أن تفقد القدرة على كتابة حرف جديد، أو تتلاشى رغبتك في الجلوس لإضافة تعديل واحد على عملك شبه المنتهي، أو يصبح معدل كتابتك بطيئاً جداً لدرجة أن التوقف عن الكتابة يكون أفضل. كل ذلك تجليات لحالة قَفلة الكاتب، أو سدة الكتابة Writer's Block. من مظاهرها أيضاً أن تكون قدرتك على الإتيان بأفكار جديدة وأصيلة أمراً يتراوح بين الصعوبة والاستحالة. وقد تمر على الكاتب سنوات من دون أن ينتج عملاً واحداً، على رغم رغبته الشديدة والصادقة في إنتاج أي شيء، ومحاولاته الجلوس للكتابة، لكن يبدو أن شيئاً ما يمنعه من تحقيق ذلك.
عانى الكُتاب هذا الشعور المستعصي على الوصف طويلاً حتى وجدوا له اسماً. عام 1947 صاغ إدموند بيرجلر مصطلح «سدة الكتابة» أو «حبسة الكاتب» أو «قفلة الكُتّاب»، إلى آخر التنويعات التي ترجم بها العرب المصطلح. بيرجلر من رواد التحليل النفسي في العالم، وهو من أوائل الذين انشغلوا بدراسة أمور حياتية وصوغ مصطلحات لها كـ «أزمة منتصف العمر»، و«إدمان المقامرة»، و«ميل الإنسان للسلوكيات الانهزامية». الرجل صاغ مصطلحه بعد عشرات من المقابلات مع الأدباء، وبعد سنوات من فحص حياة الكُتاب، وتتبع سيرهم وطرق حياتهم.
يظل موضوع سدة الكتابة قيد الشك والاستخفاف ما لم يمر به الشخص نفسه. فهى تجربة لا ينفع معها النقل الشفهي، ولا الحكي عن الآخرين، بل يجب معايشتها. من الذين آمنوا بها بعد أن عصفت بهم التجربة، الكاتب الشهير سكوت فيتزجيرالد. كما نجد أن إرنست هيمنجواي، الذي عُرف بمصارعته للثيران، وتعرض لإصابة بالرصاص في الحرب العالمية الأولى، وسقطت طائرته في أفريقيا، حين سُئل عن أكثر ما يرعبه، أجاب بثقة «صفحة الكتابة البيضاء». حتى جوزيف ميتشل الذي كتب كتاب «سر جو جولد» ظل يحاول كتابة رواية ثانية لمدة 30 عاماً لكنه مات من دون أن يكتبها.
وكما قال الكاتب المصري أحمد خالد توفيق، في كتابه «اللغز وراء السطور»: «إن الكتابة جزء من الجحيم، فهي تجعلك في شكٍ دائم: هل استطعت التعبير عما أريد؟ هل وُفّقت في كلماتي؟ هل النص جذاب؟ كيف أُنهي القصة؟ ثم تأتي اللحظة الأسوأ: هل هناك قصة أخرى بعد هذه؟ هنا تبدأ أيامٌ من التوقف، والأيام تصير أسابيع فشهوراً ربما. ما يسمونه متلازمة الصفحة البيضاء، إذ تظل لساعات ترمق صفحة خالية منتظراً أن ينفتح في الورق ذلك الباب السحري، الذي يقودك لعالم الرواية؛ هذه هي سدة الكاتب، كابوس الأدباء المروع».
لم يبالغ توفيق حين وصفها بكابوس الأدباء المروع، فمثلاً نجد أن أمل دنقل، الشاعر المصري، قد قارب على الانتحار بعد أن ظل ثلاث سنوات عاجزاً عن كتابة الشعر بعد ديوانه الشهير والأول «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة».
