لم يكن الألمان النازيون بمفردهم حين مارسوا مختلف أنواع التعذيب والاعتقال والقتل بحق اليهود قبيل الحرب العالمية الثانية وأثناءها فيما عُرف لاحقًا باسم «الهولوكوست»، وإنما تعاون معهم عدد كبير من اليهود؛ إما لمصالح شخصية، أو خوفًا من القتل، أو استياء من الانتماء اليهودي نفسه، أو لهذه الأسباب مجتمعة.
وتنوعت صور هذا التعاون ما بين العمل في معسكرات الاعتقال نفسها وتعذيب وقتل شركائهم في العقيدة، واصطياد اليهود والإبلاغ عنهم للشرطة الألمانية، والعمل في وظائف خدمية لصالح الجيش النازي.
يلقي هذا المقال الضوء على إحدى تجارب هذا التعاون، من خلال شخصية يهودية شديدة الدرامية عاشت حياتها موزعة بين ألمانيتها التي تعتز بها ويهوديتها التي تسببت في تعرضها للتمييز العنصري؛ فقررت أن تكون جزءًا من الآلة النازية للتخلص من اليهود، واستعانت بجمالها في إرسال المئات منهم إلى الموت.
هذه الشخصية هي «ستيلا جولدشلاج Stella Goldschlag»، أو«السم الأشقر blonde poison» كما لقبها النازيون، أو«لوريلي الشقراء Blonde Lorelei» كما أطلق عليها اليهود، استنادًا إلى أسطورة ألمانية تحكي عن فتاة جميلة ألقت بنفسها في نهر الراين يأسًا من خيانة حبيبها، وتحوَّلت إلى حورية بحر أغرت الصيادين بأغانيها حتى الموت، وترتبط الأسطورة بصخرة كبيرة تدعى لوريلي تقع على ضفاف نهر الراين.
من الموسيقى إلى صوت الرصاص: نشأة ستيلا جولدشلاج
يذكر الكاتب الأمريكي «بيتر وايدن Peter Wyden» في كتابه «ستيلا: قصة امرأة حقيقية عن الشر والخيانة والنجاة في ألمانيا هتلرStella: One Woman's True Tale of Evil, Betrayal, and Survival in Hitler's Germany» أن ستيلا جولدشلاج ولدت عام 1922م في مدينة برلين لأبوين يهوديين، حيث كان والدها يعمل ملحنا وقائد أوركسترا وصحفيًّا، وكانت والدتها مغنية، وأنها عاشت في كنف أبويها مدللة وتمتعت بحياة رغدة ومترفة رغم الأوضاع الاقتصادية غير المستقرة للعائلة ولجوئهم أحيانًا إلى الاعتماد على صندوق الرعاية الاجتماعية.
كان اليهود الألمان في تلك الفترة مندمجين في المجتمع الألماني؛ فلم تكن معاداة السامية قد وصلت ذروتها بعد، وكان اليهود يعتبرون أنفسهم ألمان قبل أي شيء، ويسمون أبناءهم أسماء ألمانية لا تعبر عن انتمائهم الديني بقدر ما تعبر عن انتمائهم للثقافة الألمانية.
وكانت ستيلا جزءًا من هذا المجتمع، حيث خدم والدها في الجيش الإمبراطوري الألماني في الحرب العالمية الأولى، أما هي فقد ساعدتها ملامحها الأوروبية؛ إذ كانت ذات بشرة بيضاء وشعر أشقر وعينين زرقاوين، على اعتبار نفسها ألمانية في المقام الأول، فضلًا عن أن نشأتها العلمانية قلَّلت من شعورها بالانتماء إلى اليهودية.
لم يستمر هذا الوضع كثيرًا؛ ففي عام 1933م حينما كانت ستيلا في الحادية عشرة من عمرها، صدرت مجموعة من القرارات النازية التي أثرت عليها وعلى عائلتها؛ فقد جرد اليهود من وظائفهم مما أدى إلى فقدان والدها وظيفته في شركة أفلام «جومون Gaumont»، ومُنع أبناء اليهود من التعليم في المدارس الحكومية الألمانية؛ فالتحقت ستيلا في عام 1935م بمدرسة «جولدشميت Goldschmidt School»، وهي مدرسة أسسها اليهود لأطفالهم بديلًا عن المدارس الحكومية التي حرموا منها.
في تلك المدرسة؛ اشتهرت ستيلا بجمالها وجاذبيتها بخاصة بين الأولاد الذين قارنوها بنجمة هوليوود «مارلين مونرو». لكن رغم جمالها وذكائها الشديدين، ظلت تشعر بالحنق والغضب لأنها التحقت بالمدرسة عن طريق منحة دراسية، نظرًا لظروف عائلتها الاقتصادية الصعبة، مما جعلها تستاء من فقرها ومن انتمائها اليهودي إلى درجة أنها كانت تزعم أن والدتها مسيحية.