مجتمع

سمير قصير: جريمة اغتيال لا تسقط بالتقادم

راح سمير قصير فداءً للمبادئ التي آمن بها طوال سنوات عمله الصحافي، وظل ينادي بها دون خوف، رغم أن شبح الاغتيال كان حاضرًا بقوة طوال مسيرته.

future الصحفي اللبناني وأستاذ العلوم السياسية سمير قصير

في الثاني من يونيو عام 2005 استيقظت الصحافة العربية على فاجعة اغتيال سمير قصير. بعبوة ناسفة وُضعت في سيارته، وبمجرد أن دارت السيارة انفجرت بالرجل فلقي مصرعه فورًا وأصيبت سيدة كانت تجلس بجواره ونُقلت إلى المستشفى. راح سمير قصير فداءً للمبادئ التي آمن بها طوال سنوات عمله الصحافي، وظل ينادي بها دون خوف، رغم أن شبح الاغتيال كان حاضرًا بقوة طوال مسيرته.

لبنان المكافح

سمير قصير من مواليد عام 1960، لأب فلسطيني وأم سورية. بدأ عشق الصحافة يراوده في السابعة عشرة من عمره حين كان طالبًا في مدرسة الليسيه الفرنسية الثانوية بدأ بالكتابة لصحيفة النداء، وهي صحيفة تابعة للحزب الشيوعي اللبناني وكانت تلك المقالات غير موقعة، لكنه كشف عن أنه من كتبها بعد ذلك.

توسع قصير بعد ذلك فبدأ في تقديم مقالات متنوعة للصحافة اليومية الناطقة بالفرنسية، مثل لوريون لوجور. وعلى مدار تسع سنوات، ما بين عامي 1981 و2000، بدأ سمير في الكتابة لصحيفة لوموند ديبلوماتيك، وهي الصحيفة الفرنسية المرموقة والمعنية بالشأن السياسي الدولي.

كان الهم الأكبر للرجل في كل تلك المساهمات هو الحديث عن لبنان ومعاناته. فقد كان المُحرر لنشرة إخبارية بعنوان لبنان المكافح، وقد خصصها للحديث عن الكفاح اللبناني ضد الاحتلال الإسرائيلي. وجعل من نفسه صوتًا للمقاومة الفلسطينية أيضًا؛ فقد عمل منذ عام 1986 وحتى عام 2004 عضوًا في اللجنة التحريرية في الصحيفة الناطقة بالفرنسية والتابعة لمعهد الدراسات الفلسطينية. كما عمل في صحيفة الحياة اللندنية الناطقة بالعربية.

في لحظة ما قرر سمير قصير أن يكون له منبره الخاص الذي يقول فيه ما يريد دون التقيد بالخط التحريري للصحف التي يُرسل إليها مقالاته. فأنشأ مجلة ثقافية وسياسية شهرية تُدعى لوريون إكسبريس. استمرت التجربة ثلاث سنوات فحسب، من 1995 حتى 1998. كان من أسباب توقفها هو عدم اهتمام المتابعين بها مما أثر على استمرار طباعتها والإنفاق عليها، بجانب أن صناعة الصحافة عمومًا كانت في بداية طريق الخفوت، وفقدان البريق الذي اعتاده الكُتّاب والصحافيون.

قضايا العرب في كتاباته

توجه قصير إلى العمل في التدريس بوصفه وسيلة جديدة لإيصال صوته ونشر أفكاره. فعمل أستاذًا في جامعة القديس يوسف في بيروت. ساعده في ذلك مؤهلاته المتعددة؛ فقد حصل على شهادة في الفلسفة السياسية عام 1984، وحصل أيضًا على ماجستير في الفلسفة السياسية من جامعة بانتيون سوربون. ثم حصل على دكتوراه في التاريخ المعاصر عام 1990، وكانت أطروحة الدكتوراه تدور تحديدًا حول الحرب الأهلية اللبنانية.

