشركات المحلية في مواجهة الشركات الخارجية

تقدم الحكومة الصينية دعمًا مستمرًا للشركات المحلية، يساعدها في مواجهة الشركات الخارجية الكبيرة، وتحديدًا مواجهة الشركات الأمريكية، فلا تملك هذه الشركات تسهيلات لعملها، هذا في حالة تمكنت من العمل داخل الصين بالأساس. في الوقت ذاته تحاول الصين فرض سيطرتها على كل شيء يخص هذه الشركات، هو ما يعقد من مهمة عملها تمامًا. لنلقي نظرة على أربعة من شركات التقنية الكبرى في العالم:

1. أمازون (لم تقدر على الاستمرار في المنافسة)

لم تصمد أمازون في مواجهة الشركات الصينية الكبرى في مجال التجارة الإلكترونية، مثل شركة علي بابا، وفي 2019 أعلنت عن توقف أعمال التجارة الإلكترونية داخل الصين، والاكتفاء فقط بتقديم منتجات من بائعين خارج الصين، إلى جانب بعض خدماتها الأخرى.

2. أوبر (لم تقدر على الاستمرار في المنافسة)

على الرغم من محاولات أوبر الكبيرة التواجد داخل الصين، والمجهود المبذول في سبيل تحقيق ذلك، إلّا أنّ الشركة لم تقدر على التغلب على شركة Didi المنافس المباشر لها، وبعد سلسلة من الخسارة لأوبر في الصين، انتهى الأمر باستحواذ Didi عليها وخروج أوبر من هذا السوق.

3. جوجل (حظر للخدمة)

شهدت شركة جوجل حظر لخدماتها على مراحل متعددة، وتعرضت بعض خدماتها الأخرى لقطع الاتصال عدة مرات، مثل الـGmail وخرائط جوجل في عامي 2012 و2014. يظل السبب الرئيسي للخلاف هو محاولة السيطرة على محرك البحث في جوجل، إذ أغلق في الصين في عام 2010، نتيجة الخلاف حول رغبة الصين في فرض رقابة على عمليات البحث التي يجريها المستخدمين.

4. فيسبوك (حظر للخدمة)

حُظر فيسبوك لأول مرة في يوليو 2009، عندما استخدمه المتظاهرون في التواصل بينهم في أعقاب أعمال شغب حدثت في غرب الصين. بعد خمسة سنوات انضمت الانستغرام إلى عملية الحظر، في أثناء حدوث احتجاجات مؤيدة للديموقراطية داخل هونغ كونغ، واختتمت السلسلة بحظر الواتساب في سبتمبر 2017.

قائمة ببعض المواقع المهمة غير المتاحة في الصين

كيف تعمل الصين من أجل بناء النظام البيئي الخاص بها (Ecosystem) للسيطرة على البيانات؟

إذا كنت في الصين، فأنت على الأغلب لن تعرف أيًا من شبكات التواصل الاجتماعي المستخدمة هناك. يبدو الأمر وكأنّ الصين تحاول بناء النظام البيئي الخاص بها (Ecosystem) فيما يتعلق بالإنترنت كاملًا، فتكون لديها السيطرة على كل شيء.

لذا، تحظر الصين عددًا يتخطى 8000 موقع، من كبرى مواقع الإنترنت في العالم، وفي المقابل تحاول تقديم بدائل مناسبة لها تخضع لسيطرتها. يوضح الجدول التالي مجموعة من مواقع التواصل الاجتماعي العالمية في مقابل بعض البدائل لها في الصين، إذ توجد بالتأكيد مواقع أخرى تقدم الخدمات ذاتها، إلى جانب امتلاك الصين خيارات في كل المواقع تقريبًا:

مجموعة من مواقع التواصل الاجتماعي العالمية في مقابل بعض البدائل لها في الصين

حتى موقع تيك توك الذي لا تحظره الصين، لكنّها تملك نسخة خاصة بها فقط باسم (DouYin)، بالتالي يكون لديها قدرة السيطرة على الموقع ومراقبته عن قرب، دون السماح لأفراد الدولة بالاطلاع على بقية مستخدمي التطبيق الأصلي.

يتمكن المواطنون الصينيون من الوصول إلى هذه المواقع الممنوعة بالاعتماد على خدمات الـVPN، التي لا تغلقها الصين بالكامل، لكنّها من الناحية الأخرى تحاول هي بذاتها امتلاك هذا النوع من الخدمات، إذ يتيح لها هذا امتلاك مجموعة ضخمة من البيانات، مثل رسائل البريد الإلكتروني الخاصة، والمحادثات والسجلات الشخصية، التي تُسجل على هذه المواقع، بحسب التقرير الذي أشار إلى ملكية معظم خدمات الـVPN من الحكومة الصينية.

