من أين لنا أن نستهل الحديث عن جذور الفكر التاريخي عند العرب ثم المسلمين فيما بعد؟ من السهل إرجاع ذلك إلى العصر الجاهلي واهتمام العرب بأخبار أيامهم وحروبهم، ويقوم الشعر الجاهلي شاهدًا حيََّا على ذلك، وكذلك القصاص والرواة الذين عرفهم مسجد عمرو بن العاص منذ وقت مبكر، وما رُوي عن معاوية بن أبي سفيان الذين كان له قاصٌّ أو راوٍ خاص يحدثه عن أيام العرب.
والمؤكد أن معرفة العرب بفكرة التاريخ قديمة، إلا أنه مع ظهور الإسلام، بدأ التاريخ يتخذ أشكالًا أخرى، لاسيما مع ازدهار التدوين على نطاق واسع وبدء كتابة الحديث النبوي أواخر القرن الأول الهجري، الأمر الذي انعكس على كافة فروع المعرفة، ولم يكن التاريخ بمعزل عن ذلك، فبدأ المسلمون يدونون تاريخهم.
ومع الإقرار بوجود كتابة تاريخية في عهد التابعين إلا أنها لم تكن مقصودة لذاتها، فقد كان هذا التدوين في إطار خدمة السنة، بالإضافة إلى أن ذلك كان سلوكًا شخصيًا للبعض –عروة بن الزبير على سبيل المثال– أكثر من كونه حالة علمية.
على كل حال، فقد أدى ازدهار كتابة الحديث إلى انتقال التاريخ من مرحلة المرويات الشفاهية إلى المدونات، ولم يكن مجرد انتقال من شكل لآخر، وإنما انتقال منهجي، عرف فيه المسلمون أشكال الكتابة التاريخية المختلفة، سواء كانت حوليات أو طبقات أو تواريخ البلدان، وغير ذلك من أنواع التصنيف التاريخي.
وفيما يلي عرض لأبرز وأقدم مصادر تاريخ صدر الإسلام الحولية على وجه الخصوص، والتي رتبت فيها الأحداث على السنين، والموضوعية والتي رتبت على أساس المواضيع وراعت الترتيب الزمني، وإن لم تكن بنفس صرامة المنهح الحولي.
أبو عمرو خليفة بن خياط أبي هبيرة العصفري، من أهل البصرة ومن أسرة معدودة في رواة الحديث النبوي الشريف، وكان خليفة ممن روى عنهم البخاري في صحيحه، أحاديث أكثرها في كتاب المغازي والسير.
ترك لنا خليفة كتابي «الطبقات» و«التاريخ»، والأخير أقدم ما وصل إلينا من كتب التاريخ الإسلامي على النظام الحولي، فيبدأ خليفة تاريخه بذكر مولد النبي –صلى الله عليه وسلم–، وبعد ذلك يذكر الأحداث منذ العام الأول الهجري وحتى نهاية العصر العباسي الثاني (٢٣٢هــ)، وتُقدر الفترة المتعلقة بتاريخ صدر الإسلام والدولة الأموية بحوالي ثلثي الكتاب.
وفي كتابه، يبدو خليفة متتبعًا للأسماء والأنساب، ولعل مرد ذلك إلى اشتغاله بعلم الحديث، بالإضافة إلى ذلك فقد قدم خليفة في تاريخه قوائم للعمال والولاة والقضاة في عهد كل خليفة، وقدم لنا قائمة أخرى بأسماء قتلى موقعة الحرة، بالإضافة إلى ذلك فلن تعدم الآراء الشخصية لخليفة نفسه، وإن جاءت بشكل غير مباشر، فهو لا يلقب عبدالله بن الزبير بأمير المؤمنين خلاف ما يفعل مع مروان بن الحكم ولا يخلو ذلك من دلالة، وإن كان صنيع خليفة هذا يهدم الأسطورة التي تقول إن التاريخ الإسلامي كتب في القرن الثالث الهجري لإرضاء العباسيين وتشويه بني أمية.