كان لسمير قصير سهم في التأليف ونشر الكتب. ففي عام 1992 تشارك مع صديقه الناشر والمؤرخ السوري فاروق مردم بك في نشر كتاب «مسارات من باريس إلى القدس: فرنسا والصراع العربي الإسرائيلي»، الذي يرصد في جزأين بالفرنسية تاريخ السياسات الفرنسية في المشرق العربي المتعلقة بالنكبة الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي.

ثم في عام 1994 نشر كتابه الثاني «الحرب اللبنانية: من الانقسام الأهلي إلى الصراع الإقليمي»، والمستمد من أطروحته الجامعية التي حلّل فيه ديناميات الحرب وتداخل العناصر الداخلية والخارجية فيها بين عامي 1975 و1982، وقد تمت ترجمة الكتاب إلى العربية عام 2008.

أما كتابه الثالث في ترتيب الصدور، والثالث أيضًا في صدوره باللغة الفرنسية، فصدر عام 2003 بعنوان «تاريخ بيروت»، وصدرت ترجمته العربية عام 2007، ويروي فيه تاريخ المدينة وعائلاتها وثقافتها واقتصادها وتطورها العمراني والاجتماعي، ويوثق كذلك علاقتها بسائر المناطق اللبنانية وبالحواضر العربية والمتوسطية.

ثم أصدر كتابين متتابعين باللغة العربية في عام 2004؛ الأول هو «ديمقراطية سوريا واستقلال لبنان»، أما الثاني فكان بعنوان «عسكر على مين» الذي يتضمن مجموعة من مقالاته المنشورة في جريدة «النهار»، يركز فيهما قصير على الترابط بين قضية التغيير الديمقراطي في سوريا والاستقلال في لبنان، وعلى التنافر بين قضايا الحرية وقيم الجمهورية وسلطة «العسكر».

وكان آخر منتجاته باللغة الفرنسية هو «تأملات في شقاء العرب». في هذا الكتاب قدم قصير تحليلًا مكثفًا لأسباب إجهاض النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر، ورفض بشكل واضح منطق التأريخ التبسيطي الحاكم على العرب بالانحطاط، واعتبار أن شقاءهم الحالي هو نتاج جغرافيتهم أكثر منه نتاج تاريخهم.

المثقف المشتبك

رغم انشغال قصير بقضايا الوطن العربي ككل، فإنه ظل مخلصًا لقضيته الأساسية، فرفض الوجود السوري في لبنان، وناهض الحكومة السورية بكل السبل. فقد كان قصير من مؤسسي حركة اليسار الديموقراطي عام 2003، وكانت كتاباته بمثابة المانفيستو التي تتبعه الحركة في التأكيد والتأصيل النظري لموقفها الرافض لسيطرة البعث السوري على لبنان. والدعوة إلى التغيير السلمي وإلى علمنة المجتمع اللبناني كافة وبناء دولة تقوم على القانون الشامل.

وكما اختار الموقع الرسمي لسمير قصير أن يصف دوره في لبنان في مرحلة ما بعد اغتيال رفيق الحريري، فإن سمير شارك بفاعلية في إطلاق الانتفاضة الشعبية في وجه الهيمنة المخابراتية السورية على لبنان، وكان له الفضل الأبرز في تسميتها انتفاضة الاستقلال (في مارس 2005). ليؤكد طابعها الوطني الاستقلالي، ويربطها بالانتفاضة الفلسطينية في وجه الاحتلال الإسرائيلي. وصارت مقالاته صوت الانتفاضة الأعلى.

وكان من أوائل الذين تنبهوا إلى ضرورة وجود برنامج سياسي لحقبة ما بعد الانسحاب السوري. يشمل هذا البرنامج ما يُصلح النظام اللبناني، ويعدل التوجهات الاقتصادية، ويطرح مسألة تخطي الطائفية، ويؤمن المصالحة الوطنية الحقيقية، حتى لا تتعرض سريعًا للانتكاس. كما أنه كان أول من دعا إلى انتفاضة داخل تلك الانتفاضة تعيد إلى الشارع وهجه وإلى السياسة معناها النبيل وإلى المواقف وضوحها واستقامتها.

