يبدو الحديث عن الأخ الذي قبع في ظل أخيه الأكبر حتى نسيه الجميع حديثًا مسليًا؛ لذا يُقال دومًا إن سيموني إنزاجي لم يحصل على ما يستحقه من ثناء كلاعب كرة قدم، لأنه كان في مقارنة دائمة مع أخيه الأكبر فيليبو. لكن، لا شيء من هذا كان حقيقيًّا.
لم يكن سيموني إنزاجي لاعبًا عظيمًا أبدًا، بل كان خاسرًا منطقيًّا في مقارنات كرة القدم. خسر مقارنته مع فيليبو لأن الأخير أنصفته الأرقام رغم الجدل حول موهبته؛ حتى إن سايمون كوبر كتب عام 2000 للجارديان أن الثنائي إنزاجي يمتلكان السرعة، ويستفيدان من عدم انضباط مصيدة التسلل، لكن لا يتمتع أي منهما بلمسة أصيلة، وإذا كان أفضل ما يمكن أن تقدمه إيطاليا في الهجوم هو هذا الثنائي، فلا عجب أن كرة القدم الإيطالية في ورطة.
أما فنيًّا فإن أقصى ما استطاع أن يبلغه سيموني كلاعب هو تسجيل 15 هدفًا خلال موسم 1999، ثم الانضمام لكتيبة لاتسيو التاريخية عام 2000، لكنه لم يشارك داخل لاتسيو بشكل منتظم؛ إذ إن هجوم لاتسيو حينئذٍ كان يضم لاعبين بحجم كريسبو وكلاوديو لوبيز ومارسيلو سالاس ورافانيلي؛ لذا وبمقارنة أخرى بسيطة سنجد أن سيموني كان أقلهم شأنًا، وعدم مشاركته كانت أمرًا منطقيًّا بغض النظر عن أرقام أخيه.
من هنا نبدأ القصة الحقيقية، كان لا بد أولًا أن ننزع المسحة الرومانسية في قصة سيموني إنزاجي التي تصوره دومًا كرجل مظلوم رُد له حقه في النهاية. لم تكن تلك هي الحقيقة، لم تكن المقارنة بين أخ أكبر ذي موهبة فذة وآخر أصغر لا يمكنه النفاذ من توهج أخيه، بل كانت المقارنة بين لاعب مهووس بالأهداف وآخر مهووس باللعبة نفسها.
وُلد الأخوان إنزاجي في قرية سان نيكولو الصغيرة شرق فلورنسا، ورغم أن سيموني هو الأصغر بثلاث سنوات فإنه كان يرتدي شارة الكابتن في فريق القرية لكرة القدم؛ لأن أصدقاء الثنائي ببساطة وجدوا في سيموني ملامح القيادة، وكانوا منبهرين بقدرته على تسمية كل لاعب في كل فريق، وذكر نقاط قوتهم وضعفهم، ومواقعهم المفضلة في الملعب.
على الجانب الآخر، كان فيليبو لا يفكر إلا في تسجيل الأهداف بغض النظر عن أي شيء، هذا ما سيدفع يوهان كرويف بعد ذلك إلى وصف فيليبو بأنه رجل لا يستطيع لعب كرة القدم على الإطلاق، لكنه متواجد دومًا في المكان الصحيح. لذا وببساطة، أدرك الأخ الأكبر مركزه المفضل داخل الملعب؛ مركز المهاجم بالطبع.
اتبع سيموني خطوات أخيه، لكنه لم يُجِد التسجيل مثله أبدًا، كان أطفال الحي يطلبون من بيبو أن يلعب لفرقهم بانتظام لأنهم كانوا يعلمون أنه سيسجل، لكن والدتهم مارينا كانت تشترط: سينضم بيبو إذا كان سيموني قادرًا على اللعب أيضًا.
عندما وقع بيبو ليوفنتوس في عام 1997 كان سيموني لا يزال في الدرجة الثالثة مع بريسلو، بعد مرور عام وقع عقدًا مع بياتشينزا، وفي العام التالي وقع مع لاتسيو. باستثناء العام 99، لم يصل إنزاجينو إلى مستوى أخيه أبدًا كمهاجم، كان أسلوب لعبه أكثر دقة وتعقيدًا وكان عقل سيموني مناسبًا لتحديات التدريب أكثر من لعب كرة القدم، فهو واسع المعرفة ومنفتح على الأفكار الجديدة، كما اعتاد زملاؤه في لاتسيو تسميته التقويم لدقته المثيرة للاستغراب واهتمامه المهووس بالتفاصيل.
علق حذاءه دون إنجازات شخصية تُذكر، وهرع سريعًا نحو أكاديمية لاتسيو للعمل كمدرب للأكاديمية، وبعد ست سنوات أصبح مدربًا للفريق الأول، لأن هدفه - كما صرح - كان دومًا أن يصبح مدربًا، وهنا تحديدًا انقلبت ساعة الرمل للاتجاه الآخر، ففي مجال التدريب كان منطقيًّا تمامًا أن يتفوق السيد سيموني على أخيه، بل على كل مدربي إيطاليا من الشباب.