إذًا، ما الذي يدفع الشركات إلى محاولة التواجد في الصين رغم هذه الصعوبات؟

في عام 2018 ظهرت بعض التقارير التي تشير إلى محاولة جوجل إنشاء محرك بحث يخضع للرقابة للمستخدمين الصينين، في المشروع الذي عُرف باسم (Dragonfly). خضع بيتشاي المدير التنفيذي لجوجل لمساءلة في الكونجرس حول هذا الأمر في العام ذاته، وفي شهر ديسمبر من العام ذاته ألغي المشروع، بسبب غضب من موظفي جوجل من المشروع.

في عام 2020 عندما ظهر بيتشاي في الكونغرس من جديد، تعرض لسؤال مرة أخرى حول تعاون الشركة مع الحزب الشيوعي الصيني من أجل تطوير محرك البحث الذي يتعرض لرقابتهم الصارمة، وهو ما نظر إليه أعضاء الكونغرس على أنّه انحياز للحكومة الصينية. على الرغم من رفض بيتشاي للأمر، لكن لا يمكن تجاهل تفكير جوجل في الأمر.

لا تواجه ميكروسوفت غالبًا مشكلات داخل الصين، لكنّها تعمل على إرضاء الحكومة الصينية، وذلك من خلال فرض بعض الرقابة على المحتوى السياسي الذي يظهر على محرك بحث Bing، على الرغم مما يسببه ذلك من غضب للمستخدمين.

في عام 2016 خاضت شركة أبل معركة ضد مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، إذ حاول الأخير إقناع أبل بمساعدتهم على فتح جهاز iPhone خاص بسيد فاروق، المسئول عن إطلاق النار الذي أودى بحياة 14 شخصًا في سان برناردينو.

طلب القاضي الفيدرالي من شركة أبل ما رآه (مساعدة تقنية معقولة) للسلطات الأمريكية. جاء رد شركة أبل من خلال رئيسها التنفيذي تيم كوك رافضًا للأمر، وظهر في الإعلام للحديث عن حماية البيانات، وأنّه لا يجب على الشركة التدخل في مثل هذا الأمر.

لكن عندما يتعلق الأمر بالصين، يصف البعض موقف أبل بالخضوع إلى الحكومة الصينية وقواعدها. مثلًا، تزيل الشركة التطبيقات التي تُصنف على أنّها مسيئة للصين، حتى بدون طلب من الحكومة. في عام 2019 أزالت أبل تطبيق يسمى HKMap Live، الذي يستخدمه المتظاهرون في هونغ كونغ لتتبع نشاط الشرطة، وعلقت الشركة على ذلك قائلة: "هذا التطبيق يستخدم لاستهداف الشرطة، ونصب الكمائن لها".

تشير التكهنات إلى أنّه في حالة تعلق الأمر بالأمن في الصين، ستجد شركة أبل نفسها مضطرة للاستجابة للحكومة الصينية، واحتمالية خضوعها للرقابة على بيانات المستخدمين. لا يمكن الجزم بذلك، لكن هذا السؤال يُطرح دائمًا حول ماذا ستفعله شركة أبل إذا تعرضت لهذا الموقف؟ والأهم من ذلك، هو ما سر تمسك هذه الشركات بالعمل داخل الصين؟

قوة الأعمال والأموال في مواجهة السياسة

تعد جوجل وأبل من أكبر شركات التقنية في العالم، وهي ضمن مجموعة الخمسة الكبار في التقنية إلى جانب مايكروسوفت وأمازون وفيسبوك. لذا، يعد التفكير في محاولات هذه الشركات للتواجد في الصين رغم كل هذه التحديات هو أمرًا يستحق التساؤل. في النهاية لا تهتم هذه الشركات بالأمور السياسية لذاتها، فهذه الشركات تتحدث لغة الأعمال والأموال فقط. يمكن تضمين قيمة الصين بالنسبة للشركات في النقطتين التاليتين:

الإيرادات التي تحصدها الشركات

يعود السبب الرئيسي لقيمة الصين للشركات هو الإيرادات التي تحصدها من خلال التواجد في الصين. في عام 2015 مثلًا، بلغت إيرادات شركة أبل من الصين الكبرى -التي تشمل مع الصين هونغ كونغ وتايوان- 25% من إجمالي إيراداتها العالمية.

رسم بياني يوضح أرباح شركة أبل داخل الصين الكبرى من عام 2010 حتى عام 2023 – موقع statista

في تقرير الربع الأخير لعام 2020، أعلنت أبل عن تحقيق إيرادات داخل الصين بلغت قيمتها 21.3 مليار دولار، وهو الرقم الأعلى الذي تحققه في الصين الكبرى في ربع واحد. كنتيجة لذلك، أعلنت الشركة أنّ هذا هو أعلى ربع على الإطلاق فيما يتعلق بإجمالي الإيرادات في تاريخ الشركة.