وفي الوقت نفسه، تمسك قصير برفض جميع مظاهر العنصرية المتسربة إلى اللبنانيين تجاه السوريين عمومًا، وطالبهم أكثر من مرة في مقالات ومن على منبر ساحة الشهداء بالتمييز الدائم بين النظام السوري ومخابراته القابضة على سوريا ولبنان، وبين الشعب السوري بعماله ومثقفيه. وكان قصير مثالًا للمثقف المشتبك، فلم يكتف بالحديث النظري أو الكلام عبر الصحف، بل كان حاضرًا باستمرار في ساحة الشهداء في بيروت يناقش السياسيين والإعلاميين والطلاب المتظاهرين، ويقدم اقتراحات لتطوير أداء المتظاهرين وحركتهم.

اغتيال الجسد لا الفكرة

هذه الحركية جعلت قصير محط أنظار عديد من الجهات التي يهاجمها. فرغم أن عملية اغتياله لم تجد من يتبنى المسئولية عنها ولم تُسفر التحقيقات عن إدانة جهة ما فإن الرجل تلقى عديدًا من التهديدات من ضباط المخابرات السورية واللبنانية. مما ألقى بظلال الشك حول أجهزة الأمن السورية واللبنانية، لكن جاء الرد السوري الرسمي بأن جميع ضباط المخابرات السورية قد خرجوا من لبنان.

أثارت حادثة اغتيال سمير قصير موجة من الغضب الشعبي والرسمي. وقد كان على رأس المنتقدين سعد الحريري الذي ألقى باللوم صراحة على الحكومتين السورية واللبنانية؛ إذ قال إن الأيادي التي اغتالت رفيق الحريري هى نفسها التي اغتالت سمير قصير. ومما زاد الشكوك بأن الأمر أكبر من مجرد شخص غاضب من سمير قصير، هو سلسلة الاغتيالات التي شهدتها بيروت تلك الفترة.

فبعد اغتيال رفيق الحريري كان اغتيال سمير قصير، ثم بعد قصير اغتيل جورج حاوي، الزعيم الأسبق للحزب الشيوعي اللبناني، وقد اغتيل حاوي بنفس الطريقة، سيارة مفخخة، ثم أتى اغتيال النائب والصحافي جبران تويني، وعديد من الحوادث التي استمرت في بيروت حتى عام 2008.

رغم أن اغتيال سمير قصير قد غيّب جسده عن العالم فإنه أفكاره لم تُغيب، إذ قامت زوجته جيزيل خوري ومجموعة من أصدقائه وطلابه بإنشاء مؤسسة سمير قصير، وجعلوا أحد أهدافها هو ترجمة أعماله إلى الإنجليزية والإيطالية والنرويجية، ونشر أفكاره في أنحاء العالم كافة.

كما قام الاتحاد الأوروبي بإنشاء جائزة عام 2006 تحمل اسمه تُمنح للصحافيين والكُتّاب الذين يتبنون مواقف داعمة لحرية التعبير وحرية الصحافة. ويعملون على إيصال صوت فئات من المجتمع لا تستطيع إيصال صوتها. وكذلك تُشجع الجائزة ومؤسسة سمير قصير عمومًا الصحافيين من أنحاء العالم كافة، خصوصًا الشباب على خوض صعاب مهنة الصحافة، والاهتمام  بقول الحقيقة أيًا كان الثمن.

# سمير قصير # شخصيات

ميمي الشربيني: صنايعي التعليق في عيون شبابيك منير
مازن بن غضوبة: أول صحابي من سلطنة عُمان
نعوم تشومسكي: آخر الرجال المحترمين

مجتمع