يمكنك وصف كرة القدم بألف وصف؛ هذا كونها النشاط الترفيهي الأوحد الذي يتداخل مع أمور شديدة التعقيد سواء بالمنطق أو لا، ترتبط كرة القدم بالتاريخ والسياسة والاقتصاد والعنف والحب والسلام.
إلا أن قصتنا تلك عن كرة قدم تم تفريغها من كافة معانيها الجميلة، فأُجبرت أن تطل علينا بوجهها الأقبح على الإطلاق، عن كرة قدم بدأت بالارتباط بالقومية ثم انتهت بغرفة سرية أسفل ملعب تاريخي حيث يُلقي الضحايا في مفرمة لحم قبل رميهم إلى أسماك النهر!
ففي مارس 2021 ظهر الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش على شاشة التلفزيون المباشر محاطًا برئيس الوزراء ووزير داخلية البلاد، وذلك للإعلان عن اعتقال عصابة خطرة مسؤولة عن جرائم قتل متعددة. بدأ الحديث بتحذير من وزير الداخلية للمشاهدين بضرورة إبعاد الأطفال عن التلفزيون، ثم بدأت سلسلة من الصور المروعة في الظهور على الشاشة خلفه: رأس بدون جسد، وجسد دون رأس، وأدوات تعذيب ومفرمة لحم!
يبدو مشهدًا لا علاقة له بكرة القدم أبدًا، هذا قبل أن نعرف أن زعيم تلك العصابة هو أحد مشاغبي الملاعب المشاهير لنادي ريد ستار بلجراد يدعي بيليفوك، وأن رئيس البلاد نفسه وصل لرئاسة البلاد من خلال وجوده في رابطة مشاغبي الملاعب ذاتها لكن في صورتها القديمة، وأن الغرفة التي عُرض منها تلك المشاهد البشعة هي أسفل إستاد بلجراد التاريخي!
كيف حدث كل هذا، نحن الآن على وشك أن نحكي قصة رجلين وصولًا إلي تقاطع طريقهما داخل ملعب كرة القدم، نقصد هنا زعيم العصابة «فيليكو بيليفوك» ورئيس البلاد ألكسندر فوتشيتش، ويبدو أنه من الحماقة ألا نقص حكاية رئيس البلاد أولًا!
من جاء من قلب المدرج يعرف قوة مشاغبيه
ليس من قبيل الصدفة أن يكون كل من فوتشيتش وبليفوك قد بدأوا مسيرتهم في مجموعات مشجعي كرة القدم، فقد بدأت الملاعب في تلك المنطقة تحديدًا في التغير من طبيعتها المعتادة بعد أن أصبحت بوتقة للقومية العرقية التي دمرت يوغوسلافيا بعد ذلك.
وحتى يومنا هذا، لم تتخلص الملاعب الصربية من تلك النزعة حتى أن الرئيس التنفيذي لنادي ريد ستار بلغراد يصف ناديه بأنه ليس مجرد فريق كرة قدم، بل هو أيديولوجية وفلسفة ورمز وطني، بل وحارس الهوية الصربية والعقيدة الأرثوذكسية.
بدأ الأمر في نهايات ثمانينات القرن الماضي، حيث زادت وتيرة العنف بين الجماهير المشاغبين الصرب، وشكل مشاغبي الملاعب عصابات شوارع متسلحين بمضارب البيسبول لنصرة فريقهم، بل ووصل الأمر أنه كان شريطة الانضمام لمجموعات المشاغبين هو ارتكاب جرائم عنف ضد جماهير المنافس.
جميع المشاغبين في المدرج الشمالي لبلجرادآنذاك كانوا قوميين ناشئين، بما في ذلك الصغير فوتشيتش الذي كان في المدرجات خلال الشجار الشهير خلال مباراة فريقي النجم الأحمر ودينامو زغرب عام 1990، والذي وُصِف بعد ذلك أنه البداية الحقيقية لحروب البلقان، وفي ظل هذا العنف المسموم بادعاء القومية تشكل فوتشيتش.
وإذا كان ملعب كرة القدم هو الذي شكل شخصية فوتشيتش، فإن الحرب كانت المكان الذي تعلم فيه السياسة. فبعد تخرجه من كلية الحقوق عام 1991، أعلنت سلوفينيا وكرواتيا استقلالهما، مما أدى إلى نشوب صراعات متقطعة ووحشية أدت إلى تقسيم يوغوسلافيا إلى دويلات.
وكان فوتشيتش حينئذ من اتباع السياسي اليميني المتطرف سيسيلي، وسرعان ما أصبح أصغر عضو في البرلمان الصربي، وكان توجهه معروفًا بالطبع، حتى أنه ألقى خطابًا بعد أيام من المذبحة التي راح ضحيتها ما يقرب من 8000 مسلم بوسني عام 1995 أعلن فيه: إذا قتلتم صربياً واحداً، فسوف نقتل مائة مسلم.
وفي عام 1998، أصبح فوتشيتش وزيراً للإعلام، وأشرف على حملة قمع تاريخية ضد الصحافة، وفرض غرامات ضخمة على المنظمات التي انتقدت الحكومة. لكنه نسي أن القوة الحقيقية كانت تزداد بعنف في قلب مدرجات الملاعب، فقد كانوا يهتفون ضد الرئيس في كل مباراة.
كانت اللحظة الحاسمة في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 2000، حيث استقال رئيس صربيا بعد أسبوع من الاحتجاجات في الشوارع، شعر الصرب بسعادة غامرة، واعترافًا بالدور الذي لعبه مشاغبي الملاعب في الإطاحة بالرئيس، تمت إزالة سجلاتهم الجنائية تمامًا ليعثوا فسادًا.