لا يقتصر الأمر على شركة أبل التي تقدر على التواجد داخل الصين، لكن أيضًا فيسبوك رغم حظره، إلّا أنّ للصين نصيب من إيراداته العالمية. فحسب تقرير شركة أبحاث السوق Pivotal Research وكذلك شركة AdAge، نجح فيسبوك في تحقيق 5 مليار دولار من الصين في عام 2018، وهو ما يمثل 10% من إجمالي إيرادات الشركة في هذا العام، وتأتي في المركز الثاني خلف الولايات المتحدة الأمريكية.

إذًا توجد فرصة قوية للشركات لتحقيق الإيرادات، وهو أمر منطقي للشركات أن تفكر به، إذ يبلغ عدد مستخدمي الإنترنت في الصين 1.08 مليار شخص تقريبًا في نهاية العام الماضي، وهو ما يمثل خمس الأشخاص الذين يستخدمون الإنترنت في العالم (5.35 مليار شخص تقريبًا).

تشير التوقعات أيضًا إلى احتمالية زيادة عدد المستخدمين في الصين إلى 1.18 مليار شخص تقريبًا بحلول عام 2026، وهو ما يمكن للشركات ترجمته ببساطة على أنّه فرصة محتملة لنجاح أعمالها، وهو الأمر الذي تراه الصين ببساطة كذلك على أنّه سلاح يمكنها استخدامه في فرض السيطرة.

قوة سلاسل الإمداد

لا يتعلق الأمر فقط بالإيرادات التي تحققها الشركات من خلال الصين، ولكن أيضًا لامتلاك الصين تأثيرًا كبيرًا في سلاسل الإمداد، التي تشمل العمليات والموارد المستخدمة في التصنيع والإنتاج. تملك أبل مصانع للإنتاج خاصة بها موجودة داخل الصين، إذ تُدار بواسطة المصنعين المتعاقدين مع الشركة، مثل Pegatron.

بالتالي تستفيد أبل من موارد الدولة في تصنيع منتجاتها، إلى جانب تحملها لتكلفة منخفضة للأجور، وهو أحد الانتقادات التي توجه للشركة. لكن في النهاية تستفيد الشركة من قوة العمالة الصينية ودورها في عمليات الإنتاج الخاص بها، فمثلًا في عام 2022 كان هناك 5 مليون مبرمج صيني يشاركون في تطوير تطبيقات نظام الـIOS الذي تستخدمه الشركة.

في حضرة الأخ الأكبر (جدار الحماية العظيم): رائد أعمال أم موظف حكومي؟

في رواية 1984 للكاتب جورج أورويل، يصف عالمًا خياليًا، يسيطر فيه النظام على كل شيء تقريبًا. تتجسد سيطرة النظام في شخصية (الأخ الأكبر)، الذي يراقب كل شيء، مع الإشارة في الرواية لأنّه ربما هذه شخصية خيالية ليست موجودة من الأساس، لكنّها تعبير عن سيطرة النظام. لا أحد يعرف الإجابة، لكن تستمر السيطرة، مع شعار "الأخ الأكبر يشاهدك".

تفرض الصين سيطرتها على الإنترنت بالاعتماد على مجموعة من الإجراءات القانونية والتقنية، تعرف باسم جدار الحماية العظيم (Great Firewall of China)، تتمكن من خلاله من فرض الرقابة على الإنترنت داخليًا، سواءً بحجب المواقع الخارجية، أو من خلال تضييق النطاق على عملية البحث والنتائج التي تظهر للمستخدمين داخل الصين.

في تقرير نُشر على مجلة The Diplomat المتخصصة الأولى في الشئون الآسيوية والمحيط الهادئ، بعنوان: هل الشركات الصينية الخاصة، هي خاصة حقًا؟. يناقش هذا التقرير ما يحدث في الصين من تدخلات في شئون الأعمال، وأنّ ذلك يتنافى مع مبادئ القطاع الخاص، الذي يعتمد بالأساس على التبعية للمبادئ الاقتصادية لا الشئون الدولية والسياسية.

يبدو أنّ هذا هو الواقع في الصين. إذا رغبت الشركات في العمل هناك، فلا بد من الالتزام بالمبادئ والتشريعات الخاصة بجدار الحماية العظيم، وهو ما يضع قيودًا على الابتكار والإبداع. إذ دائمًا يوجد إطار يتحكم في عمل الشركات، وتضحيات لا بد من القيام بها من أجل إرضاء الحكومة الصينية. الأمر الذي يجعل رائد الأعمال، هو مجرد موظف حكومي يشرف على تنفيذ فكرته الخاصة؛ أو هذا ما يعتقده، في ظل وجود إشراف مباشر يتدخل في كل تفاصيل الفكرة.

# الصين # اقتصاد

المعادن الحرجة: عودة إلى ساحة الصراع في ظل هيمنة التنين
من الدعم الكامل لـ«البراجماتية السياسية»: الصين وفلسطين
اقتصاد المؤثرين: كيف يقود المؤثرون قرارات الجمهور؟

ريادة أعمال