طبع هذا الكتاب عدة مرات وله نشرتان:
وللباحث في الجامعة الإسلامية بغزة خليل نعيم خليل دراسة ماجستير بعنوان «خلافة بني أمية عند خليفة بن خياط –دراسة تاريخية منهجية»، وللدكتورحسين عاصي دراسة بعنوان «خليفة بن خياط في تاريخه وطبقاته» ضمن سلسلة «أعلام مؤرخي العرب والإسلام» سنة ١٩٩٣، وقد أكثر في هذا الكتاب –للأسف– من الاقتباس من مقدمات الدكتور أكرم ضياء العمري في تحقيقه لتاريخ وطبقات خليفة.
أحمد بن أبي يعقوب إسحاق بن جعفر بن وهب بن واضح الإخباري العباسي، كان جده واضح من موالي أبي جعفر المنصور ويبدو أن واضح كان شيعيًّا، فقد ساعد إدريس بن عبد الله العلوي في هروبه من مصر للمغرب، ومؤرخنا قد ورث التشيع كما يظهر في كتابه إلا أنه كان معتدلًا.
والمعلومات المتوفرة عن نشأة اليعقوبي قليلة جدََّا لا تعدو كونه وُلِد ونشأ في بغداد ثم تركها والتحق بخدمة الطاهريين، كأحد الموظفين في الدواوين، وترك لنا اليعقوبي –خلاف كتاب «التاريخ»– عدة مؤلفات منها «البلدان»، «مشاكلة الناس لزمانهم».
في تاريخه، وبالتحديد في القسم المتعلق بالتاريخ الإسلامي، اتبع اليعقوبي النظام الموضوعي، بداية من مولد النبي –صلى الله عليه وسلم– وحتى عهد المعتمد العباسي، فلم يتقيد دائمًا بذكر السنة في استهلال الأحداث، فهو يذكر الموضوع ثم يسرد الروايات، فيبدأ السيرة النبوية بذكر المولد الشريف ثم يمضي في رواياته حتى يصل إلى بداية عصر الخلفاء الراشدين، فيذكر «أيام أبي بكر» و«أيام عمر» حتى يصل إلى ختام الكتاب، وقد تنوعت مصادره ما بين الروايات السنية والشيعية كما يتضح من المقدمة، فلم يكن أسيرًا لرؤية مذهبية ضيقة.
لجأ اليعقوبي إلى الحد من استخدام الأسانيد وتكرار الروايات ما أمكنه ذلك، فكان يذكر الروايات التي يختارها مباشرة ولن يخطئ القارئ تمييز نزعة شيعية في الرجل، لكنها نزعة معتدلة تعطينا وجهة نظر تاريخية لرجل شيعي عاش في القرن الثالث الهجري، خلاف السرديات البكائية والجنائزية التي توجد في الكثير من كتب الشيعة.
طُبع «تاريخ اليعقوبي» عدة مرات:
ولا توجد فروق ضخمة، إذ إن الأخير قد استفاد من الطبعة الأولى، ولم يضف الكثير، سوى دراسة موجزة في البداية استفادها من دراسة صدرت في العراق سنة ١٩٨٠م بعنوان «اليعقوبي المؤرخ والجغرافي» لياسين الجعفري كما صرَّح في المقدمة.
محمد بن جرير بن يزيد الطبري، أحد الشخصيات الاستثنائية في التاريخ الفكري الإسلامي. فالطفل الذي ولد في آمل بطبرستان، قد اختارت له الأقدار مستقبل سوف يصبح فيه أحد أهم المؤرخين والمفسرين على حد سواء.
نشأ في رعاية والده، وارتحل في طلب العلم، وسافر عدة مرات حتى انتهى به الترحال إلى بغداد، ويمدنا ياقوت الحموي في «معجم الأدباء» بتفاصيل عن رحلات الطبري العلمية وحياته، إلا أن مقدمة «فرانز روزنثال» للترجمة الإنجليزية لتاريخ الطبري، تعد أفضل وأوفى الكتابات المعاصرة التي عرضت لحياة الطبري ومصنفاته وقد ترجمها إلى اللغة العربية مؤخرًا الدكتور أحمد العدوي سنة ٢٠٢١م تحت عنوان «الطبري حياته وآثاره».