لذا حين أخذ الكُتّاب المرموقون بالحديث عنها، بدأ الاهتمام بتلك التجربة يزداد، وحاول الجميع التوصل لحل لها، ومحاولات للتغلب عليها. كانت أول محاولة للتغلب عليها هي اعتبارها عَرَضَاً لسببٍ ما، بالتالي يؤدي القضاء على السبب إلى علاجها.
من الأسباب التي قيلت إنها قد تكون بسبب مشكلة إبداعية في العمل نفسه، بمعنى أن العمل قيد الكتابة قد وصل إلى نقطة ما لا يملك الكاتب عندها ما يضيفه من الأحداث، أو ليس لديه نهاية مرضية للعمل، حينها تكون مواجهة العمل الناقص شيئاً ثقيلاً على عقل الكاتب فيتهرب من هذا النقص بالاختباء خلف ستار سدة الكتابة. لكن بمجرد أن تبرق النهاية المناسبة، أو يجد الكاتب الحل الملائم للمعضلة التي تواجهه، حينها ستختفي سدة الكتابة تلقائياً.
السبب الآخر لها هو أن يكون الكاتب نفسه قد تشتت عن الكتابة بأحداث أخرى يعايشها. إما أحداث شخصية تشغل ذهنه، كتوفير قوت يومه، أو الاعتناء بطفلٍ مريض، أو الوجود في ظرف اجتماعي عائلي ما. أو تكون أحداثاً عامة، كمأساة تقع على وطنه أو بلدٍ مجاور له، حينها يتضاءل الكاتب أمام ذلك الحدث الكبير. يفقد شعوره بقيمة الكتابة ككل، لأنها تصبح في رأيه مجرد فعل ترفيهي، لا يستطيع أن يدفع به الظلم الواقع على الآخرين، ولا أن يساعدهم بالكتابة في مواجهة مأساتهم.
لكن ما يكتشفه المحللون النفسيون، والأدباء، يوماً بعد آخر، أن الأمر قد يحدث من تلقاء نفسه. لا أسباب خفيّة ولا مشاكل ظاهرة، فقد يتوقف الإنسان عن الكتابة، ولا يستطيع العودة لها. لكن من الواجب هنا التفريق بين شعورين مختلفين، الأول هو شعور الكسل عن الكتابة، والثاني هو سدة الكتابة التي وصفناها بالأعلى.
فالكسل أمر معتاد ومتوقع، ويحدث بعد مرحلة من الكتابة المتواصلة يحتاج الإنسان بعدها إلى تجديد نشاطه ودوافعه. كأن تقوم بجولة على قدميك في أرجاء مدينة تحبها، أو حتى تتناول مشروباً تحبه في مقهى لك فيه ذكريات سابقة. أو حتى الدخول في نقاش مع صديق يمتلك عقلاً نقدياً يساعدك على تحريك ذهنك، وإثارة أفكار جديدة به.
قد تتشابه سدة الكتابة مع شعور الكسل تجاهها؛ ففي نهاية الأمر يؤدي الاثنان إلى متلازمة الصفحة الفارغة. أن تجلس وأمامك صفحة بيضاء تنتظر منك الكتابة، لكنك لا تفعل سوى التحديق فيها. ولمواجهة هذه الحالة، أو بمعنى أدق للهروب منها ومحاولة التغلب عليها، عليك أن تشتت ذهنك عنها. التركيز عليها سيزيد الأمور تعقيداً، والضغط على نفسك للكتابة سيؤدي إلى أن يصبح الشعور بالإحباط أعمق وأدوم.
ولكي تتوقف عن التركيز عليها، عليك أن تبتعد عن العمل الفني الذي لا تستطيع إكماله. وحاول أن تفعل شيئاً مختلفاً مثل أن تقرأ كتاباً بسيطاً تحبه. أو تمارس هواية مختلفة لفترة من الوقت. وإذا كان الشعور بعدم استطاعة الكتابة مزعجاً فيمكنك الجلوس للكتابة، لكن دون اشتراط أن تكون تلك الكتابة منمقة أو فنية، بل يمكن أن تكون أي شيء، عن أي موضوع، دون تفكير. لأن التفكير والتخطيط المسبق قد يؤدي إلى المماطلة، مما يزيد الأمور صعوبة.
