في عام 1939، احتفظت بريطانيا بوجود عسكري في الشرق الأوسط وتحديداً الدول الخاضعة للانتداب البريطاني، تمثل في ست فرق بمصر، وثلاث فرق في فلسطين، وكانت هذه القوات في انتظار 20 ألف جندي قادمين من أستراليا الخاضعة للتاج البريطاني آنذاك.
في هذه الأثناء لم تتوافر أماكن لاستضافة هذه القوة الكبيرة، لذلك قرر الجنرال جيلبرت ستريتن، كبير مهندسي القوات البريطانية في مصر والمسؤول عن الأعمال الدفاعية الخاصة، إنشاء سبع قواعد عسكرية لاستقبال الجنود الأستراليين من بينها ما عرف بعد ذلك بقاعدة «سديه تيمان»، التي باتت حديث العالم هذه الأيام بعدما استخدمتها إسرائيل سجناً للفلسطينيين من قطاع غزة وتناولت عديد من التقارير الصحفية الأجنبية حجم الانتهاكات التي تجري داخله.
استخدمت بريطانيا، فلسطين منطقة احتياطية تتمركز فيها القوات البريطانية تحسباً لأي هجوم من مصر، لذلك فإن التخوف البريطاني من احتمالية مهاجمة مصر من شمال أفريقيا أو الاتحاد السوفيتي حول فلسطين، ابتداء من عام 1939، إلى «حاملة طائرات لوجستية» ومجموعة من المعسكرات العسكرية البريطانية لأغراض مختلفة؛ وهو ما أدى لصب جم تركيزها على الجنوب الفلسطيني خلال الحرب العالمية الثانية، نتيجة لقربه الشديد من مصر وحتى تكون مستعدة لأي تطورات درامية في الأحداث. كان غرض بناء القواعد العسكرية في الجنوب، هو تدريب فرق المشاة البريطانية، التي ضمت أيضاً القوة الآلية والذخيرة والمعدات العسكرية.
ومع نهاية الانتداب البريطاني على فلسطين، وإعلان قرار التقسيم الأممي لفلسطين، ورث جيش إسرائيل في ذلك الوقت، المعسكرات العسكرية في المناطق التي استولوا عليها داخل الأراضي المحتلة بعد «النكبة». أبقاها الإسرائيليون كما هي بحسب ما أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون في مقاله «عملية جيلنا ومهمتنا» كمقدمة للكتاب السنوي للحكومة في 1960 إذ قال: «لقد اضطر جيش (الدفاع) الإسرائيلي إلى استخدام المعسكرات العسكرية البريطانية كما هي - لأن مواردنا لم تسمح لنا بإقامة معسكرات جديدة تلائم احتياجاتنا».
يقع «سديه تيمان» في صحراء النقب بالقرب من بئر السبع جنوب إسرائيل؛ لكن تسميته بهذا الاسم محل جدل، إذ يشير البعض إلى أن التسمية تعود إلى خمسينيات القرن الـ20 بعد عملية بساط الريح، كتخليد لها، التي نقلت يهود اليمن من عدن إلى إسرائيل؛ لكن البعض الآخر يشير إلى أن تسمية المعسكر بهذا الاسم نابع من العبرية التوراتية إذ إن كلمة «تيمان» تعني «اليمني» أو «الجنوبي»، في إشارة إلى موقع المعسكر في جنوب إسرائيل.
بالقرب من القاعدة العسكرية، يوجد أيضاً «مطار سديه تيمان» وهو المطار العسكري البريطاني من الحرب العالمية الثانية، الذي كما أشرنا سابقاً، ورثه الجيش الإسرائيلي؛ إذ ظلت مرافقه «سليمة»، واستخدمته القوات الجوية الإسرائيلية في حروب عدة دخلتها من 1948.
في أبريل 2018، أصدرت وزارة الداخلية الإسرائيلية تقريراً بشأن تغيير حدود قاعدة «سديه تيمان»، بعدا اتسعت مساحة القاعدة الكلية إلى ما يزيد على 2600 دونم بينما اختصاص القاعدة أو المنطقة التابعة لها، تبلغ مساحتها 229 دونماً فقط، وحتى عام 2017 دفعت وزارة الدفاع الإسرائيلية أكثر من سبعة ملايين شيكل ضرائب عن القاعدة.