استطاع إنزاجي خلال ست سنوات كمدرب في أكاديمية لاتسيو أن يقود فريق تحت 20 عامًا للفوز بالكأس والسوبر، ثم حانت اللحظة المناسبة عقب إقالة بيولي إثر الهزيمة المذلة أمام روما في نهاية موسم 2015-2016، تولى إنزاجي المسئولية بشكل مؤقت لنهاية الموسم، وقدم خلال سبع مباريات أداءً يبدو جيدًا.
أعلن لاتسيو مدربه الجديد خلال الموسم التالي، وقع الاختيار على الفيلسوف بيلسا، ووُجِّه الشكر للسيد إنزاجي. كان بيلسا النسخة شديدة الاختلاف من إنزاجي، رجل مجنون لا يدرس خطواته بقدر ما يسير خلف مشاعره، لذا وبعد يومين فقط قرر بيلسا أن يترك تدريب لاتسيو، حيث لم يقع في غرام الأجواء هناك، ربما طريقة الرحيل تلك هي ما جعلت مسئولي لاتسيو يذهبون للنسخة المضادة من هذا الجنون؛ أُعيد إنزاجي الهادئ لمقعد الرجل الأول.
ظهر لاتسيو في الموسم التالي بشكل مغاير تمامًا، وبفارق 16 نقطة كاملة، كان ذلك بفضل عقلية إنزاجي الواضحة، حسَّن المدير الفني الجديد الهجوم بشكل لافت بمساعدة الثنائي كيتا بالدي وتشيرو إيموبيلي، اللذين شاركا في تسجيل 39 هدفًا في الدوري، ثلاث فرق فقط تخطت هذا الرقم. وخلال خمس سنوات قاد النادي للبطولات مرة أخرى، ففاز بكأس إيطاليا مرة وكأس السوبر مرتين، وتمكَّن من الوصول إلى دور الـ16 في دوري أبطال أوروبا.
أما في الشمال فكانت قصة أخرى تمامًا تُنسج في انتظار لحظة سيموني المميزة، نقصد هنا قصة إنتر ميلانو بالطبع.
تبدأ القصة الحقيقية بوصول الرئيس التنفيذي الجديد للفريق بيبي ماروتا في ديسمبر 2018، حيث كُلِّف بإعادة إنتر إلى القمة بعد تسع سنوات من هيمنة اليوفي. كان ماروتا نفسه هو مهندس نجاح يوفنتوس جنبًا إلى جنب مع تلميذه فابيو باراتيسي، حيث طور الثنائي مشروعًا طويل الأمد، حقق قدرًا هائلًا من السعادة والألقاب.
وعندما قرر يوفنتوس عدم تجديد عقد ماروتا والاعتماد على باراتيسي، وجد ماروتا في الإنتر مكانًا جيدًا لمنافسة بيته القديم، فبدأ من غرفة تبديل الملابس، حيث قرر التضحية بالمواهب الكبيرة في مقابل أن يجلب هؤلاء الراغبين في النمو والاستمتاع والتطور.
أما الأمر الثاني فكان تطوير عقلية الفوز، كانوا بحاجة إلى مدير فني يمكنه فرض الانضباط وبث روح الفوز في الفريق؛ لذا جاء السيد كونتي الذي حقق السكوديتو بالفعل وكسر هيمنة يوفنتوس، لكن كونتي كعادته أتى صاخبًا ورحل صاخبًا.
رحل كونتي اعتراضًا على بيع بعض اللاعبين، وهنا أدرك ماروتا جيدًا أن قرار اختيار المدرب الذي يلي كونتي هو أهم قرار له مع الإنتر على الإطلاق، كان يعلم جيدًا أن إنزاجي هو المناسب، فهو يراقبه خلال نحته في الصخر رفقة لاتسيو، لكن العائق الوحيد كان تواجد إنزاجي بعد كونتي.
أدرك ماروتا أن الإنتر يقدم مستوياته الاستثنائية عندما يترأسه شخصيات مهووسة بالقتال من أجل الفوز مثل جوزيه مورينيو أو كونتي، ولأن الفريق يعكس شخصية القائد فقرار الاستعانة بسيموني سيحول الإنتر إلى فريق تكتيكي، وتلك كانت المخاطرة في حد ذاتها.
استطاع سيموني أن يفوز بكأس إيطاليا مرتين مع الإنتر، ثم وصل لنهائي دوري الأبطال أمام السيتي في نسخة الموسم الماضي، والتي قدَّم خلالها الفريق مباريات تكتيكه عظيمة، حتى إن مستوى إنتر أجبر بيب جوارديولا على أن يثني على الفريق المنافس في غمرة الفوز بدوري الأبطال، ثم استطاع الإنزاجينو في النهاية أن يفوز بالدوري الإيطالي هذا العام.