فيما يتعلق بكتاب الطبري الأشهر «تاريخ الرسل والملوك»، الذي عُرف باسم «تاريخ الطبري»، فنحن أمام مصنف تاريخي مكتمل وناضج، لاسيما وقد وصلنا شبه مكتمل، بالإضافة إلى كونه مؤلف قد أتيحت له الاستفادة من مصادر عدة، وحفظ لنا الكثير من الروايات التاريخية التي فقدت بضياع كتب هؤلاء الرواة، فحفظ لنا الكثير من مرويات سيف بن عمر وأبو مخنف حتى أنه أمكن استخدام «تاريخ الطبري» في إعادة بناء تلك المصادر المفقودة في أوقات لاحقة.
بالإضافة إلى ذلك، كان الطبري يقدم أكثر من وجهة نظر للحدث، فيسوق أكثر من رواية وقد يرجح أو يكتفي بالنقل، إلا أنك سوف تلاحظ الالتزام الصارم بالنمط الحولي والمنهج الذي خطه لنفسه في مقدمة التاريخ.
ساهم «تاريخ الطبري» في انعاش الفكر التاريخي الإسلامي، حيث أثّر في معاصريه ومن جاء بعده، فلم ينكر المسعودي قيمته، ولم يتردد ابن الأثير في التصريح بأهميته والاستفادة منه في مقدمة «الكامل»، فـ«تاريخ الطبري» –لو جاز لنا التعبير– مادة خام لكتابة التاريخ الإسلامي، لما جمعه من روايات متعددة بأسانيدها المختلفة، بالإضافة إلى فقدان الكثير من الكتب مما جعله كتاب ذو أهمية، خاصة وليس مجرد تسجيل للحوادث التاريخية.
طُبع «تاريخ الطبري» عدة مرات لكن أهم تلك الطبعات:
خرجت للنور الكثير من الدراسات حول «تاريخ الطبري» إلا أن أحد أقدم وأهم الدراسات –بالإضافة إلى دراسة روزنثال التي سبقت الإشارة إليها– هي دراسة الدكتور جواد علي بعنوان «موارد تاريخ الطبري»، ونُشرت أولًا على هيئة مقالات متعاقبة في مجلة «المجمع العلمي العراقي»، ثم نُشرت مرة أخرى ضمن ما قام الدكتور نصير الكعبي بنشره من أعمال الدكتور جواد في كتاب «أبحاث في تأريخ العرب قبل الإسلام» سنة ٢٠١١م.
علي بن الحسين بن علي المسعودي من ينتهي نسبه إلى عبد الله بن مسعود، لا يعرف تاريخ مولده على وجه التحديد. وُلد في بابل وانتقل منها إلى بغداد ثم ارتحل في طلب العلم، واختلف من ترجم له في مذهبه، فنُسب تارة للتشيع وتارة للإعتزال، إلا أن مطالعة كتبه لا تقطع بظن، فهو وإن كان يبدوا موافقًا للشيعة حينًا فهو يوافق المعتزلة أحيانًا أخرى.
ترك لنا المسعودي العديد من المؤلفات أبرزها «مروج الذهب ومعادن الجوهر»، وصنفه على أساس موضوعي على نحو ما فعل اليعقوبي من قبل في تاريخه، وقد استغرق المسعودي في تأليفه ثلاث سنوات (٣٣٢-٣٣٥هـ)، وثمة نسخة ثانية من نفس الكتاب تعتبر هي نشرة المسعودي النهائية لمروج الذهب انتهى منها سنة ٣٤٥ أو قبل ذلك بقليل، وهي أكبر حجمًا من الطبعة المتداولة وغطت سنوات إضافية من العصر العباسي، لكنها لم تصل لنا.