أثناء حرب أكتوبر 1973؛ استخدم «سديه تيمان» نقطة انطلاق من الجبهة الجنوبية في إسرائيل في محاولة من بعض الفرق العسكرية لاختراق قناة السويس والوصول إلى الغرب.
في كتابهما «داخل مسارات النار» لإيلان كافير وداني دور أوضحا أن الفرقة الاحتياطية 600، إلى جانب فرقتي 14 و421 الإسرائيليتين، انطلقت من قاعدة «سديه تيمان»، إلى جبهة القناة، التي تحركت عبر مئات الكيلومترات على طرق سيناء، كما قال ضابط الصيانة في الفرقة 143، تسيون ماسوري، إنه تلقى أمراً من أرئيل شارون بتزويد قوات الاحتياط التي وصلت إلى بئر السبع، ومنها إلى «سديه تيمان»، بالمعدات والذخيرة والسلاح.
ورغم أن «سديه تيمان» كانت بدايات إنشائه بوصفه قاعدة عسكرية في جنوب فلسطين؛ فإنه بعد ذلك أصبح معتقلاً لمن تسميهم إسرائيل «المقاتلون غير الشرعيين»، ويعمل الجيش فيها على فرز الفلسطينيين الذين يجري اعتقالهم في حوادث مختلفة، ثم تحويلهم إلى السجون التابعة لمصلحة السجون الإسرائيلية، أي إن اعتقالهم في البداية يكون بأمر عسكري تحكمه قواعد مشددة لا يسمح فيها لهم بلقاء محاميهم، بعدها يتم تحويلهم إلى السجون الإسرائيلية لمحاكمتهم.
لكن العدد الكبير الذي اعتقلته إسرائيل منذ بداية «طوفان الأقصى» في أكتوبر من العام الماضي، والذي بلغ أكثر من 1,000 شخص، ووصل إلى القاعدة العسكرية التي لا تسع فقط إلا لـ500 شخص، حولتها من وظيفتها الرئيسية كقاعدة عسكرية إلى سجن دائم، لا يتوافق مع غرضه، وهو ما حدث أيضاً في عمليتي الجرف الصامد، والرصاص المصبوب.
جرت هذه الاعتقالات بناءً على أوامر وزير الدفاع الإسرائيلي في ذلك الوقت، إذ يخول له قانون المقاتلون غير الشرعيين، تحديد الأماكن التي يعتقلون فيها وهي الحجة القانونية التي تعد باباً خلفياً لشرعنة اعتقالات جيش الاحتلال للفلسطينيين دون مساءلة، وفي ديسمبر 2023، أصدر وزير الدفاع يوآف جالانت، نص الأمر بسجن «المقاتلين غير الشرعيين» في ثلاثة أماكن، وهي: قاعدة «سديه تيمان»، وسجن «عوفر»، وسجن «عنتوت» في الضفة الغربية، وهما سجنان لا يقلان صعوبة أو قسوة عن «سديه تيمان».
يعد سجن عوفر، بحسب ما تصفه الصحافة الإسرائيلية، مسكناً مؤقتاً لـ«الأسرى الأمنيين»، سواء كانوا أعضاءً في حركة فتح أو حماس، إضافة إلى جناح آخر للأطفال الحدث، الذين تقل أعمارهم عن 13 عاماً، ويقع في شمال شارع 443، بالقرب من مدينة رام الله في الضفة الغربية، وهو الوجود الذي يجعل السجن في حالة غليان دائم، بحسب ما يصفه أحد قادة السجن في حوار خلال 2012.
في البداية كان سجن عوفر من المستوى الأمني المتوسط الذي يعني أن أجنحة السجن مبنية ببنية صلبة، والفتحات مسدودة ومحمية، إضافة إلى إحاطة السجن بجدار مبني أو سياج مرتفع، من دون أبراج مراقبة أو وسائل إلكترونية أو دوريات آلية، لكن بعد عمليتي هروب من قبل أسرى فلسطينيين من السجن في 2002، و2013، شُددت الحراسة الأمنية على السجن وتحول إلى مستوى أمني مشدد.
ووفقاً لمصادر إسرائيلية فإن تغيير مستواه الأمني يعود إلى أن السجن يبعد كيلو ونصف عن رام الله، أي إن الوصول إلى الأسير الفلسطيني بعد هروبه إلى رام الله ضئيل للغاية، ويمكن الإشارة هنا إلى أن سجن عوفر هو الذي خرج منه أغلب الأسرى الفلسطينيين في صفقة التبادل الشهيرة مع الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط في 2011.