يجب على الكاتب في تلك اللحظة تحديداً أن يتخلى عن شرط الكمال كي يعتبر عمله مُنجزاً. وأن يتقبل لفترة من الوقت أن ليس كل ما سينتجه سيكون تحفة فنية، أو قطعة فريدة من الأدب الكلاسيكي، وأن يكتب لأجل الكتابة فحسب، من أجل أن تبقى تروس الآلة تعمل، بدلاً من أن يتركها للصدأ ليأكلها، فلا يستطيع أن يستخدمها مرة أخرى، حتى لو أتته تلك الفكرة الذهبية التي ستجعله خالداً في عالم الأدب.
وكذلك من آليات التخلص من سدة الكاتب هو أن يذكِّر الكاتب نفسه أنه ليس ناقداً، وأن صوت الناقد الداخلي الذي يسيطر عليه أثناء الكتابة قد يكون مضراً أكثر منه مفيداً. ولو كان لا بد أن يستمع له فليستمع له بعد إنجاز المسودة الأولى من العمل، فالمسودة الأولى تُكتب بالقلب لا بالعقل، يتحرر فيها الإنسان من كل القواعد والتوقعات، يكتب فحسب. وبعد أن ينتهي منها يبدأ بعدها في الالتزام بالقواعد، وتعديل ما يتطلب تعديله.
يمكن لتغيير بعض الظروف أن تساعد في تجاوز تلك الأزمة. كتغيير الساعات التي يعمل فيها، فالصباح قد يكون أكثر إنعاشاً للروح، لكن قد يفضِّل الآخرون الليل وهدوءه. وتغيير المكان كذلك، يساعد في الخروج من حالة الملل. كذلك قد يساعد في التخلص من تلك الحبسة أن يحاول الكاتب مجاراة كتابة كاتب غيره، يقتبس منه قصة أو يحاول تعريب عمل أجنبي، لكن بالطبع دون السرقة أو نسبة العمل لنفسه، لكنه أشبه بتدريب يحاول فيه الكاتب تسخين محرك يده كي تنطلق بعده في إنجاز عمله الخاص.
لكن يجب في النهاية أن يظل الشخص متفهماً أن سدة الكاتب قد لا يكون سببها نقص الرغبة أو ضعف الالتزام. فالأمر قد يكون، طبقاً لتعريف «قاموس ويبستر»، عبارة عن تثبيط نفسي يمنع الكاتب من التقدم في عملٍ ما. وأن الأمر ليس له جدول زمني محدد ينتهي عنده، فأحياناً قد يستمر لسنوات. فمثلاً هنري روث لم يكتب روايته الثانية إلا بعد 60 عاماً من المحاولات. ورالف إليسون، كاتب رواية «الرجل الخفي»، التي حصدت العديد من الجوائز، ظل حتى وفاته يحاول كتابة الرواية الثانية لكن لم يفلح طوال 42 عاماً.
لكن لا يمكن القول إنهم فشلوا في حياتهم، فقد وصلت أعمالهم التي كتبوها إلينا، وأصبحت أسماء هؤلاء الأدباء وغيرهم خالدة عبر الزمن. فالأمر يمكن تأويله أنهم فقط قالوا كل ما يريدون في أعمالهم القليلة، ولم يعد لديهم شيء للإضافة. لذا لا تبالغ في الإيمان بسدة الكتابة، وانظر إليها دائماً باعتبارها شيئاً مؤقتاً يمر به كل الأدباء، المهم فقط ألا تتوقف عن التقدم، وأن تسير للأمام بمعدل كلمة كلمة، لا يهم كم تكون بطيئاً، المهم أن تستمر في التحرك.