سرعان ما بدأ فوتشيتش في تصوير نفسه على أنه محارب ضد الفساد حتى أطلقت عليه وسائل الإعلام لقب «إليوت نيس الصربي»، ثم خاض رحلة تصاعدية انتهت بنجاحه في انتخابات الرئاسة في صربيا، لكنه كان قد تعلم تمامًا أن مشاغبي الملاعب قوة لا يستهان بها، لذا قرر أن يتعاون معهم، بل وجعلهم الذارع الخفي للسلطة في صربيا والمسؤول عن تنفيذ المهام السوداء للحكومة.
بيليفوك: التطور الطبيعي لهذا العنف
كان والد بيليفوك من المحاربين القدامى الذين جلبوا الأسلحة إلى صربيا، لذا كان يحتفظ بقنبلتين يدويتين في درج المطبخ، ولأنه كان مكتئبًا، وبعد أن تشاجر مع زوجته، قرر تفجير القنبلتين في نفسه وزوجته وحماته، وكان على بيليفوك البالغ من العمر 9 سنوات حينئذ السير عبر الردهة، مروراً بالجثث، للهرب إلى منزل الجيران.
كبر بيليفوك وأصبح حارسًا في النوادي الليلية في بلجراد، وامتلك مع الوقت سجلًا حافلًا بالجرائم. إلا أن لحظة بيليفوك الحاسمة كانت في عام 2012 تقريبًا، عندما طُلب منه الانضمام إلى مجموعة جديدة من مثيري الشغب ظهرت في ملعب بارتيزان في بلغراد تحت اسم «المجموعة الإنكشارية»!
يبدو الاسم كفيلًا لتدرك خطورة تلك المجموعة، فالإنكشاريون اسم تاريخي لقوة عسكرية عثمانية نخبوية مكونة في الغالب من الأولاد الذين تم أخذهم من عائلاتهم وتحويلهم إلى قتلة لا يرحمون لصالح الدولة العثمانية.
وفي حين كان مشاغبي الملاعب السابقون يحصلون على دعم غير رسمي وعشوائي من الشرطة، وكان ذلك في الأغلب للشراكة في مبيعات المخدرات، فإن علاقات هذه المجموعة الجديدة بالدولة كانت مباشرة وسياسية.
وربما أشهر مظاهر هذا التعاون كان مساعدتهم لضمان سلامة مسيرات المثليين لتأييد فوتشيتش. ورغم أن هؤلاء الإنكشاريين لا يدعمون المثلية بالطبع إلا أنهم تلقوا وعدًا بتعليق أي تهم جنائية سابقة ضدهم إذا حافظوا على المسيرة وهو ما حدث.
المواجهة أصبحت حتمية
تصاعدت الأمور واستطاع بيلفوك مع الوقت أن يكون قائدًا لتلك العصابة التي لا تفارق الملعب إلا للقتل وبيع المخدرات تحت لواء الدولة. واستمر في مداومة أعماله القذرة اسنوات ثم بدأ اسمه في الظهور للعامة بعدما اتُهم قتل رجل بالرصاص في وسط بلغراد.
لم يكن هذا شيئَا جديدًا، لكن الجديد أن الرئيس الصربي بنفسه عبر عن أهمية القضية وخطورة المجرم، وهنا فهم بيليفوك أن دعم الدولة له قد جف، لذا قام بتسريب صور له رفقة ابن الرئيس في ملعب بلجراد وهو ما أغضب الرئيس بالطبع.
بحلول عام 2019، كان بيليفوك وعصابته قد أنشأوا مخبأً داخل ملعب بارتيزان هو عبارة عن مطعم قديم أسفل المدرجات، حيث قاموا بتعذيب الضحايا وتخزين المخدرات والأسلحة. ومع الوقت أصبحت عصابة بيليفوك أكثر تواجدًا خارج حدود صربيا، ففي عام 2019، ضبط خفر السواحل الإسباني 800 كيلوغرام من الكوكايين على متن سفينة قادمة من أمريكا الجنوبية، وكانت العديد من عبوات الكوكايين تحمل توقيع العصابة.
رغم كل هذا لم تكن المواجهة بين الرئيس وزعيم العصابة لتحدث لولا هذا التطور خارج صربيا، فالفضل الأول لوجود بيلفوك داخل السجن هو فك المكتب الأوروبي للشرطة لشفرة برنامج Sky-ECC الذي استخدمته العصابة للحديث فيما بينهم.
هكذا تم وضع بيلفوك في السجن، وظهر الرئيس في التلفاز ليخبر الجميع أن العصابة الخطرة وقعت في شر أعمالها أخيرًا، ويا للهول كانوا يفعلون ذلك تحت ساحة كرة القدم البريئة التي نحبها ونعبر عن ولاءنا لصربيا من خلالها.
عرض بيليفوك من جانبه القصة في جلسة مغلقة بالمحكمة، حيث قال إن عصابته تم تنظيمها لتلبية احتياجات الدولة وبأمر من ألكسندر فوتشيتش نفسه، كما وصف بعض المهام التي قامت بها العصابة لصالح الحكومة، مثل تخويف المنافسين السياسيين وتعذيب الضحايا وقتلهم بالفؤوس وفرم لحمهم ثم رميه في نهر الدانوب، والأهم منع المشجعين من الهتاف ضد فوتشيتش في مباريات كرة القدم. اللعنة على كرة القدم!