وفقاً لمصادر عدة؛ فإن تسمية السجن بـ«عوفر» يعود لضابط في الجيش الإسرائيلي يدعى تسفي عوفر، قائد دورية «حاروف» الذي قتل عام 1968 في وادي الأردن.
هذا السجن كان مخصصاً في البداية لاستقبال المعتقلين والمحتجزين والسجناء الذين تصنفهم الحكومة الإسرائيلية من الفلسطينيين الذين يلقون الحجارة أو «المولوتوف»، وكان المعتقل يتبع في البداية للجيش الإسرائيلي؛ لكن بعد ذلك أصبح تحت ولاية مصلحة السجون الإسرائيلية.
يقع سجن عنتوت في قرية عناتا الفلسطينية في الضفة الغربية أيضاً، التي صادر الاحتلال نحو 90% من أراضيها لبناء مستوطنات عليها؛ لكن بدايات إنشاء المعتقل الذي يقع داخل قاعدة عسكرية تسمى بنفس الاسم، لم يكن سوى خطة إسرائيلية لإنشاء منطقة صناعية في مخطط تهويد القدس، عام 1968.
وفي 23 أغسطس 1973، ووفقاً لما نشر في «دافار» الإسرائيلية (لم تعد تصدر الآن)، فإن المنطقة التي توجد عليها القاعدة حالياً، كانوا يخططون لكيفية الحصول على قطعة الأرض التي لم تكن رسمياً ضمن الأراضي الإسرائيلية، لذلك قوبل اقتراح تيدي كوليك رئيس بلدية القدس في ذلك الوقت، بضم عنتوت و«النبي صموئيل» إلى بلدية القدس، بالترحيب من الجميع.
في 1978 رفضت المحكمة العليا الإسرائيلية التماساً بوقف مصادرة 1700 دونماً من الضفة الغربية في بلدية عنتوت، إذ بررت ذلك بأن «المنطقة التي تم الاستيلاء عليها هي لأغراض عسكرية فقط»، وأنها «لم تكن لأغراض صناعية»، مستندة على ما قالته مديرة قسم المحكمة في نيابة الدولة العليا المحامية دوريت بينيش، في «آذان القضاة» أنه سيتم إنشاء معتقل عسكري، وأنه لن يستخدم لأي أغراض مدنية.
وكسابقة السرقة في قاعدة «سديه تيمان»، تعرض معسكر عنتوت أيضاً إلى حادثة سرقة في عام 2001 إذ سرق منه نحو 20 ألف رصاصة من مختلف الأنواع، حيث وصل سارقو المعسكر عبر ممر مائي تحت الأرض، إضافة إلى عديد من الأجهزة البصرية كالتلسكوبات وأجهزة الرؤية الليلية، ولا تعد تلك المرة الأولى التي تتعرض فيها للسرقة.
تشترك المعتقلات الثلاثة؛ في أنهم يتم تخصيصهم لمن تصفهم إسرائيل بـ«المقاتلين غير الشرعيين»، ففي أغلب الهجمات الإسرائيلية السابقة التي شنتها إسرائيل على الضفة الغربية أو قطاع غزة؛ كان لا بد أن يحدد وزير الدفاع أياً من الثلاث معتقلات لاحتواء الاعتقالات العشوائية التي تجريها ضد السكان الفلسطينيين.
كما أنه وفقاً لمنظمات حقوقية عديدة تعمل في إسرائيل؛ فإن المعتقلين الفلسطينيين يتعرضون لأبشع أنواع التعذيب؛ ويمكن الاطلاع عليها من خلال آخر تقرير لمنظمة «بيتسليم» المناهضة للاحتلال الإسرائيلي في أغسطس الجاري، الذي عنونته بـ«مرحباً بكم في جهنم.. تحويل السجون الإسرائيلية إلى شبكة من معسكرات التعذيب».
وأورد تقرير «بتسيلم» شهادات وصفتها بـ«الروتين الجديد والخطير الذي أقامته إسرائيل تجاه السجناء الفلسطينيين في سجونها، وهو روتين صُمم جزئياً على الأقل، على خلفية الأوامر التي يصدرها وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، التي تشمل من بين أمور أخرى: العنف الجسدي والعقلي المستمر، والحرمان من العلاج الطبي، والتجويع، والحرمان من المياه، والحرمان من النوم، ومصادرة جميع المعدات الشخصية، وغيرها.