كشأن غيره، استفاد المسعودي ممن جاء قبله، وحفظ لنا الكثير من النصوص التي ضاعت، وفي الوقت نفسه تميز منجز المسعودي التاريخي بالربط بين التاريخ والجغرافيا والعلوم الأخرى، فلم يكن المسعودي مجرد ناقل للروايات التاريخية بل إنه كثيرًا ما كان يتعقبها بالنقد والتحليل، وقد وشت مقدمته لتاريخه بوجود نزعة تاريخية نقدية عنده.
في تسجيله لتاريخ «صدر الاسلام» يدين المسعودي بالكثير للطبري، غير أنه لم يعتمد عليه بشكل كلي، وفي الوقت نفسه كانت اختيارات المسعودي تنم عن نقد تاريخي أكثر مما تكشف عن حس مذهبي، فيمكن لنا ملاحظة سخطه على معاوية بن أبي سفيان وتبجيله للإمام علي بن أبي طالب وذريته، لكن في الوقت نفسه، كان موقفه من الخلفاء الأوائل إيجابيًا إلى حد كبير وبطبيعة الحال لم يخل كتاب المسعودي مما يمكن نقده، إلا أن محاولة البعض تصوير كتابه بأنه مجموعة من الأساطير، دعوة لا تثبت عند النظر في الكتاب.
طُبع كتاب المسعودي عدة مرات وانتشرت طبعاته التجارية إلا أن أفضل نشراته هما
وعن المسعودي فلدينا دراستان
المعلومات المتوفرة عن شخص المقدسي قليلة جدََّا، فنحن نعرف أنه المطهر بن طاهر المقدسي مؤلف كتاب «البدء والتاريخ»، الذي كان ينسب بالخطأ لأبو زيد البلخي، وغاية ما نعرفه عنه من معلومات نتلمسها مما ببثه في ثنايا كتابه.
تجدر الإشارة هنا إلى وجود دراسة هامة عن المقدسي وكتابه «البدء والتاريخ» للدكتور محمد السيد البساطي، وهي في الأصل رسالة دكتوراة نوقشت بجامعة الأزهر عام ٢٠٠٨م وهي من الأهمية بمكان لفهم المقدسي وكتابه، وثمة دراسة أخرى صدرت بعد ذلك للباحث الكويتي أحمد عبد الكريم بعنوان «المطهر بن طاهر المقدسي: جدل الاعتزال والتشيع»، إلا أن لدراسة البساطي السبق.
بالإضافة إلى اشتماله على نقولات من المصادر المفقودة –وهي نقطة هامة تضيف أهمية له– يُعد المقدسي من أوائل المؤرخين الذين اهتموا بربط التاريخ بالفلسفة، بالإضافة إلى أنه قد سبق ابن كثير فى حديثه عن بداية الكون ونهايته، واهتم بالقضايا الفكرية ومسائل الفرق والمذاهب في تاريخه، الأمر الذي لفت انتباه مفكر معاصر وهو الدكتور علي سامي النشار.
قدم المقدسي مادة حية لتاريخ صدر الإسلام فلم يكتفِ بالنقل المجرد وإنما قدم رؤيته كمؤرخ وعالم وفيلسوف، ومن هنا اكتسب تأريخه –أو انتقائه للروايات– أهميته. وكشأن غيره تعرض كتاب «البدء والتاريخ» للسطو والطبعات التجارية، لكن أفضل طبعاته هي: طبعة مكتبة المثنى ببغداد، والمصورة عن نسخة باريس التي صدرت أوائل القرن العشرين.
قد يتعجب القارئ من عدم ذكر «البداية والنهاية» أو «الكامل في التاريخ»، على شهرتهم الواسعة وهذا ما لا أنكره، إلا أني أهدف من تلك السلسة أصلََا إلى الإشارة إلى الروافد الأساسية للروايات، والتي اعتمد عليها كل من جاء بعد هؤلاء، سواء في نفي الوقائع أو إثباتها.