آمن سيموني بأن قدرته على التحليل وتعامله مع الأمور بهدوء واتباع نظرية التأثير ببطء وثبات ستمكنه من الفوز بأهم ألقاب إيطاليا، ربما استفاد سيموني من كونه لاعبًا غير عظيم في أنه اعتاد العمل بجهد ليصل إلى مبتغاه، وهو أمر لا يدرك قيمته من اعتادوا أن تلاحقهم الكاميرات.
الآن لم يتبقَّ لنا إلا معرفة أهم عناصر القصة، كيف فعلها سيموني على أرض الملعب، سواء في لاتسيو أو الإنتر.
يفضل إنزاجي على الدوام، سواء في لاتسيو أو إنتر، الاعتماد على التشكيل 3-5-2. وفي مواسمه الثمانية الأولى كمدرب بلغ متوسط استحواذ فريقه على الكرة 50%، مما يعني أنه ليس مهووسًا بفكرة الاستحواذ على الكرة في مقابل أن يبحث عن التفوق الهجومي.
في لاتسيو اعتمد إنزاجي على تجاوز ضغط الخصم بتمريرات أمامية لاختراق الخطوط. في الصورة أدناه، يمكننا رؤية شكل البناء الأساسي عند بدء الهجمات، حيث تبرز طريقة 3-5-1-1 بوجود ثلاثي دفاع ولاعب خط وسط دفاعي يكون مكلفًا بالتغلب على خط الضغط الأول من الخصم.
يتطور الشكل العام لبناء لاتسيو للهجمات بوجود ثلاثة لاعبين في خط الدفاع، وثلاثة لاعبي خط وسط، وظهيرين بمهام الأجنحة يوفران فرصة تمديد الملعب عرضيًّا، مع وجود مهاجمين يكون غالبًا أحدهما خلف الآخر.
اعتمد لاتسيو أحيانًا على نزول المهاجم من الأمام ليثقل كاهل خط الوسط ويترك دفاع الخصم دون أن يراقبه أحد. يمكننا أن نرى في الصورة أدناه أن دفاع يوفنتوس ليس لديه مهاجم يهتم به. ومع ذلك، تحرك لاتسيو من خلال لاعبيه لمهاجمة منطقة الجزاء. يخلق هذا عنصرًا من عدم القدرة على التنبؤ، حيث إنه من الصعب جدًّا الدفاع ضد اللاعبين الذين يتحركون داخل منطقة الجزاء بسرعة بدلًا من اللاعبين الذين يقفون هناك دون تحرك.
وفي إنتر غيَّر إنزاجي من طريقته نسبيًّا، فبدأ بناء اللعب معتمدًا على حارس المرمى بتشكيل قوامه 3-1-5-2، مع تحرك قلب الدفاع المركزي للأمام لشغل مركز الوسط، فيتقدم حارس المرمى للعب أدوار محورية بين لاعبي الدفاع المتبقين.
تتحول خطة الإنتر أثناء بناء اللعب المتقدم إلى تشكيل 3-1-4-2 وذلك بعودة قلب الدفاع إلى الخط الخلفي كما هو موضح في الصورة أدناه.
يجيد الإنتر دمج العديد من اللاعبين في الهجوم وخلق تفوق عددي في الثلث الأخير. إحدى الطرق التي يقومون عن طريقها بذلك هي من خلال الانطلاقات الهجومية من لاعبي قلب الدفاع. كذلك يتطلع لاعبو خط الوسط المهاجمون إلى الركض داخل منطقة الجزاء عندما تكون الكرة في الثلث الأخير، وغالبًا ما يحصلون على أربعة أو خمسة لاعبين في هذه المناطق لإنشاء عدد زائد من اللاعبين.
هذه هي أبرز التكتيكات التي استخدمها سيموني في لاتسيو والآن في إنتر ميلان، من خلالها قاد إنتر للفوز بلقب الدوري الإيطالي للمرة العشرين، ومنح النادي الحق في وضع نجمتين على قميصه، ليكون الفريق الثاني فقط في كرة القدم الإيطالية، بعد يوفنتوس، الذي ينال هذا الشرف.
للمعلق المصري ميمي الشربيني تعليق عبقري يقول فيه: إن التاريخ يرفع يديه للموهوبين وينسى دون اعتذار أنصاف اللاعبين. لم يكن سيموني من أنصاف اللاعبين، لكنه لم يكن أبدًا من هؤلاء الباقين في ذاكرة التاريخ كلاعب كرة قدم، وعندما تغيرت المعطيات وأصبح التقييم خارج الملعب استطاع سيموني أن يعيد كتابة قصته ويجبر التاريخ على أن يرفع له يديه.